ثمار

الجب

هاشم محجوب

أشـرع باب الزريبة، وأطلق الغنم، عاد وجلس على “عنقريبه” أحس بغمامة دخان، مرّت عليه لحظات غيّبته فيها عن نفسـه، وانقطعت به عن الزمن، ما تعرَّف على الأشـياء حوله، نسـي من يكون، والشـكل الذي كان عليه، كان من الممكن أن يظل في لحظات التوهان تلك إلى ما لا نهاية، لولا أنه تشـمَّم تلك الرائحة، ذلك العطر الذي كان يدنو منه. اسـتعاد إحسـاسه بذاته، وباللحظة، وبالمكان وما يحتويه، تعرّف على الرجل الذي كانه، من الصعب عليه أن  ينسى أنه الحاج عبد الله، فلسـنوات مضـينَ كان هو ذلك الرجل، وسـيكونه  لسـنوات قادمات، ولما تبقَّى من عمره، طالما ظلت لديه القدرة ليميِّز تلك المرأة من رائحة عطرها.
يلقبونها “بالقديمة”، لكنه وبسـبب لونها الذي يميل إلى الخضرة، كان  يسـميها “أم شـليلي” وهو اسم يطلقونه على البطة الزرقاء. تعرّف عليها من رائحة عطرها، من قبل أن تدلف إلى مكان جلوسـه، امرأة كما يجب أن تكون، يتقدم به العمر وتظل هي المرأة التي كانتها، تتزاهى اختيالاً، يغيب عن الوعي سـهواً أو قصـداً، فيعيده عطرها التراثي المتخمِّر إلى نفسـه وإلى العالم. كانت أولى زوجاته، ذلك منذُ زمنٍ قديم، صـبية في رهاق الحلم، بضفيرتين وليمونتين، وكان صـبياً ظريفاً مليحاً،  ضـئيلاً أمام الجمال والوردة. يتذكّر الحاج عبد ألله أول ليلٍ في صـبارة البرد، تحلّب عرقاً، قرّبت أفخاداً ممتلئةً رياً ندياً، ولثغت بأول حروف أنوثتها، وعند الفجر كانت امرأةً كاملة.
الآن ما صـارت إلى الكثير من الاختلاف، فالريح لم تسـتلب إلا بضع وريقات. فما زالت “أم شـليلي” تناضل وتزاحم الأخريات، بوفرة ذيلها وبالألفة الطويلة بينه وبينها، برائحة عطرها الخرافي، وخلطة بخورها السـرية وأريحيتها العفوية. فإن لم تكن تلكم الأخريات هناك، وكانت هي، لكانت كافية ليتعاطى من أجلها أخضر الجنزبيل، ويمسـح بأدمغة الخفافيش أخمصـيه ليهيِّج الباءة.
ربما لو أنها أنجبت الولد، لما كان قد تزوج غيرها ولا عشـق نسـاءً.
خفَّت لمكانه هميمة، لتبشِّره بأن زوجته “أم دورين” قد ولدت. ما انتظرت هدية البشـارة، اسـتدارت عائدة، لكنها ما عادت بكاملها، فقد تركت رشـة من العطر في المكان، ونثرت ورداً. ما أفصـحت عن جنس المولود، فهي تعلم أنه قد تعوّد أن يكشـف عن ذلك بنفسه.
أهرمه توالي السنوات، صـار عجوزاً، بنسـاءٍ حافّاتٍ به، وبذكريات لا حصـر لها، وبهمٍّ يسـتدعي عمراً آخراً لإنجازه، جاءته سـحابة الموت قاصـدة لأكثر من مرة، وتجاوزته، فتجاوز ثمانين حولاً  كحسـو الطير، ما فكّر خلالها في موتٍ يخصـه، كان متغافلاً عن الموت، وكأنما الموت متغافل عنه، فهو ما زال وسـيماً، بأناقة متحفيّة، وبعمامة مخاتلة، وأربعة من النسـاء، أنجبن أشـياءَ يسـميها “كنداكات”، وقد كنّ حصـاد العمر المهدور.
كان يريد صـبيّا “ملكاً” متوّجاً في (الضيْ) والظل بخصيتيه، من أجله كان يقارب نسـاءه بعصـفٍ عاصف وفحولة رعناء، وبشـغف مراهق وتفاني عجوز، متماهياً مع اللذة – رعشـة الحياة العابرة ووترها المشـدود – اللذة والعشـق تلك هما أيقونتاه، وبهما يكون ذلك الصـبي احتمالاً قريباً من اليقين، في أيما مرة يقارب إحدى زوجاته، كان يتصـوّر أنها سـتلفظه لحظة ذروتها. فهو من سـيحمل عنه عبئاً تنوء به كتفاه، بندقية “رمينجتون” من عهود “الهرجة” تناقلتها أجيال، من جدٍ لجد، مع وصـية بأن تظل متوارثة للسـلالة من الذكور.
كان رجلاً حامياً نزقاً، زوّاع القلب للنسـاء، أخفى ذلك، وغبّش العيون، تعلل بحاجته للصبي، فحاز النسـاء مثنى وثلاث ورباع، وترك لهن صناعة وجاهته، يصبغن شـعره ولحيته بالحناء، وينتقين عطره ولون مركوبه وطاقيته ومنديله وعصـاته وتطريزة شـاله.
ما كان يتذكر حكاية عشـقٍ تخص واحدةً منهن، وما تعهّد لإحداهن بعشـقٍ أبدي، وما ضمن لهن الذكرى. فإن حكت إحداهن حكاية عشـقٍ، ادّعت أنه كان طرفاً فيها، فهي إنما تحكي حكاية. فإن صحت فهي حكايتهن جميعاً. فهو ما كان يعرف إلا رواية واحدة للعشـق، تزدحم سـرديتها بالصُدف، صدفة تغازل وقاره امرأة، جزيلة الجمال، أكثر وهي وقورة أيضاً، لكنها من الممكن أن تدخله النار. وصدفة تنظر عيناه صبية، سـامقة ناعمة، مجدولة السـاقين, يكشـف ثوبها ثناياها، تعجبه وفرة أشـيائها – فهو إنما تعجبه الوافرات – تروق له، يكلّمها، فتزجره. لا يكون ذلك آخر عهده بها، فهي سـرعان ما تسـير إلى مخدعه في زفّة، وفي بهمة الليل يعرّيها، يتلمّس حرارة جسـدها، وعبق عرقها، وينتهي بهما الحال وهما يرتشـفان في تداخل جسـديهما ورداً.
وهكذا تزوجهن جميعاً، وضمن أن ليسـت لإحداهن حكاية تخصها لتحكيها.
ما كان لهن همّ سـوى أن يفكِّرن في وجاهته وفي اللذة. أقدمهن “أم شـليلي”، المخضرمة، فقد حدث وأن كانت امرأة زمناً طويلاً، لديها الكثير من الأسـرار المخبوءة، وما كانت سـخية البوح إلا في مخدعها ولحظة لذتها ومع دخان بخورها، فذلك أوانها وحينها.
“حنّاية”، متوقّدة القلب، مشـاكسة، بصدرٍ متذمر، وعينين كالخرز اليماني. يحب “ثاء”  “سـينها”، وَهَنَةَ في شـفتها العليا، وجَفَنَةَ مملوءةً مديدة حلبة قريبةً من مخدعه “كراع عنقريب”.
“قالدة”، ثرثرة من التنهدات، إذا مشـت اِنبَهرت، تجثم عليه كأنما طائر زَخَمَ على بيضه للتفريخ. تتلذذ بزغاريد خافتة، وتتأوه وجعاً لذيذاً، وبالتنهدات توثّق لذاك الهزيع من ألليل.
“أم دورين” ما كانت تجيءُ لمخدعه، لعزةٍ وغنجٍ حريفةً فيه، يفاجئها.. كما تدّعي.. وتلك كذبة صغيرة، فهي تعلم حينتها. تكون في عاديتها، تلاعب بلسـانها فلجةً بين سـنيها، وتواري بفوضى شعرها نهديها العاريين. تتفتح، تزهر، فيشـبع حضنها بالمسـرة، ويتوّج أشـواقها ملوكاً. كانت أحدث زوجاته، صبية فتية، جهداً وعرقاً ولهاثاً، تزوجها ببدهةِ كشـف تجلّى فيها “الملك” على صفحة وجهها الناعمة، أَخزته، وجاء بكرها بنتاً.. الآن تنجب الثاني.
ثَمَدتهُ النسـاء، وقد ذوت الليالي غراسـاً، وما زال الملك متنائياً، وما عاد هو سـوى نمر عجوز برائحة غابة عتيقة، عاجزاً عن العدو والتوثب. اسـتعاض عن ذلك بمكر العجائز وخبثهم، وقد صيّره تداول السـنين غامضاً، متآمراً، وبقدرة خارقة على تشـكيل الأشـياء إلى صـور الخرافات والأوهام ألتي يتخيّلها.
تلكم “الهبابات” كن يؤججن ناراً يغوينه بدفئها، فيصطلي بها، يجرجرنه إلى المحرقة، فيحترق. وما أزهر غرس التمني، تناسـى الموت، لكنه في مكانٍ دفين في داخله كان متوجسـاً من انقضاء الزمن، ومن أن يجد نفسـه يوماً في عالمٍ غير هذا العالم. وتظل تلك البندقية مركونة داخل صندوقها الخشـبي في مخزنه القديم.. ما عاد يتحرّى سـوى الخيبة.
في لحظات إحباطه وانتظاره العبثي، أضمر أمراً، وتأهّب “بملك وكتابة”، مسـتعيداً بهجة احتفائه بكسـبها وهو صبي.
وكانَ مترصداً لأيما مولود تنجبه إحدى زوجاته.. جاءت “أم دورين” أولاً.
نهض، انتعل مركوبه، تحسـس طاقيته على رأسـه، خلّل بأصابعه لحيته المصبوغة بالحناء، مشـى في اتجاه غرفة “أم دورين” نَزَا في مشـيه، ما كان يسـير بتلك الخطوات الواسـعة، وبتلك الهمّة، وقد كانا وسـمه زمناً. من الصعب رؤية وجهه، فقد كان في حالة من الشـدِ والتوتر،  كان يحمل هم تلك اللحظة، فقد أزفت واحدة من النهايات التي يتحسّـب لها، خائفاً من أن تنتهي إلى إحباط يتهاوى فيه. عدد ما أنجب  من الإناث جعله متذمراً إلى ألحد الذي دائماً ما ينتهي إليه شـبقه. الآن ما عاد له منتحى، كان عليه أن يلقي نظرة على ذلك الشـيء الذي صار وجوداً. ما كان يُرجّح أن ذلك سـيكون مختلفاً عن ما تعودت عليه نسـاؤه، فقد ملأن العالم “كنداكات”.
صار إلى غرفة “أم دورين”، كانت مضّجعةً على “عنقريبها”، منقوعة بالعرق والتعب، حولها السـاحرات الثلاث، وتلك المضغة ألمُخَلَّقَةُ قريباً من حضنها. كان ذلك الشيء بوجه مُتغضّن وكفين مصرورتين، الجزء الأسـفل منه ملفوف بخرقة قماش. توسّـط الحاج عبد الله الغرفة، أرادت “قالدة” أن تتناوله من حضن أمه، وتحمله إلى أبيه ليتعرّف عليه، أشـار إليها الرجل بأن تبقيه في مكانه. للحظات كان يجسّـه خفية بعينيه، لكنه في آخر أمره أحدّ النظر فيه، تلك لحظات لا يمكن اسـتعادة زمنها أبداً، عيناه عسـليتان،  سـيكون وسـيماً. تمنى لو يتناوله بين كفيه، يتملّى فيه، خفيفاً كريشـة، ومرتعشـاً برقّة واسـتشفاف كفرخ القَطَا. يغمض عينيه عنه، يزيل تلك الخرقة عن نصفه الأسـفل، وبأصبع واحدٍ يجوس بين فخذيه، الهشـتين اللينتين، يتحسـس ذاك الشـيء في وكنه، ويفتش عنهما في المكان الذي من الممكن أن تكونا فيه، غضّ الطرف، قمع تلك النزوة، فهو يدرك عدم جدواها.
أعطى ظهره للجميع، وقف مواجهاً لباب الغرفة، بدت ملامح الرجل قادرة على البوح بأكثر من ما كان للكلمات أن تقول، رائحة صابون “فنيك” و”ديتول” ومطهّرات ووجوه تلكم السـاحرات المتحفّزة لأيما شـيء، كل ذلك جعله متيقناً من ما لا يريد الإفصاح عنه، ولن يسـمح للآخرين بالهمس به.
تذكّر لعبته تلك، فبدا بمكر قرد عجوز، أدخل يده في جيبه، أخرج عملة معدنية، جعلها في كفه وتحسـسها بأطراف أصابعه – إن كانت ملك فهو “الملك”،  وإن خابت وجاءت كتابة فهو أيضاً “الملك”. لم يتردد، قذف بها عالياً، كادت أن تبلغ سـقف الغرفة، ارتدت، تابعها وهي نازلة، ارتطمت بالأرض فأحدثت صليلاً، تدحرجت، فثبتها بقدمه وأخفاها، جثا على ركبتيه، كان حريصاً أن لا تتمكن السـاحرات من رؤية ما يفعله، بدأ يزيح عنها قدمه ويتفحص كل جزء يظهر منها باهتمام. بانت له كاملة، نهض منتفضاً ومتصارخاً.. “ملك.. ملك”.. “الملك”. كان كمن يعلن انتصاراً بهتاف حاشـد. بعد زمن حاول أن يسـتعيد زيف تلك اللحظة، ونبرة صوته تلك فما أفلح.
دار في الغرفة، ما فارقت لسـانه “الملك”، كان يلّح عليها، خائفاً من أن يتراجع عنها، كأن نسـاءه قد بلغن ما كن يتحفّزن له، حاول أن يحل شـفرة نظراتهن المتبادلة، فما وجد سـوى الريبة وعدم الفهم، أحس بغيظ، نسـيَ أنه  قد تزوجهن لأسـباب لا علاقة لها بقدرة أيٍّ منهن على الفهم.

نفد صبره، أشـار بإصبعه ناحية المولود، وقال بحزم، كمن لا يريد أن يكرّر قوله مرة أخرى: إنه “الملك”.. إنه “اللقي وليد حاج عبد الله”. اسـتدار، وتوجّه إلى باب الغرفة، خرج، وقد بدا كمن سـفح دماً.
ما كان حديث الرجل “رطانة” فقد فهمت زوجاته ما عناه من اللحظة الأولى. تظاهرن بعدم الفهم ليمنحنه فرصة التراجع عن ما كان بصدد الانخراط فيه، ما تراجع، فتيقّنَ أن الرجل وجد لعبته. وسـتكون هي لعبتهن وإن على مضض.
إنها ليسـت لعبة للتسـلية، ليسـت نكتة، إنها لعبة خطرة، وحشـية وغامضة، وذات قابلية للتصدع في أية لحظة.
لو قيل إن هذا الرجل، كان موجوداً قبل زمن بعيد، لكان ذلك احتمالاً. وليكن  بأناقته المتحفية تلك، وبفوضى ليس لها ضفاف، وبخرافات تسـيطر على عقله وتتخلل دمه، ولتكن “الرمينجتون” المهترئة بحوزته، ولينتقي مجاعته وحربه ومعركته، ولتكن معركة خاسـرة، على أن يكون هو في حفرة خندق يتآكله فيها البعوض والمطر والبرد، فليصمد ويقاتل أو يموت.. لا فرق.. لكن وفي تلك الأيام، والخيول تزحّ أطيافاً، تصطف وتسـد بصهيلها الآفاق، والذبح من الآذان إلى الآذان، ما كان الحاج عبد الله هناك. من كان هناك هو ذلك الجد، محارب قديم، وهو من أورثه بندقية من عصريات  صباحات الدم الوعرة والخطرة.
انتظرت تلك البندقية سـنوات طويلة لتسـفح الدم في مطرٍ وبردٍ وطين.
بتلك البندقية وبثلاث طلقات نحاسـية صدئة، قتل ذلك الرجل ابنه “اللقي وليد حاج عبد الله”.
كان واقفاً قريباً من جثة ابنه، سـرمدياً، هزيلاً مضطرباً، بانحناءة ظهر، في حالة من الوهن والضعف تنوء بثقل البندقية على كتفه، بدا كمن يسـتجدي تواطؤ الأشياء معه، وقد بدا كل شيء حوله عدائياً. كان يحاول أن يتصالح مع نفسـه، مدّعيا أن لا حاجة لوهم الاعتذار، فهو إنما كان يدافع عن أسـاطيره وخرافاته، ويحقّ له أن يوغل في فوضاه. ما اعتقد للحظةً أن ما قام به كان نزوة تخريبية، إثماً أو جريمة أو موتاً مجانياً يسـتحق الأسـى. كان ذلك كشـفاً وأسـلوباً وراثياً لصناعة الحياة كما تخيّل لها أن تكون.
كانت جثة الصبي ملقاة عند السـدرة، قريباً من “الراكوبة” في طرف أرض “اللقد”، “بعراقيها” وسـروالها وطاقية “الكوريشـي” الحمراء، والمركوب الفاشـري على القدمين والأحراز على الذراعين، والكفان محنّيتين. كل تلك الهيئة اصطبغت بالأُرجوان، والدم غطى أهداب عينيه، وسـيماً، طافياً على بحرٍ يصب في الموت. بلا حياة تخصه، بلا ماضٍ، وبمسـتقبل تسـفه الريح.
على مسـافة غير بعيدة، كان العالم يتواصل جماله، الريح “تتايع” القصب فيصدر حفيفاً، آبت تلك الصوصوة المبرقشـة إلى السـدرة، وفي مكان أقرب من خط الأفق تمدد قوس قزح كأذناب الطواويس.  التجاعيد على وجه العجوز قديمة متجذرة، من الصعب أن تظهر إحسـاساً، بالإثم والأسـى، وما كان يوماً قد عرف البكاء وتوجّع القلب وإن أحسّ للحظات نادرة بالشـجن الشـفيف. قصد أن يقتل صبياً فحلاً، بدمٍ أحمر، ذلك الدم بدا الآن وردياً أُنثوياً، ما كان ذلك هو الدم ألذي أراده لخرافته، إنه دم انتقى لونه الموت، وهو كما النعامة يلتهم كل شيء، ولا يميِّز بين دم الحقيقة والخرافة، كما أنه يعطي الأشياء لونه.
الرصاصات أثخنته بالجراح، فنزف دمه، ودم تلك التي يخبّئها تحت ثيابه.
بعد الغسـق، كانت السـماء صافية، بانت النجوم جلية، التوهج الصادر عنها كان عواءً هادراً من الضوء. اقترب أكثر من الجثة، أطال النظر فيها، كان يبحث عن خللٍ في ما أنجزه، ذلك هو الموت، النوى البعيد، لا برد ولا مطر ولا دفء ولا حصاد مواسم، وذلك من كان هو “اللقي وليد حاج عبد الله”، مرّت حياته في حضرة الموت، كأن لم يكن له اسـم ولا أمل ولا وسـامة،  لقد أضفى الموت على الجميل نبالة، ما كان متعاطفاً مع وسـامته، فهو متوجس من أن تكون لغماً يفجّر خرافته تلك. فهي ما كانت وسـامة فحسـب، كان ذلك جمالاً أنثوياً، مخرِّباً، يثير الاضطراب، ويوقظ الرغبة في التملك لدى الآخرين.
طوال وقته كان يحدِّق في جثة الصبي بعيونٍ شـاخصة.. “هل أنجز كل ما كان عليه أن ينجزه؟.. أم  أن عليه أن يجتث خصيتي الديك؟”، يخلع عنه “عراقيه” وسـرواله،  طاقيته وأحرازه وجميع متعلقاته، فهو ما عاد في حاجة لكل هذا. سـيعلِّقها على فوهة بندقيته، ويعرضها يوم السـوق في القرية.
تذكّر “تيسـاً” كان قد ذبحه في مناسبة ما، ما وجد في جوفه كبد ولا كلى  ولا طوحال وما وجد له خصيتين. قالت نسـاؤه إن “التيس” كان مسحوراً، لو قال في السوق أن الصبي مسـحور، فربما صدّقه البعض (..سـيدي هاهو برنس عدو الله يوحنا.. إنه من الحرير المرصّع بالذهب و الجواهر، ومعه عراقيه مخضّبً بالدم، وطاقيته من الذهب الخالص، ومركوبه من القطيفة، إنه كامل، لا تنقصه سـوى خصيتين.. زوجاتي قلن إنه مسـحور، هذا لا يهم ..  فهو من الممكن أن يكون صبياً حتى وإن لم تكن له خصيتان.. وبخصيتيه ربما يكون واحدةً من  “الكنداكات..).
كانت تلك أشـياء تتخايل له، ناضحةً ذكرى ومجترّة حكايات قديمة، إنها هذرمة الحمى والمطر، داء، عياء يغشـاه ويعاوده، توقظه محفّزات لا يدري كنهها.. وربما الدم. كل ذلك لا يحل معادلة، ولا يقرِّب نائيات، ولا يرتق ما انفتق، فذلك الذي أصبح متنائياً ما كان الإمبراطور يوحنا، ولا واحداً من رعاياه،.. إنه .. “اللقي وليد حاج عبد الله”. سـار خطوات أخرى، كان تحت ظل السـدرة، تخاذلت رجلاه، جلس، زحف نحوه زحفاً، اسـتندت ركبتاه إلى جسـد الميت. كان القمر يتخطاه ويسـلِّط الضوءَ على جثة الصبي. تحسـس جسـده بكفيه، كمن يرصد العدم من الأنفاس ونبضات القلب، الدم يسـيل من كل الجراح إلى الأرض، ما كان الصدر نافراً، كان محزّمّاً ومضغوطاً، ظهر اهتراء القماش في الأمكنة التي نفذت منها الطلقات إلى جسـده، صدى واحدةٍ من الطلقات اخترق الصدر، والثانية غابت في البطن، أما الأخيرة فقد نزعت فروة الرأس من الخلف مع جزء من العظم. لم تكتف الرصاصات بما أحدثته من التخريب بل تمادت فأماتته. كان مسـتلقياً على ظهره، كأنه نائمُ ومغطى بخرقة قماش حمراء،  أظهرت بعض فتوقها أجزاء من جسده. ما كان هناك ذباب، فالذباب لا يحب الدم الحار. ملامحه اسـتكانت إلى سـلام الموت، حنونة، متطامنة، ما عاد معطوباً وميؤسـاً منه، بدا في موته ابناً باراً أكثر منه في زمانه.
ما مرَّ وقت طويل منذ أن أطلق عليه تلك الرصاصات، فما زال صليلها مختلطاً بطنين أذنيه، ومع ذلك فالجراح احمرّت احمراراً شـديداً، ثم اسـودّت وخرج منها زبد ودخان ورماد… (..هل أنجز كل ما كان عليه أن ينجزه..؟.. أم أن عليه أن يجتث خصيتي الديك؟..).. الموت أعفاه من تهمة خصي الموتى، فهو عادة ما يبدأ بهما، فالصقر يلتهم أدمغة العصافير قبل أي جزء آخر.
اختار الصبي موتاً ما كان قد أراده له. واقعة عجيبة للموت، أكثرها جهداً ووجعاً ودماً.
كانا جسـداً “وعراقياً” واحداً، جاءت لحظة أرادت فيها أن يتعرّف إليها الآخرون، عرّت وجهها وجسـدها، واسـتنامت للسـفه الأنثوي، تلاعبت به وأحالته إلى مسـخ متحوِّل، ما كان كفءاً ليقارعها قولاً وفعلاً، فهو ما كان سوى وهم من فحولة مدّعاة وسـيمة، ومن السهل عليها أن تنحدر به إلى هاوية العدم.
تلك هما عيناه، ما عادتا ترفِّان، كان قد تحاشـياهما زمناً، الآن ينظر إليهما، لم يغيّرهما الموت، فما زالتا عسـليتين، أرخى له  أهدابهما. ما ظنَّ أن الموت أكثر فظاعة من القتل، لحظة القتل ربما يكون العقل مغيّباً، أما الموت فيظل حاضراً، شـاهداً، ومسـتمراً. أشاح بوجهه عنه، قربه من الموت أنهكه، ما أراد أن يسـقط في شـراك الشـفقة والحنين وما يجرّانه من الندم والمراجعة، كان ذلك هو آخر ما يرغب فيه، فتلك هي الكوّة التي تدلف منها الأوهام لتخمد جذوة ما تبقى له من الأيام ومتعها وشـهواتها. القمر متوارٍ بغيمةٍ شـفيفة، خائف، كأنما تنبح فيه الكلاب. النجوم متوهِّجة، وقريبة حتى ليكاد أن يتناولها بيده، انشـغل بتفِّقد الأشـياء حوله، كانت عيناه تمر عليها، ما كان من الممكن أن يهتز عود قصب متخطياً عينيه، وحيد متفرد، بعيد عن الأنيس، على مسـافة متسـاوية من كل الأشـياء، من الموت والدم، ومن توهج النجوم، وصوصوة العصافير وهديل الحمامة، من السـماء ومن الزمن الذي لا يمكن اسـتعادته، ومن الحكايات التي لا يمكن تذكّرها. كل ذلك انتهى للصمت، ذلك الشـيء القديم، الكتوم المليء بالأسـرار.
تعب، ما كان يتمعّن في الأشـياء، بالكاد كان يتعرف عليها ويتحوّل عنها، لم يُطق ملامحها العدوانية. وجد أن كل الأشـياء ما زالت على عاديتها وثباتها، سـرب من الحُبارى يعبر السـماء إلى ضفافها النهائية، يهش بأجنحته ندفاً من السـحاب فيبعثرها. ونهيق حمارٍ بعيد، وقرع طبول العرس ما زال هناك.
سـار نحو حماره، جرّه من حبله واقتاده إلى السـدرة، أوقفه قريباً من الجثة، حطام تلك البندقية ملقى على الأرض، رفعها وعلّقها على كتفه، رفع أكمام جلبابه ولملم أطرافه المتهدلة، انحنى وبعنت رفع الجثة، نهض بها ووضعها على ظهر الحمار. سـيعود إلى القرية، يحمل إليها جثة ابنه. لن يتوارى، ولن يواري عنهم جراح الصبي ودمه وموته، سـيواري جثمانه في ندى تلك القرية. ومثلهم سـيضعه في حفرةٍ ويردم عليه، وسـيكون ذلك في المكان الذي تعوّدوا أن يقبروا فيه أبناءهم البررة. لن يتركه هملاً في الخلاء، كغزال مذبوح لوليمة جفاف الطير.
تحت رذاذ الضوء، كان ماشـياً، مكابداً غول الطريق، مُجرجّراً الحمار، وذلك الموت المجنون على ظهره، والهواء حولهم رطب لزج.
قبل موته ذاك، كان الصبي في راكوبته في طرف “اللقد”، مسـتلقياً على لحافٍ خفيف، ووسـادة تحت رأسـه، على مدى الرحابات المعتمة كانت ظلال الفجر الخريفي تتماوج، وللفجر شـذى نسـيمي بارد، بخليط من الروائح، رائحة النهر، والأعشـاب وأشجار اللعوت والحراز والسـدر والنيم، مع رائحة الأرض المبتلة بالمطر المتداخلة برائحة روث  البهائم ورائحة القصب الندي وقد تروّت عيدانه.

كان متقّدا بالانتباه، منتظرا تلاشي الظلال، ولحظة انطلاق صهيل الجواد الأشهب. يشتعل الأفق، تتجلّى مشرقة متوقّدة، تنيره، يتعامد ضوءها على وسامته، فيحسّ بأنه وحده الجميل في العالم، الآن يفتقد ضوءها ودفئها، يحسّ بأنه عارٍ، ضئيل، شيء من الهوامل ملقى على مكب نفاية نهاية الدنيا، ساقط في هوة بلا قرار، مصرور منكمش ومخفي لا يبين منه إلا ألق العينين الخفيف، وبصيص الأمل الباهت.
أحس بالبرد، نزع الملاءة عن اللحاف، غطى بها كامل جسـده، ترك وجهه مكشـوفاً متطلّعاً إلى ما يعلوه من الأشـياء، ما رأى بصيصاً لشـفق، تابع سـحابة، كانت هي الأكثر قتامة، رآها تتآكل من طرف وتتمدد في طرفٍ آخر، تشـكل جبالاً، وأشـجاراً وثيراناً وخيولاً، وترسـم ملامح رجال ونسـاءٍ من أهل القرية، يتعرّف عليهم. اسـتغراقه في رسـومات تلك السحابة، أضاع عليه الخدر اللذيذ لتلك السـاعة من الفجر، فقد اعتاد في مثل هذا الوقت أن يتلذذ بعصفٍ ينام عليه ويصحو به.
سـتشرق، وإن بعد حين، فقد تصايحت ديوك القرية متتابعة ومتداخلة منذُ وقتٍ طويل، اسـتيقط هو أبكر منها، ومع ذلك ما رأى أفول آخر النجمات، فقد  كانت هناك ظلمة بسـبب سحابٍ جهم، لكنه سـمع صياح تلك الديكة، وتابع تصايحها، متلفّتاً في  كل الاتجاهات، كان يحاول أن يتعرّف عليها، وعلى البيوت التي ينطلق منها تصايحها وأصحابها، أصاب وأخطأ، فقد كان تصايحها يأتي من اتجاهات مجهولة لديه.
تفتنه تلك الديوك، بجمالها وبحات أصواتها المتحشرجة الملوّنة، يحسـدها على خلو بالها، وتمس فحولتها المتطامنة مكاناً حميماً في داخله.
بعيداً عن افتتانه بها، كان يسـتهين إحسـاسها بأهميتها، فهي من أشـياء العالم الهامشـية، عاطلة عن جهد وعمل، سـوى أن تتداعى لذاك التصايح فجراً، وتتقافز على ظهور تلك الدجاجات بنغمة عشـقٍ كرفّة عين، وقد كانت كافية لتجعل تلك الدجاجات تتراقص وتبيض، فيما عدا ذلك فهي خاملة، بعض زخارف، تتكاثر وتفيض، تُذبح، أو تموت، تتبع الموت ممتنة، فتدخل الجنة مع  المؤذنين.
تمنى حياة بذلك الإيجاز والجمال، لو أنه يسـتيقظ فجراً فيجد نفسه يتصايح ببحةً تخصه، لقد ملَّ أنه “اللقي وليد حاج عبد الله”، ذلك المسـخ، وتلك الخلطة من الحقيقة والوهم، إنه لم يولد هكذا، لو كان أبوه مبتهجاً في ذاك اليوم، لاختار له فحولة ديكٍ خلاسـي، يتجفل وينفش برائله، وحيداً مختالاً، تحفّ به  دجاجات القرية، بفحولة لا تنضب إلا بالموت، لن يكون “ظّلوطاً”- وقد كان هو الآخر ديكاً، لكنه كان مهمشـاً حالماً – أما هو فسـيكون مميّزاً، بعرفٍ كالدم، طويل مسـدل، بذيل مُفضفض، وبعض رياش تسرق الكحل من العينين، وتجرّد الطواويس من ألوانها، وبألوان من بعض جهنم، تهبها وتنفخ فيها الريح، وبعض ألوان مائية وبعض شمعية، وبألوان آهات الشـبق، وبلون طعم نصف البرتقالة… لو أن أباه كان مبتهجاً، لكان قد أراده موجة زرقاء في ماءٍ أزرق، أو طيراً يخرج من  صدف البحر.
تشِرق الشـمس في رابعة النهار ويكون للنهار شـكل الصباح، يضاف يوم جديد لتلك المضغة التي شـكّلها ذلك الرجل فحلاً، ذبح ثوراً، وسـمى تلك المضغة.. “اللقي”. تسـعة عشـرة عاماً مرّت على دم الثور المسـفوح، سـنوات نارية راكمت على جسـد الصبي دماً ولحماً وعظماً وشـبقاً. سـرب من تسـع عشـرة يمامة برياش أجنحة رمادية ومناقير حمراء، “تتايع” بأجنحتها الريح، ما كان طموح تلك اليمامات متّجهاً إلى مهاجرها القديمة – جنوباً إلى الشـمال وشـمالاً إلى الجنوب – فقد أضمرت أن ينداح بها الخيال إلى صناعة أسـاطير واكتشاف الغويص من المجاهل. حطت على رأس “اللقي”، انغمسـت فيه وتخللته، مخلفة أثراً ينم عن سـابق عهودها به. طارت إلى أعلى فأعلى، اتجهت نحو الشـمس، بعدها لم يُسـمع عنها خبر ولا رئُيت تتسافح على فنن.
طيّر “اللقي” تلك اليمامات، بعضها كان فوضى سـنوات مراهقته، انبهاراً بالأشكال البدائية للأشـياء، أحلام يقظة، تمرداً خطراً، وخيال موتٍ فجائي متربّصٍ، خوفاً وتوحّداً قاتماً، وألعاب ظلام.
زخم الفوضى كان محرّضاً للفضيحة، كشـفت عن وجهها، وفاحت رائحة دفء جسـدها، تقوسـت خطوط أنوثتها الناعمة، تفتحت في ذلك الجسـد تفاصيل الدهشـة المنسية، في كل صباح يُفاجأ بواحد من سـحر تلك الدمي التي تبعثرها في جسـدها. يتحسـس بهجاتها الأنثوية، فيسـمع تأوهاً في داخله. تسـارعت أنوثتها نحو كمالها، كأنما ذلك ما كان متوقعاً، كأنما ذلك الرجل قد ظن أن من يُولد طفلاً يظل طفلاً، بالجنس الذي يختاره له، وبالاسـم الذي يطلقه عليه.
كانت صناعة ذلك الصبي نزوة، اسـتطالت وتمادت بعنادٍ خرف.
ما أراد “اللقي” أن يتعرّف عليها آخرون، أو يحسـوا بوجودها، اخترع وسـائل بدائية لإخفائها، أراد أن يطوِّقها، يحاصرها تمهيداً لإخضاعها والسيطرة عليها ومن ثمّ إلغائها، كان متشـبثاً بفكرة أنه “اللقي وليد حاج عبد الله”، الفحل كما أراده أبوه، متجاهلاً ذلك الحنين الخفي الذي يشـدّه نحوها.
في ركن منزوٍ كان يتعرّى، فُيعرّيها، قمة النضارة، جميلة بما يتجاوز الخيال، مأخوذة بنبضات قلبها وآهاتها المكتومة، وصوت النزعة للتواصل الحميم، والحـس الداعي للتمرد، يغمض عينيه فيشـتم عبق جسـدها، شـذى نسـيمياً، والرائحة هي الرائحة، الأرض والعشـب المبلول، ذلك العري، ودفء الأحلام الليلية، وصور الخيال الحسـية، متخيلاً.. متخيلاً.. ومتخيلاً.. حتى ينكسـر الخيال عند حدود اللذة ويشـرف على النقطة الفاصلة لاندياح الشـبق. حاصرته بالشهوة والرغبة والاشـتهاء، أشـياء من الصعب تجاوزها أو نسـيانها، فالمطل واختراع الأسـباب، ليسـت إلا محفّزات، تراكمها في الجسـد لتفجره.
يتباعد عنها، خائفاً من أن تحتويه، ما بينهما كان علاقة مختلة، فتداخلهما كان خطراً، بسب احتمالات التواطؤ والتآمر والافتضاح، فكلاهما عرضة للقمع والزجر.
كانت مختبئة في جسـده وجسـدها، وهو متباهٍ بذلك الجسـد، يمرح به، يزيّفه ويُلحق به الرهق، متناسـياً أنها جوعه وجماله، شـبقه وحنينه، عريه وأشـياؤه الحميمة، أما هو فما كان سوى وهم ودخان وسـخف ذكوري، أثقل كاهلها بعبث التضحيات، أهدرت سـنوات عمرها محتملة دمامة أشـيائه وخِرقه، وما كان رأس ماله إلا عراقياً وسـروالاً ومركوباً وطاقية. ومع ذلك فقد ألفته، وخافت عليه أن يتلاشـى.
تهرب منه وسـط القصب تحاول أن تلم شـتات أنوثتها المبعثرة، لكنه يجدها، وبشـهوانيته تلك يبدأ لهوه بأشـيائها ويتأوه، يجرجرها إلى “الإنداية”، تعبُّ “المريسـة” غصباً، ويخوض هو حديثاً مع “المرّاسـة” عن المعيز والقصب. تنتشـي، تسـكر، تغني. وفي طريق العودة تغازل من أجله الصبايا والأرامل المجهدات، يكون ذلك غزلاً سـفيهاً مكشـوفاً، أو حامضاً كفص ليمون، وربما رقيقاً، مبهجاً، وردياً، حتى أنها هي نفسـها تدفع نصف عمرها ليغازلها به أيما صعلوك. لو كان هو حقاً “اللقي وليد حاج عبد الله”، لكان ذلك الغزل من فرط جماله كافياً ليجعل كل العصافير تتسـاقط على كفيه.
ودت أن تكون جميلة، أن تصنع بجسـدها بعض ما يمكن أن يُصنع به، تعلّق عليه الزينات، وترقص عارية وسـط القصب، متناسـية أنه يراها، وما كان ذلك يهم، فهو نفسـه وفي نفس المكان، كان يتعاطى لعبات الظلام تلك متصوراً أنها غافلة عنه،  تمنت أن يخلع عنه خِرق فحولته المدّعاة، وأن يبدو جميلاً وببعض أنوثة، لتبدو هي جميلة وأنثى. ما قدم ما صار لتعايش بينهما محتمل، فليكن إذا تلاشيه، إنها تريد مكانها، ذك الحيّز الضيق من العالم، تريده لتفعل به ما تشـاء، تسـقيه عطراً، تزرعه عشـباً، وتطيّر فيه فراشـات، تمدده مسـترخياً متمكناً لتسـتبيحه فحولة قاهرة تفضّ بهاء عذريته، ومن ثمّ يتلاشـى ذاك المتطفل.
إنها مجنونة، تسـكنها جنية مجنونة، إنها تريد أن تقذف به وبها إلى النار، إنها تخيّره بين التلذذ بالجنون أو الموت، فليكن إذن موتها و تلاشـيه.
أشـرعت ثديين، ضغطهما، صرّاهما وحزّمهما، ما همه إن أوجعاها أو نزفا دماً، كان يحاول أن يحدّ من تفلتها، فهي ليسـت سـوى صبية، شـبقة، يعلم بأنها إنما تحلم بالزوايا المخبأة، وبأنها محصورة وسـط القصب، متوهجة بسـلطة الحس والجمال، تصرخ بصوت الحب، وتتأوه من عمقٍ سـحيقٍ في داخلها، فهي ما تشـهّته عشـقاً مُسـهّداً، ولا مُسـتحياً كتوماً ومقموعاً، أرادته لذة بصراخ كرعد من الصهيل، نوعاً من الحب لا يتعفن، رغبةً تسـتعيد حيويتها، حباً تترياً، يشـرف من فرط حسـيته على صوفية تتجاوز الجسـد إلى المطلق الروحي،  متصورة أن ذلك هو عين ما قصدت إليه التفاحة حين تدلت.
فتت من عضده، وأوهنت أمله. تمنى أن يفض الشـراكة بينهما، ودَّ أن لو يكون له جسـد يخص خرافة أنه “اللقي وليد حاج عبد الله”، أراد معجزة كاملة الفحولة، بدلاً من تلك المدّعاة، والتي ما اكترث لها أحد، فهو بها ومن غيرها، لم يُفطم ولم يجرّب، شـبق ومهدد بالموت والتلاشـي.
ما تمنوه ديكاً، وتلك قريةُ يُسـمع صياح ديوكها في الطرف القصي من نهاية الدنيا، لكنهم ضنوا عليه بالجنة، وببحة صوتٍ كانت سـتكون مميزة، ما أرادوه إلا عراقياً وسـروالاً وأحرازاً ومركوباً وطاقية، شـيئاً يبهج خرافتهم وأسـاطيرهم.
كان يعلم أنها تكره أن يمس أحد حاجاتها، لكنه بدموع أنوثتها بكى، وبخرافة فحولته سـبّ الأشـياء وأشـياءها، وسبّ كل ما عجزت فحولته اقتحامه والعبث بوقاره وفوضاه، وشـتم تلك التي غرسـت العصف في داخله وتوارت.
فليكن العصف إذ لا شـيء غيره يدفئه، يغطيه، ويتخلله بخدرٍ كبداية الموت، ولتكن تلك المجنونة حاضرة، للعشـق كاملاً، وللموت المتربص للحظة الفجاءة، وليكن موتها وتلاشـيه.
كان يتذمر حين يسـمع من يناديه بـ “أحمد ود زينب”، لكن هو نفسـه ما كان يعلم له أباً، فقد كان ذلك الأب سـراً، ربما لا تعرفه إلا زينب “سـت الإنداية “، ولتلك المرأة العشـرات من الأسـرار، وهي نفسـها ما عرف الناس رجلاً، كان أبوها أو زوجها، طوال عمرها ما كانت إلا زينب “سـت الإنداية”، واحدة من أحلى فاكهة القرية، امرأة شـاسعة بفوضى جميلة، وشـفاهٍ خلاسـية، وبشـرة بلون مخلوط، نجمة هبطت من السـماء، فكانت أنثى تهزّ ردفيها، رائحة طلحٍ منضود، ودهشـة حنّاء وكحل، وعلى عنقها المحزحز عقد من خرز بوهيميا.
“إندايتها”  في المثلث في طرف القرية المواجه للخلاء، “مريسـتها” لا تنضب، تفيض، لتراكم شـحم الغنم والسـخلان، زبائنها شـتى، خاصة  وعامة ولمامة، شـحاد ودرويش ورعاة أغنام أجلاف، ووجهاء قوم، بدءاً من العمدة وتجار سوق العيش، مروراً بالمسـاعد الطبي ومخزنجي الشـونة وغفيرها انتهاءً بحارس طائرات الرش، والجزار والحلاق وسـت البنات “الدلالية”  وكثير. كانت جميلة، وقد تعوّدت أن تكون كذلك، تشـغل الرجال بضحكتها وغواية اللعب في عينيها، فيخلع بعضهم سـرواله وطاقيته ويرحل، يجيئها وجهاء لوعدٍ قطعوه، ويغادرون لوعدٍ يضمرون الإيفاء به.
هذا بعض من زينب، وقد كانت تفيض بالبشـاشة.
أما ما كان من أمر ابنها أحمد، فإنه في هذا الوقت من النهار كان في الخلاء، لعب ونام وأسـتمنى واحتطب، جمع العيدان الناشـفة وأوثقها حزمتين، سـار نحو حماره، جاءه من ورائه، و(ســاطه) بعرقٍ من البان على فخذيه، فهِم الحمار معنى الوجع المكرور على مؤخرته، فمشـى ناحية حزمتي الحطب، حين توقف عندهما، كان أحمد قد انحنى ليتناولهما ويرفعهما على ظهر الحمار، سـمع الزن عند رأسـه، رفع يده ولوّح بها، فابتعد من ظنه “أبو الزنان” أراد أن يبدأ مرة أخرى بما كان قد شـرع فيه، فسـمع الزن يأتي من جانب وجهه، قريباً من أذنه، هشّـهُ في ضجر، أحسـه يتحوّل قريباً من عينيهِ وناصيته، ترك ما هو فيه واعتدل، رآه، “كدندارا” برقشــةً متوالدة، ونمنمات كنبضات قلب طائرٍ صغير وألوان متغيّرة يتلاعب بها الضوء، بدا كتعويذة مصرورة بفتنة هوجاء، جريئة، قاهرة، مشـرشرة ومتداخلة، والبطن ناعمة ملساء مثل جوف صدفة بحرية، بينما الزن ملحاح كنغمةٍ عالقة لفونغراف قديم، وقد أعجبته.
ظل ذاك الشـيء يتحاوم حول الصبي، يغيّر موقعه، لكنه يظل دائماً قريباً منه، ما مد يده ليتناوله، خاف أن يعجز عن الإمسـاك به فينفّره، ظل يراقبه مأخوذاً  بتلك الدهشـة التي توقف نبض القلب. “الكدندار” ما كان معقوداً إلى الدهشـة واللحظة بخيط، كان طليقاً وحراً، ابتعد حفيف أجنحته وزنه، أحسّ أحمد بأنه يكاد أن يفقده، وقع الصبي في شـرك الغواية، رآه يدخل القصب، لو ائتز للحظة سـيكون ذلك تفريطاً، أهمل كل شـيء كان بصدده، ولاحق “الكدندار”، خاض وحلاً وطيناً، وتناسـى مواعيد عودته وشـمسا تكاد أن تغيب، سـمع “الكنندار” صوت تكسـّر القصب، وأحسّ ببداية المطاردة، ما اندس ولا توارى، ظل على علو قريب من رؤوس أعواد القصب، ويحط عليها أحياناً، بدا مأخوذاً بفكرة أنه مطارد،  اسـتمرأ ما تصوّر أنها لعبة، بدأ يلعب، مسـتهيناً بالخطر ومسـتفزّاً مصدره، يبتعد ويقترب، وفي اللحظة التي يتصوّر فيها الصبي أنه على وشــك أن يضع يده عليه، يتفلّت، ويعود الصبي بيدٍ فارغة، فيغتاظ كأنما سـمع أحداً يناديه بـ”ود زينب”، طال زمن المطاردة، توغلاً في القصب حتى أشـرفا على بقعةٍ جرداء في وسـطه، تجاوز “الكدندار” تلك البقعة إلى امتداد القصب في الجهة الأخرى، وقف أحمد في نهاية القصب من غير أن يحاول الاجتياز إلى الجهة الأخرى، كانت قدماه موحلتين، يحس بثقل الطين فيهما وبين أصابعه، انتابه قلق، أحسّ كأن هنالك وجوداً آخر حوله، وجوداً غيره وغير ذلك “الكنندار”، بدأ يتلفّت متفحصاً المكان، فرأى ما أدار رأسـه وشـوش فكره، حاول أن يسـتند لشـيء، ما كان هناك سـوى أعواد القصب الهزيلة والريح تتايعها، رجع للوراء وتوارى خلف بعض القصبات، بدأ يتلصص من مكانه، كان ذلك هو “اللقي وليد حاج عبد الله”، ذلك الصبي الأمرد، بخطوط جسـده الأنثوية الليّنة، والتي كان الفتيان بسـببها يسـخرون منه ويتهمونه، ويغالب البعض الرغبة في مغازلته، إنه هو، ما كان من الممكن أن لا يتعرف عليه. كان “اللقي” يقف في مكانٍ مرتفع قليلاً عن ما حوله، متطاولاً ومتشـبِّثاً بمؤخرة أتان، يروح ويجيء مثل حجر الرحى أو قربة تهزّ لبناً لتفرز زبدته. أُخذ أحمد بما شـاهده، ما مرت لحظات حتى كان الأمر قد اسـتغرقه تماماً، تعرّق، ما صدر عنه صوت، بدا كمن يتنفس من خرم إبرة، متخشِّـباً كجذع شـجرة ميتة، ما غيّر وقفته ولا حرك عضواً، أحسّ أن ما بداخله يتأرجح كما “اللقي”، ما رآه يولج شـيئاً كمرواد في مكحلة، لكنه فهم الكلام، فظاهر الأمر يشـير إلى أن ذلك كان كذلك، وما كان أحمد صغيراً للدرجة التي من الممكن أن تتغبّش فيها الأشـياء أمام عينيه.
ما حوّل عينيه عن تلك الفرجة المجنونة، صار جزءاً منهاً، تحوّل إلى جني نفذ إلى جسـد “اللقي” فسـكنه وتلبّسـه وتأرجح، تماهى معه فكراً وخيالاً،  شـبقاً وتوتراً، صارا شـيئاً واحداً، بالألق الأخّاذ في أعينهما، وبملامح وجهيهما المتغضنين، وبالجدية التي لا بد منها، فتلك أشـياء عبثها جَدَاً.
الأتان كانت تجتّر طعاماً، وتهش بذيلها الشيء العالق بمؤخرتها، وأحياناً ترفس بملل. اغتاظ أحمد من عدم اهتمامها، لو كان هو المعني بالأمر لهجرها، لكن “اللقي” غبي، حتى أنه ما كتّفها، وتركها ترفس، وربما ترفسـه رفسـة فتودي به فيقال.. “الحمار رفسـو قطع نفسـو”. أكيد أن الرجل الذي قيل عنه ذلك كان ضالعاً في شـيء شـبيه بما يفعله “اللقي” الآن، وقد كان هو الآخر غبياً.
ولأنها كانت أتان، وكانت ترفس، فقد اسـتغرق الأمر وقتاً أكثر مما يسـتغرقه ذلك في العادة.
طوال تلك الفرجة، ما أحسّ أحمد بالملل، وما ضايقه شيءُ سـوى أن الزمن مرَ هميماً، تماماً كما تمر الأوقات السـعيدة.
نزل “اللقي” من مكانه العالي، وانهار أحمد متبللاً بالعرق وجهد ذلك العصف الذي كان شـريكاً فيه. توارى بالقصب وانسـحب في صمت من غير أن يحس به ذلك الفحل.
خرج إلى الجهة التي ترك فيها حماره، رفع الحطب على ظهر الحمار وصعد من فوقه، ما انتبه لفردة مركوبه التي سـقطت عن قدمه، بدا متعجلاً، خرج إلى سـكة الحطابين، رجلاه ممدودتان على عنق الحمار، إحداهما مسـتلقية من فوق الأخرى، مبسـوطاً غاية الانبسـاط، سـعيداً مدندناً، إنه لا يعود للقرية بحطبٍ يؤجج النار فحسـب ولكنه يعود أيضاً بحكاية سـتجترها القرية للحول.
سـكة الحطابين طريق مشـترك لقرى متناثرة على جانبيه، ورابط مهم بينها وبين مدينة صغيرة هي حاضرة تلك القرى، كان طريقاً  طويلاً، تتفرع عنه دروب شـتى، الطريق وما يتفرع عنه من الدروب، جميعها ترابية، وقد عبّدتها منذ زمن حوافر أرتال الحمير وأخفاف الإبل وعربات النقل الصغيرة “البكاسي” التى تغشـى القرى أيام الأسـواق، في غير أيام الأسواق كانت سـكة الحطابين وتلك الدروب غير مطروقة إلا من قبل مزارعي “اللقد” على حميرهم والرعاة والحطابين.
أحمد “ود زينب” كان “الباباكول”، فهو من يجلب الماء “للمريسـة”، والحطب “للإنداية” أما عمر” ود إبليس الدقاق “فهو من يحمل الذرة و”الزريعة” من “الإنداية” “للبابور” ويعود بالطحين.
كان الطريق الرئيسـي يدخل القرية ويتواصل داخلها إلى سـاحة السـوق في وسـطها، ثم ينفذ من الطرف الآخر للسـوق لينتهي عند ضفة النهر، ومن هناك من الممكن العبور بمركب للضفة الأخرى. في كل تلك المسـافة كانت تقاطعه دروب وشـوارع، أمكنة تقاطعها معه يطلق عليها “النواصي”  فهي.. ناصية الحمار، وناصية ود النزهي، وسـبيل العطشـان، ودكة الطرشـاء، والقبة، وناصية دكان عبد المحمود البَّو.. وكثير..
تجاوز أحمد دكة الطرشاء، فهو ما كان يُزمع الذهاب للإنداية وإلا لكان انحرف عن الطريق عند هذه الناصية، حين صار في منتصف الطريق بين الدكة والقبة، رأى عمر “ود إبليس” على مسـافة غير بعيدة عنه، كان عمر واقفاً مع حماره إلى جانب الطريق، بدا كأنه يعيد ترتيب جوالات الدقيق على ظهر الحمار. اتجه أحمد نحوه، حين صار قريباً منه قفز عن ظهر حماره، سـار على قدميه يقود الحمار، توقف إلى جانب عمر، كعادتهما ما تبادلا تحية، كان عمر قد رأى أحمد قادماً، لكنه انشـغل عنه بجوالات طحينه، وقف أحمد يراقبه، كان عمر قصيراً  منهوكاً، وكان أحمد طويلاً هزيلاً خفيفاً تجيله الريح، حتى أن زينب كانت تسـميه “القشـة أم روح”.
حين رأى أحمد أن عمر يكاد أن يفرغ من ما يدّعي أنه مشـغول به، عدل من وقفته، رفع رجله اليسـرى وأحناها، ووضع جانب قدمه على ركبة رجله اليمنى، ثبّت عصاه الطويلة على الأرض قريباً من جنبه الأيمن وأتكأ عليها، فصار واقفاً على رجلٍ واحدة مثل “أبي قردان”، سـال أحمد عمر: “سـمعت الحكاية؟”،  عمر كان مراوغاً كالزيت، رفع آخر جوال وعدله، والتفت إلى أحمد كمن يسـتجلي أمراً لا يهمه كثيراً إن ظل مبهماً، أدرك أن أحمد لديه حكاية، ومتلهف ليحكيها، وقف متَخَصَراً وتأهبَ بالحذر، بدا كأنه غير متشـوق لسـماع تلك الحكاية، فهو يعلم أن حكايات أحمد في غالبها صرةُ من الأكاذيب، في داخله كان حب الاسـتطلاع يتآكله، لقد سـمع في يومه هذا حكايات في السـوق وفي “البابور” تعشـّم أن لا تكون حكاية أحمد واحدة.
قَلَّبَ أحمد عينيه المشـاكسـتين، كان يعلم بأن عمر لم يسـمع حكايته تلك، كلم أحمد عمر، حكى له الحكاية، بدت كحكاية خرافية، زاهيةٍ ومتماسـكةٍ، أحسّ عمر ببهجتها تتحاوم حوله، ما عكّر اختلاج الشـك بحكايات أحمد صفو اسـتمتاعه بها، صدّقها، حتى أنه ما حاول أن يكتشـف الإضافات التي من الممكن أن يكون صاحبه قد أدخلها عليها، وتجاوز عيب أن أحمد هو الراوي. ابتسـم ابتسـامة عذبة، وانخرط في الضحك، جاراه أحمد الذي كان مبتهجاً منذُ أن بدأ يحكي حكايتة، قطع عمر ضحكته، انتبه لأمرٍ كان قد فاته، سـأل أحمد: “علا إنت متأكد إياهو اللقي وليد حاج عبد الله؟!!..” أجاب أحمد مسـتنكراً السـؤال: “اللقي كمان بغباني؟!!. حتى الحُمارة عرفتها.. ياها الدحيشـة الجلبها الحاج عبد الله من “الدامر” وعشّـرها حمار “ود الوسـيلة” تعرّف عليها عمر، جحشـة صغيرة بيضاء ومعلوفة، كان حمار “ود الوسـيلة” أول من طلعها.
كعادتهما لم يودعا بعضهما، افترقا، كلٌّ منهما ينظر للآخر ويضحك، كأنما كان كل واحد منهما  يرى طرافة في ملامح وجه صاحبه.
خفَ عمر نحو “الإنداية”، أما أحمد فقد كان قد قرر أن الوقت أبكر من أن يفعل فيه ذلك، خاف في حال عودته أن تكلفه أمه بعمل آخر، وهي لا تعجز عن اختراع ما يشـغله ويعكّر مزاجه، اليوم هو غير متأهب لشيءٍ من ذلك، إذ أنه سـيحرمه من لذة أن يحكي حكايته، سـيذهب للسـوق، لقهوة عبد العاطي، سـيجد الفتيان هناك، يطلب “فرنسـاوي” قهوة بالحليب، ويمتّع نفسـه بالدهشة التي سـتحدثها حكايته في وجوه الفتيان، ويطرب لوقع ضحكاتهم المزعجة، سـتغيّر حكايته وجهة نظر بعضهم في الصبي الأمرد، وسـيدّعي بعضهم بأنه كان يعرف منذُ زمن أن ذلك الصبي ما هو إلا تيس غزال حبشي لا يرتوي، وسـيتنبأ آخرون بأن الصبي قد بدأ ولن يتوقف، سـينزوي بكل شـيءٍ عابر، فكل شـيء له عبق ونبض قلب.
دخل عمر “الإنداية” من بابها المشـرع، وعلى ظهره جوال طحين، كانت “زينب” متّكئةُ في “الهبابي” تحت “اللالوبة”، بدت كأنها مختبئة، نسـيت أن تغير مكان اضجاعتها وقد حلَّ المسـاء، “اللالوبة” قريبة من الباب، على مسافة ليست بعيدة من الجدار الذي يفصل “الإنداية” عن الطريق العام، وضع عمر جوال الدقيق على الأرض وأماله إلى الشـجرة، ما خرج ليحضر جوالاً آخرَ، اتجه ناحية زينب، جلس في طرف “الهبابي” عند قدميها، نظرت إليه، أدركت أن لديه ما يقوله، وإلا لما كان قد اقترب منها بتلك الحميمية، أزاحت قدميها قليلاً لتوسـّع له في المكان، بهمسٍ أجش مرح، كلم عمر زينب، حكى لها الحكاية بكل تفاصيلها، بحيث أنها ما كانت في حاجة لتسـتبين أمراً، تابعته بلا مقاطعة، وقد اتسـعت عيناها، فأكّد لها أن ذلك كان مكحلة فيها مرواد، فضجت بضحكةٍ مفخفخة، أطالتها بتموجات، حتى أن “المرّاسـة” تركوا ما هم فيه ليندهشـوا.
عاد أحمد متأخراً، فوجد أن هناك بهجة غير عادية في “الإنداية”، أحسّ بالغيظ، فقد كلم عمر زينب، وما عاد التلذذ باجترار تلك الحكاية وإضافة بعضَ الأوهامٍ إليها حصرًا عليه، فقد خُيل له أنها “تمت وخُتمت”.
آخر رجلٍ في “الإنداية” كان نائماً في مكان جلوسـه في “البنبر”، أيقظته زينب أكثر من مرة لكنه كان يعود لنومته، وفي آخر مرة انتزعته من “بنبره” وجرّته للباب ودفعت به خارجاً وأغلقت الباب خلفه.
في تلك الأثتاء كان أحمد قد اسـتغرق في النوم، مجهداً وتصدر عنه أصوات، كان ذلك كابوسـاً، أتان تجلده بذيلها وترفس خصيتيه.
تخففت زينب من بعض ثيابها، ما اكترثـت لكوابيس ابنها، اسـتلقت على فراشـها، لم تكن أقلَّ إجهاداً من أيما حطاب، تثاءبت ومطّت جسـدها، فسـمعت طقطقة مفاصلها، كان هناك ضوء (مغبش)، الشجرة تمد فروعها فوق مكان قريب من مكان رقادها، فتجعل كثيراً من النجمات محجوبةً عنها، تثاءبت مرةً أخرى، وانقلبت على جنبها الأيمن ووضعت ذراعها منحنيةً تحت الوسـادة، ورأسـها من فوقها، ازدحم خاطرها بتفاصيل يومها، قفزت من تلك التفاصيل إلى حكاية “اللقي”، ابتسـمت، تراءى لها شـكل ذاك الصبي، وسـيماً شـاحباً، مخطوف اللون كراعي غنم، وبجمال مهمل، صنعت صوراً متحركة لحكايته.
بلغ خيالها مداه فرأت جسـده شـفافاً والدم يجري في عروقه، طار النوم من عينيها، اسـتدارت واسـتلقت على بطنها، لم تطق، انقلبت مرة أخرى وواجهت السـماء، قرّبت سـاقيها الممتلئتين من بعضهما أكثر، أحسـت بحنين مبهم لذاك الصبي، تخيّلته كطفلٍ عارٍ تحمله عاصفة، وتلقي به في كونٍ متهاوٍ مليء بالعتمة والريح، النجوم تحوّلت عن ظل فروع الشـجرة وتألّقت، حدقت فيها دون أن تراها، تأوهت، فقد عرفت شـجو القلب زمناً، وغَمرات العشـق وظلمه، ومن ثمّ اسـتعصمت باللذة، فهي وحدها الحقيقة، كان صبياً صغيراً، ومع ذلك فقد أخضع أتاناً، لا بد أنه امتلك صفة خاصة، انقلبت على جنبها ووضعت ذراعها تحت الوسـادة، قبل أن يتسـلل النوم إلى عينيها كانت قد قررت أن تخرج في الصباح لتحتطب.
بدت متعالية على ذاك الصباح، جميلة بأكثر من ما كان ذلك الصباح صباحاً،  متأهبة بفأسـها وحبالها، بغنجٍ أُنثوي اعتلت ظهر حمارها، ما راجعت نفسـها وما بدت مترددة،  كانت تحس حزحزةً في قلبها، متوجسـة من بداية هوى كانت قد نسـيته، ونسـيت حكايات عشـقٍ خلّفت جراحاً، حين صارت على ظهر حمارها تناولت طرف ثوبها وقذفت به إلى أعلى رأسـها، هفهفت الثوب عطّرت المكان بعبق خليط من الروائح المعتقة.
خرجت إلى سـكة الحطابين، تنسـمت التنهدات الصباحية للنال والعسـين والحنتوت، وخدرتها بحبوحة غيضٍةٍ من الأراك والسـدر مرّت بها، سـارت في اتجاه أرض “اللقد”، مشـت لمسـافةٍ طويلة، حتى أشرفت على “الراكوبة” التي يسـتظل بها “اللقي”، وقد رمت به النوى ليعزق القصب ويكلأُ الغنم ويحرسـها.
كان “اللقي” منزوياً في أحد أركان “الراكوبة”، في حالة من اللاتوازن الجميل، ذكياً ذكاء من هو خارج القطيع، متشـهياً أن لو كان لديه القدرة على العشـق والهجر، رآها قادمة، اسـتغرب وجودها في الخلاء، وقف ينتظرها عند مقدمة “الراكوبة”، فقد بدا أنها متجهة نحوه، اقتربت، حاشـت حمارها ونزلت عنه، سـارت، وتوقفت على بعد خطوات من “اللقي”، صدرها ينفح عرقاً لذيذاً وأنفاسها تمر من فوق الورد…
ما كانت تلك إلا قريةً صغيرة، ما كان أهلها يسـمعون سـوى القليل من الأصوات، وأغلب ما يسمعونه، صوصوة العصافير وثغاء المعيز ونهيق حميرهم وتصايح ديوكهم. ما يرد إليهم من الأخبار كان شـحيحاً، أحاديثهم مكرورة ويجتّرون الحكايات لزمنٍ طويل.
كلم أحمد عمر وكلم عمر زينب، وانداحت الحكاية في النواحي والسـكك، حكاها “المراسـة للمراسـة” وسـمع بها من جاءوا بعيشـهم إلى “البابور” ومن جاءوا إلى القرية يوم السـوق. وكان عمر “ود إبليس الطّحان”.. هو لا غيره.. من أضاف إليها، أن زينب ذهبت للخلاء ولم تحتطب، شـاعت الحكاية، متفلتة، مجنونة، دخلت البيوت.. بيتاً.. بيتاً، وخرجت من جميع المنافذ، أنيقة، وأكثر طرافةً وتزويقاً، تمددت في البراح، وانكمشـت لتدخل الأماكن الضيّقة والمخبوءة، طفت مع “المراكبية” على سـطح النهر، وحملها الرعاة إلى الخلاء بدلاً عن مزامير القصب، أصبحت حديث سـوق، وونسـة قهوة، وشـاي “برامكة”، أضيف إليها الكثير، طالت، واختلفت وأصبحت مفتوحة الاحتمالات.
عادت زينب من الخلاء، ما كانت تلك هي زينب التي خرجت في الصباح بكامل بهائها، ما جاءت تحمل حطباً، بدت كحطام شـيءٍ كان جميلاً، متعبة، تحيط بها رهبة الإحباط ودهشـة الخوف، دخلت، سـارت أمام أنظار “المرّاسـة”، منكمشـة على نفسـها، كأنها تحاول أن تداري جرحاً نازفاً يسـيل على فخذيها، من عادت كانت تشـبه زينب، لكنها ما كانت زينب تلك، فقد كانت هذه غريبة نائية، تنوء ببؤس الأمل، لو انتبه أحد “المرّاسـة” إلى عينيها لكن قد لمح رقرقةً حامضة، جرجرت حفيف ثوبها في اتجاه غرفتها القصية، خطواتها ثقيلة، كمحاربٍ قديم مهزوم يسـير بآخر خطواته إلى الظلام وباطن الخواء والعتمة، دخلت غرفتها وأوصدتها، ما خرجت إلا في اليوم التالي، قضت ليلها تتقلّب في نار  جمرٍ باذخ الضوء.
من طبع “المريسـة” أن تخترع أحاديث. قال بعض “المراسـة” إن الصبي كان محصّناً ضد الحنان، وقال سـفيه منهم إن الصبي فضّل عليها تلك الأتان، لكن ما كان هناك ثمة من أحد يعرف على وجه اليقين، ما حدث في الخلاء في ذاك الصباح.
في الفجر، فتحت باب غرفتها وخرجت، بدت كحمامة ميتة، باشـرت عملها لائذة بالصمت، قدرت أن حبسـها الاختياري كان عملاً صبيانياً، فالنسـيان لامرأةٍ مثلها سـيستغرق كل العمر، طوال اليوم ما شاركت في حديثٍ أو طرفةٍ، ولا فخفخت ضحكتها، وما أطالت حديثاً لا ضرورة له، قصدت أن تتجاهل السـاعات التي قضتها في الخلاء، كانت تخفي سـراً، فإخفاءِ الأسـرار كان مهنتها.
حتى ذلك الحين كانت شـموس الحاج عبد الله ما زالت تشـرق وأقماره تترحّل في منازلها. صار يتقلص جسـداً وروحاً، رافق الزمن طويلاً، وشـهد كسـوف شـموس وخسـوف أقمار وتوالي فصول، يظن أن عمره طال بسـبب تداويه بالأعشاب وماء المطر وحليب الحمير والإبل. أقدامه ثابتة، وما صدّق يوماً فرية أن الأرض تدور، لكنه على اسـتعداد أن يقرَّ بذلك، إذ قالت تلك الأرملة التي تقطن مواجهة لداره إنها تدور. ما كان يهمه أن تدور الأرض أو لا تدور، ولن يجادل تلك المرأة في ذلك، فلا جدال في الحب. كان راغباً فيها، فهي تذكِّره بنسـائه الجميلات اللائي لم يتزوجهن، جميلة بأي صورة يتخيّلها أيما أحد للجمال، قدٌ أهيف، وقوامٌ رشـيقُ، ووجهٌ صبوح، امرأةٌ سـتذهب وراءها إلى “بابور الطحين” إن ذهبت، وإلى السـوق إذا أزمعت أن تتسـوق، وسـتحتطب إذا حملت هي فأسـها لتحطتب. مرض زوجها ومات، رغم ما كان بحوزته من البهجة.
ظل الحاج عبد الله متكئاً في ديوانه يفكر في تلك الأرملة، كان لديه ما يكفيه من تلكم النسـاء، لكنه الآن يعشـق من أجل العشق والذكرى، لو كان في زمنٍ آخر لاتخذها “سـرية”، فالسـريات أنجبن الكثير من الملوك؛ لكنه الآن لا يملك إلا أن ينتظر عارضاً يلم بإحدى زوجاته، فالحياة لا يمكن لها أن تسـتمر دون أن تدفعها العوارض.
ظل في اتكاءته تلك دون أن يفكر في زوجاته وبناته وغنمه وقصبه،  فقد شـغلت الأرملة فكره، سـمع تصفيقاً، فنادى: (إتفضل).. دخل “إبليس الدقّاق” أطال التحية كعادته، جلس، صبّ له الحاج عبد الله  شاياً بارداً من البرّاد. تبادلا ثرثرة مكرورة. كان الحاج عبد الله في جمرٍ من الانتطار، فقد كان على يقين من أن “إبليس” ما جاء لكي يشـرب شـاياً بارداً ويثرثر بحكايات قديمة، فوجئ حين سـمعه يستأذنه للذهاب، خرج معه يزُفه لباب الدار، وهناك ما غادر “إبليس”، فقد ظل واقفاً مع الحاج عبد الله لساعة كاملة، حكى له الحكاية، حتى وصل بها إلى اللحظة التي خرجت فيها زينب إلى الخلاء ولم تحتطب، وختمها بأن قال: “الولد  قرح”.
دخل الحاج عبد الله إلى الدار، من فوره توجّه ناحية مخزنه القديم، فتح الباب بمفتاح صدئ، اقترب من صندوق خشـبي عتيق، لم يكن  للصندوق قفل، رفع غطاءه، تناول تلك البندقية “الرمينجتون” وكيّس طلقاتها، وضع أخمص البندقية على الأرض وتناول خرقة  ونفض عنها  الغبار، لا يعلم فيما إذا كانت البندقية صالحة أم لا، كان ينتظر فرصة ليجرِّبها، حملها مع كيس الطلقات وخرج.
توجه نحو زريبة البهائم الملحقة بالدار، وجد الأتان هناك، ربط حبلاً حول عنقها، أسـرج حماره وعقد حبل الأتان إلى سـرج الحمار، خرج بهما من باب الدار، اعتلى ظهر حماره ونقرط له، فسـار والأتان تتبعه.
ما توجّه الحاج عبد الله إلى أرض “اللقد”، مشـى إلى خلاءٍ آخر، خلاءٍ بعيدٍ عن سـكة الحطابين، توقف في مكانٍ منعزل، فك الأتان عن سـرج حماره وأبعده عنها، بدأت الأتان ترعى الحشـائش، أنزل الحاج عبد الله البندقية من كتفه، عبّأها، ووضع أخمصها على مقدمة كتفه، ووجهها نحو الأتان، أحنى رأسـه وبدأ يحدِّق بعينٍ واحدة، ضغط على الزناد، أحسّ باهتزاز البندقية على كتفه، وسـمع صوت الطلقة وهي خارجة، رأى دخاناً وشـم رائحة البارود، انتصب واقفاً، أنزل البندقية وصار ينظر إليها في عجب، ابتسـم ابتسـامة بهيجة، أعاد أخمصها إلى كتفه و ضغط، لا يدري عدد المرات التي ضغط فيها على الزناد، ولا عدد الطلقات التي أطلقها على تلك الأتان ولا عدد المرات التي عبأ فيها تلك البندقية، حين انتبه كانت تلك الأتان سـاقطة على الأرض، وربما كانت قد سـقطت منذ زمن طويل، كانت الدماء تنزف من جراح لا تحصى فيها، ما احتاج للاقتراب منها ليتيقن من موتها، فعدد ما أطلقه من  الرصاصات كان كافياً لقتل “بابور الطحين”.
تيقن الآن من أن تلك “الرمينجتون” ما زالت صالحة وقادرة على القتل، كان يحدّق فيها فرحاً مدهوشـاً،  مثل طفل اكتشـف أن دميته تتحرك وتصدر أصواتاً. علّقها على كتفه، اعتلى ظهر حماره وعاد لداره.
ظلت الحكاية مفتوحة لتفاصيل مخترعة، كل نهاية لها ما كانت إلا احتمالاً متوهماً. الواقع أن لا أحد يرغب أن  تكون لتلك الحكاية نهاية، أرادوا أن يتيحوا للفوضى وقتاً كافياً لتصنع رائعتها.
افتقدوا تلك الأتان، وُجدت جيفتها في الخلاء. قال “المرّاسـة” إن الحاج عبد الله ما أراد أن يُرزق منها بحفيد، طلق سـليمان الحرامي زوجته، وقد كانت حرامية، وقصّ “عبده” الحلّاق شـعر زوجته وقد كان  قصيراً،  حدث هذا بعد أن سـرت إشـاعة، بأن المرأتين قد شُوهدتا (تتحاومان) قريباً من راكوبة “اللقي”. هربت فتاةُ من أهلها ومن القرية، وقد شـوهدت وهي تعبر النهر على ظهر مركب إلى الضفة الأخرى، وقيل إنها قبل ذلك أحسـّت بالغثيان، وأن التخلق قد دبَّ في جوفها، وقيل إن معزةً في قريةٍ مجاورة وضعت “سـخيلاً” بأطراف بشـرية، والأغلب أنها قد رعت قريباً من تلك “الراكوبة”.
صار الهمس مدويّاً، حتى أن “اللقي” سـمعه وهو في “راكوبته” وعلم بكل تلك الحكايات، وقد حكاها له أحمد “ود زينب” وقد كان صبياً حكّاياً وشـبقاً، رآها صدفةً عارية وسـط القصب، فما عتقها، تناولها، ألقاها في رطوبة الأرض وندى العشـب وفضّ بهاء عذريتها. ومنذُ تلك اللحظة ما عاد يلعب في الخلاء وحيداً، ولا ينام تحت ظلشـجرة، ولا يسـتمني. وما عاد يكترث لزنِّ ذلك “الكدندار” وبهجة ألوانه، فقد صارت له الآن حكاية حقيقية، غير أنه ما كان بمقدوره أن يحكيها لعمر، فما عاد لعمر حكاية ليحكيها لزينب،  إلا أن زينب كانت لها حكاية، لكنها ما رغبت في أن تحكيها لأحد.
ذات يوم أزمع الحاج عبد الله زيارة تلك الأرملة، توجّه لدارها، طرق الباب، أشـرع له الباب ذلك العطر الذي كانت تتروّح به، ما أرادت أن تسـمح له بالدخول، سـندت الباب بجسـدها، وتركته موارباً، قال إن ما جاء به لا يمكن الحديث عنه وهما على عتبة الدار، وقفت جانباً، وأفسـحت له طريقاً وهي في عجب من أمره، فقد أطال الرجل هديله حولها، أرادت أن تعرف حاجته التي لن تقضيها له، أحضرت له كوب ماء، ما شـرب، فهو ما جاء من سـفر، قال إنه جاء ليطلب يدها..!! ازدادت عجباً، فالرجل له أربع نسـاء، حتى لا يُشـرِّق عقلها ويُغرِّب، قال إنه يريدها لولده “اللقي”، وصلت حد الدهشـة النهائي، ذلك صبي أبعد من أن تبحث موضوع زواجه منها، بدأت تبحث عن شـيءٍ تتحجج به، لكن الحاج عبد الله عاد للحديث، استمعت له، فأدركت أن ما يعرضه عليها ليس زواجاً إنها صفقة، ثروة من معيز وأرض، قليل من هذا وذاك، وعلى قلته ما كانت تملكه، وذلك في مقابل أن تضحي بشـيءٍ الاسـتغناء عنه لا يُميت أحداً، كان ذلك قاسـياً، لكنها وافقت، معتقدةً أن موافقتها شـطارة.
كان العرس حافلاً بالطبول والغناء، وكانت الأرملة عروسـاً جميلة، حتى أن الحاج عبد الله كاد أن يغيّر رأيه، وكان “اللقي” وسـيماً كعادته، بهلال ذهبي على جبينه، وجبيرة من الحرير الأحمر على معصمه، وكفاهُ محنّنتين، وقد كان ذلك هو كل ما رغب فيه الحاج عبد الله.
اختفى العريس، أول من شـعر بذلك أبوه، فهو من كان يراقبه طوال الوقت، ما زاغت عنه عيناه، ومع ذلك وجد خِلْسَـة من غفلة فنجع. قرر الحاج عبد الله أن إختفاء العريس ليلة عرسه لن يكون فألاً حسـناً، بدأ البحث عنه هنا وهناك، ما ترك مكاناً، تفقّد الزوايا وأركان البيت المخبوءة وخارج الدار، وتفقّد كل الأماكن التي ما كان من الممكن أن يختفي فيها عريس، لكن الصبي كأنما تلاشـى، ما أفاده إلا قادم جديد للعرس، فقد ذكر له أنه رأى “اللقي” في سـكة الحطابين بصحبة “أحمد ود زينب”  وأنهما كانا في عجلة من أمرهما، وأن كلاً منهما كان على ظهر حماره، ذكر الرجل أنهما قد قالا إن لديهما أمراً عليهما أن يقضيانه ويعودا، انهار الحاج عبد الله جلس في أقرب مكان وجده، ما كان في يومٍ ما محبطاً ويائسـاً بمثل هذه اللحظة، وما كان يعرف لابنه أمراً عليه أن يقضيه سـوى هذا العرس، التقط فتافيت عقله وقلبه وحين نهض كان قد تيقن من ما كان عليه أن ينجزه، انسـحب من مكان العرس.
سـار نحو مخزنه القديم، دخل، التقط بندقيته الأثرية وكيس طلقاتها، منذ عهود ما أراقت تلك البندقية دماً بشـرياً، ربما أن بها ظمأ، علّقها على كتفه، ووضع ما تبقى من طلقات قتلة الأتان في جيوبه، دخل الزريبة، شـدّ حماره، اعتلاه من داخل الدار وتسـلل من غير أن يحس به من كانوا في العرس، سـلك طرقاً غير مطروقة، ما أراد أن يتشـمم آخرون رائحة ما انتواه، فذلك أمر هو وحده يحمل همه ويتحمّل تبعاته، فهو الوحيد الذي يمتلك أوهاماً بقدر ما هو بصدد إنجازه، لن يحس ألماً، كما أن ذلك الصبي لن يحس وجعاً، فالموت ليس حكاية طويلة إنه شـكة في القلب.
ركب مطراً وعتمةً وريحاً، فكر وهو في الخلاء، لو أنه تناول بندقيته، حشـد فيها طلقاتها، ووجهها نحو الفضاء الداكن وأشـيائه، وضغط على زنادها لمرات لا تُحصى، أفرغ ما فيها وما في جيبه، فأسقط العصافير والصقور والقماري والرخم والحُبارى وأباد كل ما في السـماء من أجنحة، أفناها، ومن ثمّ عاد لداره ولذاك العرس.
واصل سـيره، ومطر أول المسـاء يسـحُّ عليه، غير مكترث، متسـلط كما إتجاه جريان النهر، فهو وحده الآن، ببندقيته العتيقة تلك، من يقرر من يعيش ومن يموت.
أشـرف على “الراكوبة”، كانا هناك، مسـتلقيَيْن تحت السـدرة القريبة من تلك “الراكوبة”، ملتصقَيْن ومبللَيْن بالمطر، والماء يرشـقهما من كلِ الاتجاهات، وأفنان الشـجرة وأوراقها تفرغ قطراتها عليهما.. سـيكون هناك موت، ما عاد لديه الخيار لينتقي.
أحسـّا بوجوده، ثم أبصراه، شـيء يسـبب الهلع، تفلّت “أحمد ود زينب”، انطلق ذلك المسـخوط عدواً، متحرقصاً كوَرَل، هزيلاً خفيفاً تجيله الريح، ما كان من الممكن أن تلحق به واحدةٌ من تلك الطلقات الصدئة، كما أن الحاج عبد الله كان ما يزال على ظهر حماره يحاول النزول، لحظات ولامست قدماه الأرض والطلقات تخشـخش في جيبه، مشـى خطوات ووقف على مسـافة غير بعيدة من السـدرة، حشـى بندقيته وأشـرعها، كان “اللقي” واقفاً تحت السـدرة، يراقب أباه، بدا شـاحباً كالموت ذاته، فقد أدرك أن الوقت قد أزف، منذُ البداية كان ينتظر موتها وتلاشـيه، الآن لن يعود أبوه إلا بجثتيهما، أرخى ثوبه وغطى عري سـاقيه، ما كان عليه أن يخاف، فهو ما كان وجوداً ليخاف، كان يحاول أن يتحكّم في لحظة الموت تلك، ما فكر فيه كموته، إنه موتها، فهو يخصها وحدها، فلتتلقى الطلقات والجراح، ولتنزف الدم، أما هو فلن يكون نصيبه من كل ذلك سـوى التلاشـي.
وقفا متواجهين في العتمة، ما تبادلا حديثاً، فليس ثمة من شـيءٍ يُقال، تمنى الحاج عبد الله لو يقول الصبي شـيئاً، وخزه عدم اكتراثه، أراده أن يعتذر.. أو يترجاه.. لماذا لا يهرب من الموت إلى مفازة، فليهرب مثل ذلك الورل، بدلاً من أن يقذف بنفسه إلى ذلك النوى البعيد، إذا هرب، فهو لن يلاحقه، ما كره فيه شـيئاً سـوى تلكما العينين الأُنثويَّتَيْن المسـتسلمتَيْن، ما تغيّر فيهما شـيءٌ حتى وهو على حافة صمت الموت، راعه جماله وهيئته، كان من الممكن أن يكون فتاة، بعنقٍ رقيق وشفتَيْن ممتلئتَيْن لا يسـتحقها أيما رجل، دعك من “ود زينب”، وقف الصبي في مواجهة حطام تلك البندقية شـجاعاً، سليل محاربين قدماء، تصوّر الحاج عبد الله أنه أجاد صنعته.
ما يجب أن يحدث، ليس منه بُدٌّ، هدلت حمامة من مكان ما في السـدرة، ودَّ “اللقي” لو أن أباه تريّث حتى تكمل الحمامة هديلها، لكن العجوز ضغط على الزناد لثلاث مرات متتالية، صوت الطلقات أفزع كل الطيور فطارت بعيداً عن السـدرة وعن الأشـجار القريبة.
سـقط “اللقي”، كحيٍّ ما مات بعد، كفه اليمنى مبسـوطة على مكان الطلقة التي نفذت إلى الصدر، تمدد، وصدر عنه شـخير كصهيل الخيل، ما طاق الحاج عبد الله ذاك الشـخير، فكّر أن لو يطلق عليه رصاصة الرحمة، لكن “اللقي” ما احتاجها، تجاوز ذاك الشـهيق، خَفَتَ، بردت قدماه وتلاشـت حرارة جسـده، واختفت الهالة الضوئية الملوّنة من حوله، أدرك الحاج عبد الله أنه قد صار إلى الموت والظلمة…”هل أنجز كل ما كان عليه أن ينجزه..؟..أم أن عليه أن يجتث خصيتي الديك..؟”.

 

*قاص من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى