الزفافي
“لأن الشمس كانت تعرض نفسها كالطاووس فوق الحائط بدل أن تُسافر على ظهر شجرة”.
ـ رينيه شار
يرعبني هذا الصباح الحريف، المتاهي الماكر، يرعبني رُعب من يُهمِّس شاعرِهُ الذي يُكابد الاندساس من العالم بين اختلاجات شعرهُ الراعِف بالوجود والقصائد معاً. فإذا كان الشاعر لا يقوى على تقشير برتقالة الرب التي تُلاهي، في أوَّج النضوج، شفقها الخمري المُهتَّز بين الحضور والأبديَّة، مضغاً واحتلاباً وامتصاصاً، فذلك لأنه أول من يرى إليها في شكلها الزفافي العاري، وأول من يُصاب بحمى ارتعاشات شفقها المُهتَّز. فهو في وهج شفقها الشهي، الضَّام الحاضِن، يبذر بذاره الحالم في اللامرئي، ويمتَّص عُصاراته، عابراً سماءٍ أخرى لأبديِّةٍ أخرى. ولأن الشعر، أيضاً، يسبق اللغة بومضتين وجناحٍ واحد، بمَّسهِ الذي ينسكِبُ كشهوة البرق بين هاوَّيتيَّن ونجمة. فليس الشعر لغةً، نسجاً في أحابيلها ومتاهاتها المُلغِّزة، ولكنه كاشفٌ خاطف يكشِفُ انبثاق الأرواح التي تشِّعُ من أسفل إلى أعلى، ومن أعلى إلى أسفل.
ووحدها شمس رينيه شار الساطعة، التي تُضيء العالم من أسفل إلى أعلى، هي التي امتزَّجت، بمَّسِها واحتراقاتها الراعشة وشُعاعِتها اللاهبة، برحيق شفق البرتقالة المُهتَّز، فاختمرت بصفاء يتصوَّف في بحارٍ من الدَلَعَ. فشعرهُ شعر سريَّانات، تموجاتٌ في انقطاعات أنفاس الموتى في مركب الرَيِق الصاعد فجراً على أمواج الأعالي الزرقاء.
لم يكُن شار إلهاً هارباً إلى دين اللُغة الذي يُقدِّس الشعر ويؤلِّههُ. لم يكُن نزَّاعاً إلى كُلِّ اختراع يُشرعِن للكتابة الشعرية ويمنحها وجوداً خارجياً هو ليس من صميم ملموسيتها المُشبِعة واللاحِمة للداخل بالخارج. فبودلير، الديَّان سادِنُ الشعائري، فرَّ هارباً من العالم إلى خوائيات المُدنَّس بداخله، ورامبو، ملاك الاخضرارات الوثنيَّة، عَبَر العالم كله خارج ذاته، بلا أنا أو كينونة فـ: “أنا الآخر بتمامه الطليق” ـ أو كما قال المشائي الذي تخلَّل رامبو ذات يوم، وعاد بهيدراه العظيمة التي أخذت تنبش تحت دمهِ الأخضر ينابيع أرواحها السبع. فإذا كان الأول يُجسِّدُ شعائريِّة اللايقين في عالم بدأ يتكثَّر فيه الله عوضاً عن كُلِّ أنا تتقصَّى غيريَّتها عبر صحراء الآخر، ونفذ الثاني عبر التجربة الوجودية الحيَّة وعاد مُحمَّلاً بحضورات اللامرئي ورهافاتهِ اللبنيَّة الرَقَرَاقة، فإن شار ظلَّ يُراوِّح الوجود أسفل الينابيع، زاحفاً تحت الأرض إلى جذور فِطرَهَا وعِروَقَهَا، إلى النُسُوغ وخدَرَها المَمَسوس، ليكتسي الشعر معه لَحَمَهُ الحيَّ في جسدهِ المُنتظَر.
وتبدو تجربة شار الشعريَّة هي تجربة الماحِض للوجود وجوداتٌ شعريِّة، مُصفي قيَّامات كيانيَّة إلى سريَّاناتٍ عاريَّة تمتَّص أنخابها من وردة النِخاع الحمراء. وجودات العابر والسابق للغة والشعر معاً، في تزامنٍ يمزج العالم بالزمن. ففي انجراحها العاري والطليق من سطوة اللغة وقوَى الشعري معاً، يتوَّلد الفكر اللاهي اللاعب من حفيف الأشجار وزَفزَفات الطيور. صار الشعر يُفكِّر الوجود في امتلاء العذب وعنف الأليف العابر إلى أشكالٍ صافيَّة من القسوة النورانيِّة. فإذا كان نيتشه قد أحال خواء الوجود البشري عبر العالم، وفيه، إلى فضاءٍ زفافي راقص، ومن بعد أخذ دولوز يرسم بدوره اختراقات الأثيري وتخلُّلات السديمي لهذا الفضاء، فإن شار قد أحال زفزفات الحدوس في أعراس الصيرورة إلى طيور، فصرنا نُفكِّر طيوراً ونُحلِّق طيوراً ونرى طيوراً: صرنا نُفكِّر الشعر عبر طيور شار المُحلِّقة من فضاء نيتشه، الذي يُراقص الذوبان في ذُرى الوجود الصاعد إلى وعوراته الشفَّافة، إلى كون دولوز المُحرِّر والمُطلِق لقواه الغسقيَّة الصافيَّة.
وإن لم تقوَ قصيدة شار، بتمام نقصانها الطليق، على مزج الحضور والأبدية فيتزامنٍ يصَّفي الزمني في اللازمني، ويمتَّص اللامرئي دون عبور المرئي في شغبٍ حالم ومتأمِّل لشعبٍ هادرٍ من الحواس، فإن أشكالها العاريِّة قد مَحَضَت الوجود حضوره الكاشف الأكثر زفافيَّة: بذرت فيه بذار الشِّعر البِكِر وعُصارات المَسِّ المُزهِر.
وإذ يُهمِّس شار الشعر تهميساً، ولا يُكالمه أو يُفوِّهُهُ من أعلى، فإنه يذوِّبهُ في الصمت بالمحو الهدهَاد لخواء الوجود البشريِّ الزاحف إلى غروبه الأخير بلا شمس.
*كاتب من السودان