ثمار

قصيدة النثر.. وشياطين أخرى

محجوب كبلو

بدءاً، لم تأتِ قصيدةُ النَّثر كوحشٍ قادمٍ من المستقبل قاطعاً الطريق على قصيدة التفعيلة، بل هي إجابة على سؤال أزمة هذه الأخيرة، وأزمة الشعر العربي عامة. إذ يبدو أن أزمة الشعرالعربي تطال سؤالاً جذرياً، يصل إلى درجة المفهوم؛ مفهوم الشعر نفسه في الوعي العربي، وهو السؤال: هل (مفهوم شعر) العربي، أو كما يفهمه العرب، يتطابق من حيث الدلالة مع الوعي الآخر الكوني؟

يبدو أن الشِّعر العربيَّ منذ بداياته التي وصلت إلينا، كان وظيفيَّاً لحدٍّ كبيرٍ ومنشغلاً بالشؤون الزمنيَّة السُّلطوية، غالباً، إعلام القبيلة وما إلى ذلك من شؤون المعاش.

لقد حدَّدت صرامة وعزلة هذا الواقع، أشكال هذا الشعر ومضامينه – وثبت على ذلك لما يقارب الألفية ونصف الألفية. فاكتسب بذلك دلالات في الوعي العربي لا زال يَعْمَهُ في ظلماتها.

ولم تأتِ قصيدةُ التفعيلة بجديدٍ حولَ توظيفِ الشِّعر في الإجابة على غير أسئلته. غُذَّى ذلك واقع التحرر الوطني وقضايا المجتمع بعد الاستقلال– (رُبَّ نافعة ضارة، أحياناً؟).

* هذه العزلة المفاهيميَّة زادت الشَّعر العربيَّ عن مرتادات الشعر الإنساني المألوفة. ويتبادر إلى ذهني سؤال غريب: إذ رغم أن المتنبئ هو الصوت الأعلى في الشعرالعربي، إلا أننا نكاد لا نجد لهذا الصوت صدىً في الثقافات الحيَّة، ولا أظنُّ أنه قد تمَّت ترجمته إلى لغة أخرى، هذا في الوقت الذي تمَّت فيه ترجمة أصوات أخف نبرة وأخفت صيتاً كفريد الدين العطار والخيام والنفري، ولقوا احتفاءً واحتراماً على مستوى الثقافة الإنسانية. هل يعود ذلك إلى تجسيد المتنبئ لنموذج الشعر العربي المُنعزل مفاهيميَّاً على الصعيد الإنساني؟

من هنا يمكننا القول إن قصيدة النَّثر ليست تجاوزاً إبداعياً بل هي تجاوز مفاهيميٌّ للشِّعر العربيِّ، وتشكل قطيعةً معرفيَّةً مع غناء العزلة. هذا اقتراب من المفهوم الإنساني الشامل لمُصطلح شعر، وقد آن للوعي العربيِّ أن يصحو من هدهدة القوافي، إذ لا يُتوقَّعُ من وعيٍ راشدٍ أن تتوحَّد لديه القافية والإيقاع، حتى تستقبل حساسيته المؤدى الشعري. الشعرية فوق ذلك إذ هي العنصر الذي يُحيل أي أداءٍ بشريٍّ إلى فن؛ العنصر الذي بغيابه يتحول مقعد فان غوغ الشهير إلى مقعد فحسب!

*شاعر وكاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى