ثمار

الاستقالة

ملوال

1
فقلت له: “في هذه الحالة ينبغي أن نترك العناد، ونستقيل جماعياً، وننتظر ساعة الحساب”.. كان ذلك السجال في نهايات “الصريم”، وسط عتمة دامسة، وقد اشتدت موجة الصقيع من حولنا، وهو ما جعلنا نتراقص “طواعية” مثل العواجيز في “أنداية” ماما ميري المتاخمة لسلسلة “بارات” الحبش و(الويوي)..  كان الكون ممتلئاً بسكون قاتل، تفسده بين الحين والآخر، الهمسات والهمهمات المخيفة التي ترسلها الريح من مكان ما، ويقلقها أزيز الرصاص الذي يعلو في الجوار وينخفض هنا ويدور هناك في لحظات متباعدة من الدهمة، معلناً تمرداً جديداً على الطبيعة ..

2
كان محدثي ذو الوجه المكفهر، قليل المنحنيات، وشاربه البارز الذي تكاد تكفيه المساحة الشاسعة بين الفم والأنف، قد اختار منذ عودته من “شرق أفريقيا” الدخول إلى السوق ومزاحمة تجار “الدولار”، ولم يكلفه الأمر سوى بضعة أشهر حتى أصبح خبيراً في الحقل، يعرف كل كبيرة وصغيرة عنها ويحفظ عن ظهر قلب مداخل ومخارج “العملة الصعبة”، يُجبرك على الضحك حد الثمالة، عندما يسرد مغامراته اليومية ويدعوك لذرف الدموع حين يحكي قصة حياته البطولية المليئة بالتناقض والتلفيق، فقد ذكر لنا ذات محادثة جماعية أنه قطع الآلاف الأميال مع مجموعة من “الشبان” للانضمام لركب الثورة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وقبلها بوقت قصير قال بأنه كان قد سافر رفقة “عم” له لبلدة بعيدة لحضور مراسم زواج تقليدي لزعيم من زعماء البلدة، في تلك الحقبة من مفتتح العام، وأنه أُجبر على الانضمام إلى الثورة ذات “كشة” في البلدة، وهو ما يتناقض مع قصة “ثورته” الأسطورية. أسلوب حديثه يتميز بالسرعة المتقطعة مثل قطرات الندى على صفق أشجار المانجو في غابات الاستوائية.. فاشل في الإقناع ومتمسك بالرأي، يكثر من الحديث، وقليل الاستماع، يحب النقد، ويكره الانتقاد.. وقد يتطور الأمر معه إلى معركة “حامية الوطيس” إذا تمادى شخص ما في الكشف عن عيوبه.

3
لم يمهلني طويلاً في حديثي، إذ قاطعني وقال: “يا كموريد جون (هكذا دأب على مناداتي) ما ذكرته للتو صحيح تماماً”.. ومن ثم طفق يتأمل واضعاً يديه على رأسه الأصلع مثل صحراء قاحلة خاصمها المطر.. وأضاف بالقول في كلمات بسيطة: “يجب أن تتفادى غضبة هذا الشعب المسكين”.. بعدها انفرد في حديث ملتهب مع ذاته.. ولم أكد أنطق ببضع كلمات لتفسير ما يدور حتى خرج من صمته المريب وباغتني بسؤال مفاده إن كنت جاداً فيما أقول.. وقد خيل لي من وحي تساؤله بأنه لم يكن مصدقاً حديثي منذ البداية.. بسبب “الشطحات” التي درجت على إطلاقها عندما تبلغ بي “الثمالة” حد الجنون، فتلك الخمور الأجنبية المستوردة، باهظة الثمن، لا تحتاج سوى أن ترتشف منها قطرات قليلة حتى ترسلك إلى عالم الفوضى و”الشطحة”. وفي الحقيقة لم أكن أنوي الاستقالة أو حث زملائي على التخلي عن “دجاجتهم” التي تبيض ذهباً.. فهذه اللعبة جميلة جداً ورابحة.. ولم يكن يخيل لنا بأنه سيسير هكذا.. عندما كنا نخطط لها قبل ما يزيد عن العشرين عاماً .
ذلك كان حلماً بدا أقرب إلى الخيال وانتهى في المسافة بين الحقيقة والخيال!!

 

* صحفي من جنوب السودان

زر الذهاب إلى الأعلى