تعقيد في الفراغ

في درس الكيمياء السابق لأوان العُطلة بساعة، تحمستُ للمغيب.. تحيزت مقعداً قصياً.. مأهولاً بالأتربة.. به حرفان لا طائل من تخمين حقيقة كاتبهما. حين جلست.. وقعت عيني على حذائي، بمصادفة -شبه متعمدة- تحملقت في تشكل الحذاء، احتوائه قدمي دون ترديد للألم، كان طرف الحذاء أصغر من المحتمل، أضيق من أفقي الآن، تذكرت إصابتي في مقدمة قدمي -اليسرى-.. تحسست طرف الحذاء -برفق نبية- أخرجني من التحملق صوت طالما عنى لي المبيت زهواً بغرابة الاندهاش.. سمعته كمناجاة بعيدة: لأجل قد يسمى قد نلتقي، حتى مجيئه.. أحسنوا التواطؤ والذات.
لسبب مبهم.. تخيلت منطادي الفاقع الشسوع، امتلاءه بفوضاي، أصابع السجائر التي طالما وددت انتهاكها تنفساً، ولم تقوَ شفتاي على المبادرة، فتركتُها هنا؛ علَّ التحليق يسع رئتي، واجترار النيكوتين نخباً نقياً.. رسمت منطادي بلون الـلا يهم.. فيه أقيس الفرح بالغيم المتداخل دون إلحاق أثر بهكذا منطاد متخيل، وضعت فيه أيضاً “مكعبات الثلج”، وحدها تعينني على توالي الاضطراب، في وعيي الآخر.. تداركت معضلة “الثلج ذائب لا محالة” لأمتعض.. من فوري تشابك وامتعاضي الصوت نفسه الذي يمنعني “سخرية الطيش”: الحدس عامل تقريبي في الحياة، قابل للتحول بشكل مُحبط وفانٍ. الحدس أغرقني في الجليد، تحمَّست لرؤية بطاريق، تُغدق أرجلها في برودة اكتمال التكاثف جليداً، هيئتي العينية عند الأرق “الجليد.. روح السماء الباردة” خبأت ابتسامة لبطريق وليد، واقع في حضن التألف حديثاً، أنيق في بذلته الطبيعية. في منتصف درس الكيمياء، قبل نصف ساعة من المغيب.. رأيتني قابعة في منتصف حلقة قوامها بطاريق تطؤ الجليد.. فيستكين وداعة.. أكثرها عمراً – حسبما تشكل في لاوعيي – خطوه مغدق في الإمهال الرشيد.. جرجرني الصوت حيث يصدر: الجزيئات، تعمل معاً لتخلق ما نعرفه كوناً نستلذ بتفتيته فكراً.
عقلي يتراجع مستذكراً جزئيات عالمي الروحي، المنطاد – الـلا يهم لونه الثلج الموشك على الإذابة، أصابع السجائر المتروكة للتحليق، البطاريق المبعثرة على الأخدود الجليدي.. وإصابة قدمي اليسرى الخابئة في الضمود. خلعت حذائي ببطء، لامست إصابتي القديمة “تذكرت الدرَّاجة – منبت إصابتي – تهوري حين آثرت الركوب خلفاً، حيث أمطرني انعدام التوازن بالخدر” إصابتي البعيدة الحدوث، خبأت لديّ أثراً فقيراً بالحنو، حنو للانقياد طفلة مصبوغة بالفوضى، الجدائل المبعثرة، فستاني قصير القامة، مواقيت البكاء السقيم، تحديقي لمسار الماء الأحمر بالوجع، بتراجع وديع للتراجيديا المتواترة، تقمصت موسيقاي العتيقة المعنيَّة بحياتي الحافية، مأوى الذاكرة المؤقت، رفيقة الكرز المتهدل، أديرها بتتابع دامغ داخلي، أستميل جملة رقيقه (لا بأس أن تكوني أجمل مما يجب)* فكان أن كدت.. حتى رأيتني أغدق التجمع باللوسين المعطر، أستشفي من هكذا تمادي باعتباطية الـ”جمال خصلة فرادية لا تحتمل.. لا طاقة لي بالتلاشي في لا منطقية الجمال”، الصوت المزعج تارة أخرى: الروح.. الأم الرؤوم بالعقل، إذ تستقيم.
عقلي يتدثر بالتقوقع، أتمنى اللاتواجد هنا؛ حيث مقعدي القصي، المأهول بالأتربة، معطوبة الاستحضار لهكذا تفقه -لزج عن التعقل.. بيد أني أجزم بأننا “ككون مسكوب الخبايا”، فكرة سوية في خاطر الإله، لكنها -بسخرية مفرطة- فكرة متخيلة وساذجة الحدوث، أن أكون هنا في وضع مشابه لكآبتي الآنية، أتخيل منطادي الـلا يهم لونه.. بطاريق الجليد المتعطن في البياض.. أجزم أني لست كائناً وجودياً.. إني صورة لعالم الفكرة الافتراضي، مجرد انعكاس لتصور الإله “حيث إن وجد الحائل كنت أنا محض انعكاس كئيب”.. وإني تعقيد طريف في الفراغ.. أتحلق في كسر من الخواء الكوني وإني تحديدا – دون تفصيل للبقية – أتدلى كنجفة من يد الله..
ــــــــــــــــــ
الجملة ما بين القوسين مقتبسة من نص لطلال الطيب.
*قاصة من السودان