التفكير الماركسي
على ما يبدو أن ذات الجدل الذي احتدم منذ قديم من الزمان حول مشروعية التفسير وجدل التأويل، ها هو اليوم يُبعث بشكل جديد، وإن اختلفت الحدة والدائرة؛ فهذه المرة لم يكن حول آيات (ربانية) تتخذ قدسيتها بشكل مطلق، حيث الرجوع إليها (عند المتجادلين) لا تشوبه شائبة، حيث هي عين الصواب الذي لا يُجرؤ أحد على التشكيك فيه، وحتى الذين انتقدوا مشروعية التأويل من خارج الدائرة استندوا على عدم إمكانية ملامسة الحقيقة المقصودة. وفي ظني أنهم بشكل ما جذبتهم تلك الدائرة، ولم يكن ذلك التشكيك إلا محاولات إفلات جاهدة.
هنا تكمنُ خطورة المقدس، حيث الانفكاك منه ينتج أشكالاً تُحاول إنقاذه مرة أخرى، ولا يحدث هذا إلا حينما يعلن المُقدَّسُ عن عجزه التام عن الاستمرار بإصدارته القديمة، فيحدثُ أن يبعثَ نفسه جديداً وخادعاً من حيث لا نحتسب.
ولكن هل أصبح التفكير الماركسي هو المرجعية التي لا يمكن الإفلات منها لدى الحزب الشيوعي السوداني؟
عندما يُؤسَّسُ حزبٌ أو تنظيمٌ على أيدولوجيا مُعيَّنة، فتلك هي نقطة البداية للعمى الشَّرِه، ذلك العمى الذي لن يكتفي بجهل الواقع، بل يتعدى لأن يحاول بكل ما ملك من قوة إعماءَ جميع البشر، فقط كي تحق الصورة التي يراها في إغماضته الأخيرة، التي سيجاهد فيها كثور أرعن يركض بقدميه ورأسه إلى الأسفل، ولن يُجبره على رفع رأسه إلا حائط يأبى التحطم.
حينما ازدهر الغرب (الرأسمالي)، وأخطأت نبوءات الماركسية، انبرى فرسانٌ جددٌ، حملوا لواء (النيو ماركسية)، التي لا أعرف ما العلاقة بينها وبين قوانين الديالكتيك، التي هي عظمة الماركسية الأساسية؛ انبرى هؤلاء الفرسان فقط ليخبرونا أن الماركسية لم ولن تسقط بعد، إذ أن لا مبرر لأفكار حديثة أن تدَّعي الأصالة إلا حنيناً لجد مُنتحل، وفقر كامل لإبداء النفس مجردة، وهذا ما يجعلني شخصياً أشك في نوايا أي مشروع فكري يدعي الإصلاح بحجة المواكبة، فهذا يعني أن (المُفكَّر فيه) يتم النظر إليه (بفم) هائل، مفتوح وجائع، وقادر على ابتلاع عالم بأجمعه، وهضمه سريعاً، ثم إخراجه كفضلات.
يدور هذا في ذهني وأنا أرى اللغط الكثير الذي أثارته حادثة توقيف القيادي بالحزب الشيوعي السوداني (الشفيع خضر)، فمنذ سنين، كنت أنتظر هذه اللحظة، فالرجل منذ فترة، بدأت مواقفه المتمردة تطفو على السطح، وإن لم تخلُ هي ذاتها من رعونة ومشاكسة، ولكن أضابير (الحزب) ربما تُخفي ما أوصل الرجل إلى هذه المرحلة من التفلت، حيث لا يخشى الرجل أن يُصرِّح على شاشات التلفزيون (وهو القيادي بأحد أعتى الأحزاب الأيدولوجية) بسقوط الأيدولوجيا، على الرغم من أن للرجل نقطةً تُحسب في صالحه، أنه وعلى الرغم من كونه أحد قادة تيار التجديد في المؤتمر الخامس، ذلك التيار الذي جاهد من أجل التجديد في الحزب من الداخل، إلا أنه هو ذاته الذي صعد المنصة الرئيسية للمؤتمر مرتضياً حكم الديمقراطية. متحدثاً باسم: (الحزب الشيوعي السوداني).
سبعة أعوام، منذ انعقاد المؤتمر الأخير للحزب، كنت أرى كيف تُسنُّ سكين هذا الرجل، والأمر في غاية السهولة، حيث نقاشات في باحة المركز العام للحزب الشيوعي السوداني (بالخرطوم إتنين)، كفيلة بوضع الرجل في خانة (البرجوازيين)، (اليمينيِّين)، (التصفويِّين)، أعداء الحزب. وليس الأمر بهذه المُباشرة، لأنه لو كان كذلك لما اُضطررت لكتابة هذه المقدمة الطويلة، إنما حصاد الانغلاق و(التفكير الماركسي)، الذي يعمى عن أطروحات الرجل عن ضرورة تجاوز النظرية والعودة إلى الأرض، هو، من يوجه فوهة بندقيته في قلب الرجل، ثم يضحك ضحكة واثق أبله.
لا أُخفي تضامني مع الرجل من ناحية، ومن أخرى أتحفَّظ على بعض مواقفه؛ فالرجل فاجأنا بتصريح كارثي (حتى وإن كان على لسان الحزب)، فقد صرح في إحدى المرات أن (الحزب) لا يتحفظ على الشريعة الإسلامية (في حال) أنها لم تتعارض مع الدولة المدنية الديمقراطية.
في أحسن الظنون يبدو أن الرجل عاشق للديمقراطية، وإن حكمت بما لا يُحب، وهذا معترك آخر بافتراض أن هذا رأي فكري (للحزب)، مُتَّفقٌ عليه بعد نقاشات (مستفيضة).
وفي الظن الثاني أن الرجل اجتهد أيما اجتهاد في تأويل النظرية الماركسية لاستخراج موقف لا يُناهض الدين، فقط كي يجعله حُجَّةً في وجه التيار الآخر لأعضاء (الحزب)، الذين وضح امتعاضهم من الشفيع وتجديداته.
فإن صح الظن الثاني، فالأمر في غاية الخطورة، حيث سيقع الشفيع خضر في ذات السلوك والممارسة التأصيلية، والغرض في هذه المرة شخصي جداً، ألا وهو تصفية صراعات حزبية على مراكز القيادة. فبالنظر إلى أطروحات الرجل مجتمعة، لن تعمى عن هذا التناقض الذي يكتنف سلوكه ومواقفه، ولكن شخصياً تركت الباب مفتوحاً على حسن الظن، حيث، ربما، أضابير (الحزب) التي (لا نعلمها) تُخفي عنَّا ما يُرتق هذا التناقض الذي يمزق صورة الرجل.
لكن ما يهمُّني هنا هو ما يحدث من تجييش للتراث المعرفي (بما فيه الماركسية)، من أجل القضاء على كلِّ مختلف؛ فحتى إن تم إيقاف الرجل من النشاط الحزبي بحجة الخرق التنظيمي، فهذا نفسه لا يعدو أن يكون سوى تراث (ماركسي لينيني)، فمهما حدث لا يمكن أن يتم الحجر على أفكار وآراء باسم (الانضباط التنظيمي)، الذي لا تخفى ازدواجيته، فتاريخ (الحزب) وحاضره مليء بالخروقات التنظيمية، التي لم ترتقِ بأصحابها إلى مشانق الفصل والتوقيف الحزبي، ولكن لأن (الالتزام التنظيمي) لا يعدو أن يكون سوى أحد أسلحة الكبت و(الإفحام) في أيدي حراس (الحزب)، فسيتم هنا إشهاره كسيف بتار في وجه الشفيع خضر كما تم إشهاره في وجوه كثيرة قبله.
لن أختم بذكر مكانة الحزب الشيوعي ودوره وضرورة تجديده، فما يحدث الآن على أرض الواقع جديدٌ تماماً، وما يُعطله عن الانطلاق هو الموروث الفظ لمدرسة العمل السياسي في السودان، حيثُ يُصرُّ الفاشلون هناك على السيادة هنا. فإذا أراد الشفيع فعلاً (مُلامسة الواقع)، والانفكاك حقاً من الأيدولوجيا فحريٌّ به (أن لا يخرج من رحم القديم)، وأن لا تظل تصريحاته ومواقفه تجسيداً لفعل موازٍ في أروقة (الحزب). وإلا سيكون حطباً للنار التي ستدفئ (الحزب) في شتائه القارس.
* كاتب من السودان