ثمار

مشهد من رواية “ماما ميركل*”

المكان: إيطاليا… روما.. مقهى ليلي

الزمان: تاريخ غير محدد 2015

يأخذ الشاب الأريتري طريقه إلى داخل المقهى في انتظار زعيم الطائفة الذي سوف يصل بعد قليل، والذي وعده بأن يجعل مستقبله أكثر سعادة. الشاب سبق له أن قابل أناساً مدعين وكذابين أمثال العم إكس، يتضح في النهاية أنهم تجار وطالبو دنيا، هل سيكون الكاهن “موسى حفتون” من هذا النوع أم هو إنسان آخر وصادق؟!

تمتلكه الحيرة ويعرف أن الإجابة معلقة على رؤية الرجل، وربما لا يمكن تحديد كل شيء منذ البداية، إذ يتطلب الوصول للحقيقة وقتاً طويلاً في عالم يخضع للتضليل.

يصل الكاهن بزيه التركوازي المميز، سبق له أن رآه به وهو يُلقي محاضرة قبل سنوات في أسمرا، كان ثمة فرصة للكلام معه وقتذاك، لكن الناس أحاطت بالرجل ولم يتركوا له أن يصافح على الأقل الرجل.

الآن يتحقق حلمه ها هما يجلسان وجهاً لوجه، في ما يشبه الحلم أن ينجح ذات يوم في حياته من رؤية الخيالات وهي تصبح واقعاً.

“أنا سعيد جداً سيد موسى”.

قالها بأدب وخجل غير معتاد لم يألفه في شخصيته.

أخذ عمامته الحمراء قدمها للكاهن قائلاً:

“قيل لي يوم تجد الشخص المناسب يمكن أن تهديها له. لا أعتقد أن ثمة أحد أهم منك بالنسبة لي الآن”.

وضع موسى العمامة جانباً، ابتسم بطريقة غير محددة أو مفهومة، ليس للشاب إدريس أن يفهم بالضبط. وظل ينتظر أن يسمع كلمة شكر ولم يسمعها، وبدأ يخيب ظنونه باتجاه الزعيم الذي طالما حلم بلقائه، هل يعجز أن يشكره. ومن ثم أزاح الخواطر السيئة وهو يرهف أذنيه لالتقاط عبارات الكاهن التي تخرج بصوت هامس يتطلب جهداً كبيراً لفرز الكلمات.

يحاول بين الاجتهاد الشديد لفرز العبارات أن يقارن بين مالكوم وموسى، يبدو له الأول أكثر بهاء حتى لو أنه كان مجرماً. الآن مع اللقاء تبدأ إذن المفارقات في التكشف وأن الإنسان يجب أن يختبر الأمور عن قرب لكي يفهمها بدقة.

كان موسى ذكياً كعادة كل الناس الذين تكون لديهم قدرات معينة في الهيمنة على عقول الآخرين، سمعه إدريس يتكلم بصوت مرتفع:

“أتظن أنني أستحق عمامة جدتك؟”

“أوه.. كيف عرفت أنها من جدتي؟”

“نحن من بلد واحد ونفهم كيف تقوم هذه الطقوس.. منذ أزمنة بعيدة وبمجرد أن يرغب الشاب في السفر لأجل الرزق، تقوم جدته بإهدائه العمامة الحمراء”.

لم يكن إدريس يعلم بذلك الطقس، هي إذن المرة الأولى التي يتعرف فيها على ذلك.

قام النادل بوضع كأسين من العرق أمامها، لم يميّز الشاب إدريس النوع بالضبط، واعتذر للكاهن بأنه لا يشرب. ضحك الرجل وهو يقدم له الكأس قائلاً:

“إذا لم تجرب لذة الشراب لن تفلح في أن تكون إنساناً”.

لقد نشأ إدريس في بيئة مغلقة نوعاً ما، لم يكن له أن يخترق القيم والمواثيق العائلية، وكان غريباً له أن يقوم كاهن بشرب الخمر. ولم يسترسل في تأمل الموضوع، سمع موسى يكلمه:

” قليلة، لا يضر فهو ينفع القلوب”.

تناول إدريس الكأس وسكبها في فمه دفعة واحدة، إذ لم يكن عليماً بطقوس الشراب، وشعر بشيء حارق في جوفه ثم تجشأ بقوة. بعد دقائق أحس برغبة في أن يشرب المزيد، وبدأ الكاهن يعبئ كأس الفتى من فترة لأخرى حتى سكر تماماً. وتركه وحيداً ثم هرب عنه.

أيقظت إحدى النادلات الجميلات جداً الشاب إدريس، كان كمن نهض من قبر رائع وسط مقهى أو بار ليلي، اكتشف أنه في الأرض التي كان يحلم بأن يصل إليها لكنه تعرض لخديعة فعلية، إذ أن الكاهن سرق ما معه من مال وأفكار، تعرف على تفاصيل من حياته ورحلته ما كان ليحصل عليها بأي ثمن. فبالنسبة لإدريس فالأسرار أهم من المال، هذه أحد الأمور التي تربّى عليها.

عندما لامسته يد النادلة، فتح عينيه ثم تذكر أنه موجود في هذا الكون، في هذه الأرض اللعينة، المهم أنه ليس في البلاد التعسة جداً. ليس معه ما يوصله لأي مكان سوى أن يطلب المساعدة. قال بتثاقل للصبية الرائعة أو هكذا رآها بين خلسات السكر:

“هل يمكن أن تساعديني؟”.

دققت فيه، يبدو لطيفاً رغم وضعه السيئ مع الشراب، ولأنها خبيرة بهذا الأمور جداً فلديها تاريخ عميق مع السكارى، فقد علمت أنها المرة الأولى وقد تكون الثانية التي يجرب فيها هذا الشيء. ولم يكن مستغرباً لها ذلك ففي السنوات الأخيرة تحدث مثل هذه التداعيات مع اللاجئين كثيراً هؤلاء الذين بدأوا في تغيير تاريخ الشراب في المدينة.

أمسكت بيده قادته إلى الباب الخارجي، نادت على رجل كان يقف ليس بعيداً أن يسلمه لرجال البوليس.

* تصدر قريباً عن دار المصورات، الخرطوم

* روائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى