دلالة المكان والألوان في ديوان “بيت المشاغبَات” لنصّار الحاج
من خلال تسكعي في مجموعة “بيت المشاغبات” بحثاً عن مفردة الليل ودلالاتها المختلفة عند الشاعر نصَّار الحاج استوقفني الديوان بما ذخر به من صور شعرية موحيّة تعكس إبداع الشاعر، في تجربة شعرية ثرة، تعبر عن إحساسه المرهف، وخياله الخصب. أولاً استوقفتني عتبة وعنوان المجموعة (بيت المشاغبات) لماذا؟ فولَّدت لديّ إحساساً بالشغب والضجة والإزعاج ولكن عند ولوجي بين دهاليزه، وجدت رومانسية تسيطر على النصوص، لوحة فنية في معرض عالمي، وتمرداً على الكلمات في جرأة رائعة، وجمالاً يعم جميع أرجاء البيت، حديقةً يفوح منها عطر طالما افتقدناه، عصافير تعزف أنغاماً، تجعلنا نرقص طرباً ونشوةً.
يتميز الديوان بأسلوب جميل، ومعانٍ أصيلة مبتكرة، ولغة موحية صادرة عن وجدان عميق، متوترة قادرة على الإثارة، اُستخدمت فيها مفردات ذات دلالات نفسية وشعورية خاصة، قادرة على تصوير الإحساس، وتكثيف للصورة الشعرية المُعتمدة على المجاز والانزياح. توسل الشاعر في إبراز كثير من المضامين الوجدانية بمعجم يمتح مفرداته من عناصر الطبيعة الجميلة، الحدائق الغابات، الأشجار، المطر، الجبال، الشمس، النسيم، النهر، الصحراء وغيرها، فتؤثر مظاهر الطبيعة في نفسه وتشكل رمزاً لحقيقة داخلية لديه.
تجربة شعرية رائعة، تحمل إيحاءً رمزياً مكثفاً ناتجاً من لا شعور جمعي يقوم على الاقتصاد اللغوي؛ فالمفردةُ الواحدة ترمز إلى معانٍ متعددة أحياناً، والموقف الواحد يُظهر معانيَ متعددة أيضاً، وهذا يعني اختزالاً على مستوى التجربة الجمعية، أو اللاشعورية؛ فالرمز ليس تحليلاً للواقع بل هو تكثيف له.
النصوص تضج بحضور عالٍ وطاغٍ للمكان، ابتداءً من عنوان المجموعة “بيت المشاغبات”. السبب الذي جعلني أقف عند دلالة وحميمية المكان داخل نصوصه الشعرية.
فالمكان، هو جزء من الإبداع الأدبي، وفيه لوحة إنسانية تظهر بين دهاليزه وغرفه. ولعل المكان من المكونات المهمَّة في النص الشعري في الأدب العربي المعاصر، ولا نقصد بالمكان مجرد الموقع الجغرافي، فالأمر لا يتعلق بوصف المكان وصفاً خارجياً؛ بل يقدم فضاءً للاحتمالات والدلالات والتخيلات. وقد انعكس ذكر المكان في تجربة شاعرنا نصار الحاج، فجاء المكان في معظم قصائده مؤشراً تدور فيه أحداث النص، وينمُّ عن نفسية المبدع لحظة الإبداع.
والمكان هو الذي يخلِّد الحدث في الشعر، حيث يندمج المكان والشعر في قالب واحد. والمكان أياً كان جميلاً أو مقدساً، أو أليفاً، أو اعتيادياً؛ فهو الذي ينطق بأسرار الماضي، ويصوغ لنا الحاضر والمستقبل. ويغوص ويتغلغل إلى أقاصي الذات الإنسانية، ويهز عاطفة القارئ ووجدانه، ويشارك الشاعر بالمشاعر المفرحة حيناً والمحزنة حيناً آخر. والمكان يتجلى فيه قلق الشاعر وغربته النفسية، أو ينجلي فيه المكان الآمن المطمئن والذكريات السعيدة، والزمن المشرق، فيتحوَّل هذا المكان إلى مكان الرؤيا الممزوج بالبركة والقداسة والانطلاق. أو يكون عكس ذلك، حيث يرتبط بالذكريات الحزينة، وبالزمن النفسي الحزين، فيشعر الشاعر بثبات المكان، وثقله، وبذا يتحول المكان إلى قيد ثقيل.
القرية:
ومن أول الأماكن حضوراً في “بيت المشاغبات” القرية: ولعل عالم القرية يمثل لدى الشاعر فضاءً أثيراً، وسر ولعه بالقرية يعود إلى معايشته لها منذ طفولته الباكرة، فقد عاشت القرية في دمه، وسكنت عقله وقلبه، وحركت ذكريات أشجانه، وألهبت مشاعره، لذلك جاء شعره لوحات فنية مستقاة من الواقع الذي عايشه، وتأثر به، قال في نص “رحلة ” “1”:
في قريةٍ على شُرفةِ النِّيلِ
أراقبُ السماءَ والعصافيرَ
وليلةَ الأربعاء من شهرِ مايو الأخيرِ
البناتُ يوزعْنَ الزَّغاريدَ
يلعبْنَ في الشوارعِ
كسائحاتٍ يغازلْنَ الرِّمالَ
يزرعْنَ الليلَ بالأغنياتِ
وقتَها
كنتُ على حافةِ الشوقِ أُشيّدُ الضوءَ بالذكرياتِ.
جمع الشاعر بين المكان الاجتماعي، حيث أهل القرية الرابضة على شرفة النيل، وصورة البنات يلعبن في الشوارع، وصوت الزغاريد تملأ فضاء المكان، صورة الفرح، وصورة المكان الطبيعي حيث النيل، والسماء والليل، والعصافير والفضاء الرحب.
الضريــــح:
من الأماكن التي ارتبطت بالقرية، وأكثر الأماكن حضوراً في مجموعة بيت المشاغبات “الضريح” الذي أورده الشاعر عدة مرات، وهو عبارة عن غابة مليئة بأشجار السدر وأشجار الحراز، حيث كانت مرتعاً لأيام الصبا الجميلة، وقد أطلق عليه الشاعر اسم الضريح إشارة لود الطريفي في القرية. وهي الحديقة الوحيدة في القرية. يقول:
ثَمَّةَ حكاياتٍ عابرةٍ
الكهفُ الذَّي يفتحُ بوابَتَهُ. المكانُ الذي يأوي الذِّكرياتِ. المشاويرُ التي أزْهَرَتْ بين الضّريحِ والبيتِ. الضريحُ الذي أزهرتْ به أشجارُ السّدرِ المثمرةِ. الضريحُ خازنُ الأسرارِ والنذورِ الباذخةِ. الضريحُ هو الحديقةُ الوحيدةُ في بلدتِنا.
يعود تكرار الضريح إلى مكانة تلك الحديقة وحميميَّتها في وجدان الشاعر، حيث ذكريات الصبا، والأيام الجميلة التي قضاها الشاعر في لعب ولهو بين أشجارها، وما حوته من أسرار مع رفقاء الصبا، فالضريح هنا مكان له قداسة خاصة لدى الشاعر، ويرتبط الضريح في ثقافة المجتمع السوداني بأولياء الله الصالحين والتبرك به، فقدم الشاعر هنا مشهداً زاخراً بالحيوية والحياة، للمكان الذي يأوي الذكريات، والأسرار، الحديقة التي أطلق عليها “الضريح”.
والملاحظ في ديوان “بيت المشاغبات”، حضور المفردة ذات الماهية الريفية، حيث تمثل الحنين إلى الطفولة، والحياة البريئة اللاهية، وذلك العالم الفطري الجميل. فضلاً عن ذلك، نلاحظ تأثر الشاعر بما نشأ عليه من عادات اجتماعية ومن ذوق يتعلق بالبيئة، فترعرعت لغة الشاعر على نسمات الريف الأليف، واختزنت من تلك البيئة، الصور والمفردات الممتزجة بذكريات الطفولة وزقزقة العصافير.
البيــــــــــــــت:
يمثل البيت المأوى الوحيد لمستودع الذكريات في ذهن الإنسان الذي أمضى زمناً طويلاً من عمره بين أحضانه، فهو مهد الطفولة وذكرياتها، وهو مسرح الشباب وعنفوانه، لذلك نجده أكثر التصاقاً بالإنسان، كما نرى فيه الانتماء الشديد الذي تُظهره النفس الإنسانية، وتكُنُّه لذلك المكان، الذي أصبح مرآة الإنسان، وهاجسه الذي يراوده في كل لحظة، لذلك جاءت قصيدة “البيت” حنيناً دافقاً حين قال:
الكونُ
الذي يشتهي بيتاً واحداً
على شارعٍ
تمرُّ عبرَهُ كائنةُ الإشاراتِ
صفّفَ الحزنَ
وانتظرَ
كسحابٍ أزرقَ يغازلُ الضوءَ
كعاشقٍ عطّرَتهُ المدنُ بأشواقِ العناقِ
كطاولةٍ في بيتٍ صغيرٍ تحتَ الأرضِ
يرصدُ الشارعَ
برغبةِ العيشِ على شُرفةِ البيتِ الأليفِ.
البيت هو المكان الأليف الذي يرغب شاعرنا العيش فيه، فهو صانعه والمتسكع في جوانبه؛ فالبيت يحتل أهمية خاصة، لأنه مكان للحماية والأمان، حيث يحمل صفة الألفة، وانبعاث الدفء العاطفي، “2”
كالضوءِ تَطْلَعُ مِنْ يَنَابيعِ السَّمَاءِ
لِتَغْرِسَ وَرْدَةً بَيْضَاءَ
في رَمْلِ الْبُيُوتِ الَّتي ظَلَّتْ تُنَادينَا
فيظل حنين الشاعر دوماً إلى رمل البيوت، التي تناديه شوقاً لرؤيتها، والشعور الذي يكنه الإنسان لمأواه الأول، فكل شخص ينظر إلى البيت الأول الذي (يسكنه / ثم تركه) نظرة مختلفة، ومن هنا نبكي عندما نغادر المكان بعد طول إقامة، إلى مكان آخر، وإذا سألنا أنفسنا لماذا نبكي؟ لأنه سوف تُدفن ذكرياتنا في هذا المكان، إن الأمكنة هي نحن، وهي جزء من تاريخنا “انظر جماليات المكان في الرواية العربية 44-46.
تفاصيلٌ كثيرةٌ تعيشُ في هذا المكانِ
سريرٌ فارغٌ
رسوماتٌ على الحائطِ
كتبٌ
وأوراقٌ مبعثرةٌ
تملأُ الفراغَ في البيتِ الذي صارَ مأوى الأصدقاءِ
ومن ارتباط الشاعر بالبيت حيث الألفة:
على أريكةِ البيتِ
أشهدُ الساعةَ البيضاءَ تمشي بطيئاً
تُضيءُ المسافةَ
في المجرّةِ الأبعدِ من خاتمةِ اللَّيلِ
تزيحُ العتمةَ من جهاتِ البيتِ الأليفِ
وقال في شوق وحنين عاشق، كذلك:
كَتَبْنَا أُغْنِيَةً للأرْضِ تُبَارِكُ رَكْعَتَنَا في الْبَيْت
الْبَيْتُ بَعيدٌ جِدًّا عَنْ أكْوَاخِ الْغُرَبَاءْ.
ولكن لم تظل هذه الحميمية والألفة، تسكن الشاعر، فهو يعيش بجسمه بعيداً، وفكره وروحه كله هنا، إذ أن الموطن بكل ما فيه قد أحاط الشاعر روحاً، وابتعد جسداً عن بيته، بيت الأصدقاء صار مأوى للعناكب والطير:
الغرفةُ
أوصَدَت نوافذَها
البيتُ الذي كانَ مأهولاً بالأصدقاءِ
تصدّعتْ أبوابُهُ
صار مأوىً للعناكبِ
والطيرِ
والحيواناتِ
وكذلك يرتبط البيت بوجود المرأة، فهو يمثل أمنية حلوة للمتحابين، وضرورة لهم من وجه مخصوص، وهو الاختلاء بالحبيب بعيداً عن ضجيج الحياة الصاخب ورقابة أهلها الصارمة.
امرأةٌ تُشبهُ البحرَ
تفتحُ الليلَ نحو غابةِ الجنونِ والرَّغباتِ
تعبرُ الأزقةَ
بهلعِ الخوفِ من أصدقاءِ العائلةِ والأقرباءِ
تدخلُ البيتَ
تسحبُ السريرَ إلى غرفةِ الزوّارِ
ترمي على الطاولةِ
نظارةً سوداءَ تتبعها كحارسٍ أمينٍ
فأدوات التعبير التي يؤشر عليها في هذا المقطع، غرفة وسرير، وطاولة، وامرأة، هي مدلولات للبيت، ومكان وجودنا؛ فالمرأة تضفي بوجودها على المكان قيمة للحياة والجمال في الوقت نفسه.
هنالك الكثير من مرافق البيت التي أوردها نصار الحاج في ديوانه، منها: الغرفة، الباب، النافذة، الشرفة. وقد أفرد للباب نصّاً كاملاً؛ فهو المدخل الطبيعي للمكان. يقول شاعرنا في قصيدة الباب الأخير:
البابُ
مغامرةٌ على أوتارِ الفراغِ
البابُ الذي يفتحُ
العشبَ نحو نافذةِ الشّمسِ
*****
هو البابُ الأخيرُ
البابُ الذي يكشفُ الكونَ في ساعةِ البيتِ
*******
البابُ ظلَّ مَفْتُوحَاً
على بهوٍ عريضٍ في القصرِ العتيقِ
*****
وممّا يثير الاهتمام لدى شاعرنا التكرار الملحوظ للباب، فهو يحمل إيحاءً عميقا، ورمزية جميلة، في باطنها حرية مطلقة، تعبر عن رغبة داخلية ملحة بين جوانبه، للتعبير عما في نفسه وفكره حيث التحليق في فضاءات وعوالم وحرة بلا قيود وأسوار، وهي تمثل صدق المشاعر والعواطف التي يلقي عليها أضواء قلمه.
النافـــــــــذة:
ومن أهم مرافق البيت التي وقف عندها شاعرنا كذلك النافذة، واهتم بها كثيراً لأنها من أقرب منافذ البيت على العالم الخارجي؛ فالنافذة تعد وسيلة تُلغي المسافات والحدود، من خلال تمكينها لساكني البيت من الاطلاع على ما يدور خارجه، فالنافذة تمنح ساكنيها قدرة على تواصل من نوع ما، فهي تمثل توسيعاً وإضافةً للمكان، ويتوفر ذلك من قدرتها على إحضار العديد من المناظر والمشاهد وهي دلالة على حرية قادمة. قال:
نافذةٌ مطلةٌ على الشَّارعِ العريضِ
تفتشُ الطريقَ والممراتِ
وقال مرة أخرى: في نصِّ بحبرٍ مغشوش وقلم مدبب وسميك:
النّافذةُ مفتوحةٌ على الشارعِ
والمدينةُ
وقال كذلك:
نافذتانِ ترقُبانِ الشارعَ القريبَ
جسدٌ يطفحُ بالغيومِ والأسرارِ
وغير إلغاء النافذة للمسافات والحدود، ونقلها لحركات وأحداث الخارج، هي منفذ كذلك لحركة النسيم وعطره، ورائحة العشب التي تنفذ من خلال النوافذ والشبابيك.
يقول نصّار في قصيدة “فينوس”:
في آخرِ اللَّيلِ
تفتحُ الشبابيكَ لرائحةِ العُشبِ
وهنالك الكثير جداً من مرافق البيت التي أوردها نصار في ديوانه منها، الغرفة، الأريكة، الشرفة، الطاولة، السلم، الدهليز، الممر… وغيرها.
وتكاثفت في نصوص الديوان عناصر الطبيعة المختلفة من غابات وحدائق وشمس وقمر وليل. وكان لمفردتي الليل والقمر مساحة واسعة في الديوان، حيث مثلتا عند الشاعر بؤرة جميلة عكست حبه لليل، الذي يخلصه من صخب النهار، وافتتانه بالقمر حين يضيء ليلاً. يقول:
هنالكَ برفقةِ القمرِ الوحيدِ
نوقظُ الليلَ
والمساندَ
والفوانيسَ
هكذا الليل، حين يكون القمر مزهواً، يضيء الكون، فهو يعني حياة كاملة تتدفق كنوافير الفرح، حياة مضيئة كأنها تأتي من الأعالي كضوء القمر.
تحتَ خيمةِ الرُّوحِ
قمرُ المدينةِ الضَّائعِ
يبدّد الحزنَ من تنهيدةِ الأُنثى
تميز الديوان بتعدد الألوان ودلالاتها. إن الألوان في الأدب سواء كانت شعراً أم نثراً، تؤدي دوراً إبداعياً في توضيح المعاني وتجسيمها. ويضفي الوصف اللوني والضوئي، على النصوص حركة وحياة تقربها من النفس والروح. إن الألوان توحي بالانسجام أو الصخب، وبهذا تبدو تمثيلاً حسياً لدواخل الشخصية وأفكارها، وانتقائية الشاعر للألوان في نصوصه ترجع إلى مزاجية تفرضها طبيعة الموقف، أو التجربة الشعرية، إذ أن اللون إحساس يثير حركة جمالية، فتأنس النفس البشرية، ببعض الألوان، وتنفر من أخرى.
ويُعدُّ اللون الأبيض في مقدمة الألوان التي استعملها شاعرنا نصّار الحاج، في ديوانه، يمثل اللون الأبيض الضوء الذي لولاه ما كانت رؤية الألوان ممكنة من دونه، فكل الألوان متضمنة في اللون الأبيض، فهو مكون من حزمة من الأشعة ” –اللغة واللون ص11،12.
واللون الأبيض من الألوان التي تشعر بالهدوء والطمأنينة والاسترخاء، لذلك تعددت دلالاته في “بيت المشاغبات”. يقول شاعرنا في قصيدة فينوس:
مثلَ وردةٍ بيضاءَ
في آخرِ اللَّيلِ
تفتحُ الشبابيكَ لرائحةِ العُشبِ
حيث يرسم لوحة جميلة للوردة البيضاء التي تحمل رمزية الفرح، والصفاء، والمنظر الجميل الذي يشرح قلب العاشقين.
ويسيطر اللون الأبيض على كثير من النصوص:
في الليلةِ الأخيرةِ من تفاحةِ الخصبِ
التي تحتاجُ لقمرٍ جديدٍ
يفتحُ شهوتَها على خِرَقِ الضوءِ البيضاءِ.
فإطلالة الضوء الأبيض في عتمة الليل تمثل انتشاراً واسعاً للضوء الأبيض، والإضاءة التي يبحث عنها الشاعر هنا ليست إضاءة خاصة، إنما يقصد إضاءة عامة، طبيعية تصدر من ضوء القمر:
في اللَّيلِ
يكشطُ قمراً واحداً ليضئَ بأحجارهِ
دخانَ المسافةِ
ويقول كذلك:
فتحتُ نافذةً بجانبِ القمرِ
وبرهةً
تُضيءُ غُربةَ المكانِ
فالمعروف عن اللون الأبيض اقتران ذكره بضوء القمر، الذي يتصف لونه بالطاقة والنور والبريق الشفاف، واللون الأبيض اختاره شاعرنا تعبيراً عن دافع نفسي، حاول من خلاله أن يحمل الهدوء والسكينة محل الاضطراب، عندما حاول الوصول إلى الغرفة البيضاء، حيث الأماني الصافية، فقال معبراً عن ذلك:
البابُ
مغامرةٌ على أوتارِ الفراغِ
كائناتٌ قليلةٌ
تعرفُ الطريقَ إلى الغرفةِ البيضاءِ
فالشاعر يرى في اللون الأبيض إشعاعاً جميلاً، ولوناً باهراً يُزيل العتمة التي اكتنفت بيته الأليف، فيشع النور والضوء من هذه الساعة البيضاء، فيزيل عتمة بيته الأليف. ولعل في ذلك رمزية وشوقاً إلى بيت ابتعد عنه.
على أريكةِ البيتِ
أشهدُ الساعةَ البيضاءَ تمشي بطيئاً
تُضيءُ المسافةَ
في المجرّةِ الأبعدِ من خاتمةِ اللَّيلِ
تزيحُ العتمةَ من جهاتِ البيتِ الأليفِ
ويواصل شاعرنا في استلهام اللون الأبيض ودلالته، لون الإشراق والحياة والسمو، لون الثلج، فاللون عنصر أساسي في تشكيل الصورة لدى شاعرنا؛ فهو ركن أساسي من أركان التصوير الشعري، حيث قال:
” أميرةُ الثلج”
تِلْكَ الأميرةُ الَّتي تَنْسَابُ عَلَى الثَّلْجِ
كَحَمَامةٍ خَفيفَةٍ تَتَزَحْلَقُ في الْبَيَاضِ
تَهْبِطُ بِرِقَّةٍ في سَمَاءِ الْجَليدْ
أيْقَظَتْ أُمَّهَا مِنْ دُمُوعِ فَرْحَتِهَا الْمُفَاجِئَة
عَانَقَتْهَا بِلَهْفَةِ الثَّلْجِ
فلون الثلج لون البياض، رمز الفرح، وشبه الأميرة بحمامة بيضاء تتزحلق على البياض، فالتكثيف للون الأبيض، يحمل جمال نفس الشاعر، لأنه لون الوضوح والوفاء والعفة والنقاء.
ومن الألوان الأخرى التي لا تقل أهمية عن اللون الأبيض اللون الأخضر، وهو ثاني الألوان استعمالا في هذا الديوان. يعد اللون الأخضر “من أكثر الألوان في التراث الشعبي استقرارا في دلالته، وهو من الألوان المحبوبة، ذات الإيحاء، والمُبهجة كاللون الأبيض، ويبدو أنه استمد معانيه من ارتباطه بأشياء مبهمة في الطبيعة كالنبات، وبعض الأحجار الكريمة كالزمرد والزبرجد “اللغة واللون ص211.
اللون الأخضر لون جميل يعني الحياة بكل ما تحمله من مظاهر الجمال، فهو لون يريح العين لون الطبيعة، والخضرة، لون الحقول، لون الأمل، يبعث فينا البهجة والدفء والتآلف، وهو لون التجدد والنهوض، وباعث على الطمأنينة والسكون، يوحي بالراحة يسمح للوقت أن يمر سريعاً، ويساعد الإنسان على الصبر، لون الخصوبة والنماء. إنه لون الشجر، والخصب الوفير:
أنَّ الجنينَ يشتهي التُّرابَ
كي يُمسكَ الأرضَ بأصَابِعهِ الخضراءْ.
ويقول نصار في نص خصوبة:
تلدُ الحنانَ
والتربةَ الخضراءِ.
فاللون الأخضر من أكثر دلالته لون الشجر، الذي يزين التربة فتصير خضراء، فتلبس حلة زاهية ونضرة.
ومن افتتان شاعرنا بالطبيعة الخضراء نجده يكرر اللون الأخضر في نصوصه كثيراً فيقول:
أخضرُ هذا السفحُ
يسيلُ تحته السحابُ
فقد تشبعت ذاكرة الشاعر نصّار الحاج الإنسانية باللون الأخضر ودلالته المتعددة، فتشبع به، ووسم نفسه بذلك اللون الأخضر، حين صار ولداً أخضر، خرج من غابات السافنا:
تُخْرِجُني
وَلَدًا أخْضَرَ مِنْ شَجَرِ السَّافَنَّـا
يَكْرَعُ قَمَرًا عَاجِيَّـا
ولقد وظف الشاعر المفردة اللونية الخضراء معبِّراً بها عن ابتسامة خضراء تثير الدهشة في نفسه، ابتسامة خضراء تحمل أملاً أخضر. ترفرف فرحا وسعادةً حين وصف ابتسامة جميلة:
ذهبتْ وحدَها وأهدتني وردةً حينما قابلتُها في حافلةِ الطلابِ
وهي تلوّحُ للعابرينَ بابتسامة خضراءَ.
وجاء في نص عبور:
تَحْتَ نَعيمِ الشَّجَرِ الْمُثْمِـرِ
يَعْبُرُ مَفْتُونًا لِصَبَاحِ الْعُمْرِ الأخْضَرِ
هنا نلحظ من الوهلة الأولى انفعال الشاعر باللون الأخضر، تحت نعيم الشجر الأخضر المثمر، ويصف صباح العمر باللون الأخضر، تفاؤلاً بالشباب الأخضر، ربيع العمر المتجدد، فاللون الأخضر يضفي على نفس الشاعر إحساساً بجمالية الحياة، فقرن شاعرنا هنا نعيم الشجر المثمر، بصباح العمر الأخضر، حيث اتخذ دلالات الحب الأخضر من تلك الشجرة المثمرة، ورمز الحب المتعارف عليه هو التجدد، والحب المتمثل في عطائها المتدفق. إن الحياة تبقى مخضرَّة، وسعادتنا بها خالدة، كخلود الخضرة في النبات والأشجار.
ومع هذا اللون الأخضر الذي يلون الحياة، هنالك مطر أخضر ينزل من السماء، يحمل وعدا أخضرَ، يقول نصّار:
أُنْثَى قَالَتْهَا الأرْوَاحُ عَلَى مَرْكِبِ أشْوَاقِ الْبَحْرْ
نَادَتْني بِجُمُوحِ الْمَطَرِ الأخْضَرِ
المطر الأخضر، يبشر بقدوم الخضرة والهناء والخصب.
هكذا الخضرة برموزها المتعددة تدل على الحياة والجمال والخلود والأمن والصحة والحيوية، تلك الدلالات التي يختزنها اللاشعور، كموروث تراث إنساني، تجول في الذاكرة بمجرد ذ كر المفردة اللونية الخضراء.
ومن الألوان البارزة في هذه المجموعة اللون الأزرق، هو لون القوة والهيمنة، لون الهواء والفراغ والبحر والسماء، هو لون الهدوء، والسلام والارتياح، فيه صفة الطهارة وعدم الخضوع. وكان للون الأزرق حضور بارز في مجموعة “بيت المشاغبات”، ولم يقف استعماله على دلالة واحدة، إنما تعددت دلالاته من مقطع لآخر.
يقول الشاعر:
تحتَ الأجراسِ
صوتُ موسيقى
يتسرَّبُ هادئاً
من حناجِرِ المراهقاتِ في ثيابِهِنَّ الزَّرقاء.
فقد شبه صوت المراهقات اللاتي يتوشحن بهذا اللون الأزرق بموسيقى هادئة، فما ألطف العلاقة بين هدوء الصوت الموسيقي، وانسجامه مع اللون الأزرق الهادي المريح! وهي رؤية جمالية رائعة مزج فيها بين الصوت واللون في مقطع واحد.
وفي مقطع آخر يلون شاعرنا أحلامه باللون الأزرق حين يقول:
أكْتُبُهَا الأشْوَاقَ
عَلَى أرْواحِ الصَّوْتِ الدَّافِيء
أُغْنِيَةً تَشْرِقُ مِنْ تَحْتِ سَمَاءِ الأحْلامِ الزَّرْقَاءْ.
لوحة شعرية رائعة تفيض فيها أشواق شاعرنا، فيكتبها على أرواح الصوت الدافئ، أغنية جميلة فرحة، متهللة، تشرق من تحت سماء الأحلام الزرقاء. فهي فضاء واسعة تنشر أشواق بلون الفرح والسحاب والماء.
وفي رؤية فنية جميلة أخرى يقول:
صفّفَ الحزنَ
وانتظرَ
كسحابٍ أزرقَ يغازلُ الضوءَ
كعاشقٍ عطّرَتهُ المدنُ بأشواقِ العناقِ
صورة مدهشة للسحاب الأزرق الذي يغازل الضوء، ترى الحسن كامناً فيها، فمن ينكر جمال الأزرق حين يغازل ضوء القمر.
يقول نصّار:
السَّمَاءُ الَّتي رَصَفْنَا زُرْقتَهَا بِالسَّهَـرِ
لوّنَتْ رَمَادَ الأرْضِ بِالْفَوانيسِ
إن اقتران اللون الأزرق بالسمو والتفرد وامتداده اللامتناهي، وآفاقه الواسعة، يضفي ملمحاً جمالياً، ويصبح رمزاً لشعور نفسي تحسه ذات الشاعر.
وقد أورد اللون الأصفر مرة واحدة في قوله:
في الرمالِ الصفراءِ
شجرٌ متوحشٌ
يكتفي برطوبةِ القاعِ البعيدِ
مثلَ جسدٍ جفّفتهُ الغربةُ في مدنِ الصّفيحِ
اللون الأصفر هو لون رمال الصحراء، لون الشحوب، واصفرار الورق حيث تعاني الأشجار في الصحراء، لذلك تتميز بصفات معينة حتى تتأقلم مع صعوبة الصحراء، والصحراء من الأمكنة التي هي مثار خوف وضياع، ومبعث فقد، وهلاك وجذب، لذلك شبه حالة الغريب عن وطنه، بذلك الشجر الموحش الذي ينمو في الصحراء للماء، فهو بعيد عن وطنه وعن خضرته المورقة التي تثير في النفس الشعور بالأمن والراحة النفسية.
وفي ختام حديثنا نقول: إن مجموعة “بيت المشاغبات” حوت كثيراً من الصور الشعرية الجميلة، التي اعتمدت على الإيحاء والرمزية في بعضها، وانحاز الشاعر إلى الطبيعة بوصفها رحماً بريئاً آمناً يهرب إليها من وطأة المدينة. كذلك اعتمد الشاعر في بعض قصائده على تقنية السرد، التي أفادها من الفن القصصي، ولا يسمح المجال هنا لبسط الحديث عنها. فكانت المجموعة تجربة شعرية صادقة، وعميقة، وناضجة، اختمرت وانصهرت في نفس مبدعها، تحكي رهافة الحس وجمال البوح الشعري.
* كاتبة من السودان