لخبطة
في الرواية التي أكتبها الآن هناك شخصيتان دائما ما ألخبط بین أسمیهما رغم أنهما مختلفتان في كل شيء.. فلنفترض أن الشخصية الأولى اسمها “دومينيك”، موظف حكومي بسیط وطیب القلب، لدیه حسن نیة تجاه الناس فتجده دائما مستعد لمساعدتهم وإیثار نفسه من أجلهم، لذلك من الممكن أن تقول أنه مسكین! فهو دائما محاط باستهزاء زملاءه في العمل واستغلالهم له، وبتسلط رئيسه وإساءاته التي لا یحاول حتی الرد علیها.
أما الشخصية الثانية فاسمه “ألفانسو”، شخص شریر تماما ویعمل قاتلا مأجورا.. “أي أنه یقتل الناس من أجل أن یعیش”.
ألم أقل لكم أنهما شخصيتان مختلفتان تماما.. فلماذا إذن ألخبط بين أسميهما؟
أحيانا أجدني أكتب كالآتي: “صفع دومینیك أحدهم..” وأكون قاصدا ألفانسو، فدومینیك لا یصفع أحدا أبداً؛ إذ يؤيد مبدأ اللاعنف! وأحياناً أقول: “جاء المدیر ورمی الأوراق في وجه ألفانسو قائلا.. ما هذا التقرير السيء أیها الموظف..”.. وأكون قاصدا بذلك دومینیك طبعا، فلو رمی المدیر الورق في وجه ألفانسو فعلا، فسیحمل ألفانسو الكرسي فورا ويشق به رأس المدیر!.
إذن لماذا ألخبط بين الاسمين؟! هل يا ترى هذه اللخبطة هي طریقتهم في محاولة إيصال شيء لي!! “فحتى أنا الراوي لا علم لي بهواجسهم الداخلية”.. ربما یود دومینیك لو يصير ألفانسو ويود ألفانسو لو يصير دومینيك!! وذلك بالضبط ما اكتشفته لاحقا؛ إذ تبین لي أن طیبة دومینیك وابتسامته الدائمة لا تعكس ما بداخله من كراهية، فقد أراد دائما أن یخنق مدیره في العمل!، أما زملائه فيود لو يفجرهم بقنبلة لا تترك منهم أثرا !،، أراد أن یكون شریرا يقابل هؤلاء البشر المزعجين بتكشيره ويصفعهم واحداً تلو الآخر، بدءاً بجاره المزعج ثم أطفال الحي وحتى صاحب البقالة، أراد أن يفعل كل ذلك.. لكنه دائما ما يصتدم بضعفه وروحه الطيبة المسامحة!.
أما ألفانسو .. فكل طلقة تخرج من مسدسه لتقتل أحدهم كانت تتبعها دمعة تنهمر في داخله.. كان يود لو يصير رجلا مستقيما؛ يحب الناس ويرد الإساءة بالإحسان وينثر الحبوب للحمائم بدل أن يصطادها، كان یحلم دائما ببیت عادي، وزوجة طیبة وراحة بال ورزق یأتي من عرق جبینه، لكنه دوما ما يصتدم بقلة صبره وتهوره وكرهه العظيم في لحظات الغضب لكل البشر.
وبذلك اكتشفت لماذا ألخبط بين أسميهما؛ لأنهما يريدان أن يتبادلان فعلا! دومینیك الطیب یكره نفسه ویرید أن يكون شريراً، وألفانسو يريد أن يكون طيباً.. “ففي الواقع حین تود أن تتغير فذلك یتطلب منك الكثير من الزمن والتعب والقرارات والتضحيات، وبعد ذلك ربما تنجح وربما تفشل، أما هذه الشخصيات الروائية فیبدو أنها ذكية فعلا، فكل ما فعلته هو أنها أربكتني أنا ككاتب وجعلتني أتلخبط بین الأسامي حتی أزهج وأبدلها ببعضها.
“ما أغرب الشخصيات حین تفرض نفسها علی الكاتب! وما أغرب الكاتب حین یصیر مجرد مستمع في رواية هو من يكتبها “! قررت إذن أن أحل المشكلة.. ليس بتبديل اسميهما.. وإنما بتبديلهما جوهريا كشخصين حقیقیین! ولكي يكون تغيرهما واقعياً وفي سياق درامي.. نسجت له حبكة خاصة؛ وهي أن یكونا هما السبب في تغير بعضهما.. فجاء الأمر كالآتي.. جعلت دومینیك “الطیب” هو الضحية التالية للقاتل المأجور ألفانسو.. وقف ألفانسو خلف أحد الأشجار یراقب دومینیك الذي كان علی وشك قطع الشارع، رأي دومینیك رجل أعمى يود أن يقطع الشارع أيضا فمسكه من یده ومشی به، في تلك اللحظة كان الفانسو قد صوب مسدسه ناحية دومینیك لكنه تراجع حین شاهده یأخذ بید الأعمى فقرر أن ينتظرهم حتی یقطعو الشارع، لكنهم لم يقطعوه.. فأثناء مشيهم مد الأعمى یده لداخل جیب دومینیك وأخذ محفظته، أحس دومینیك بذلك فالتفت له مندهشا وقال بانفعال:
“أيها السارق القذر”!
حاول الرجل أن یجري لكن دومینیك جذبه نحوه ولكمه بشده حتی أسقطه أرضاً.. استغرب الفانسو البعيد أیما استغراب مما حصل “كيف يلكم دومینك هذا الأعمى وفي منتصف الشارع هكذا.. لابد أنه فعلا یستحق القتل!”.. جری فورا نحوهما لحجزهما ويقف في صف الأعمى إن دعت الضرورة، وحين وصل.. لم يستطع أن یفك دومینیك عن الأعمى إلا عبر لكمه، نظر دومینیك لألفانسو بغضب فاندفع نحوه وتصارعا ثم دفعا بعضهما وسقطا، لكن الأمر الأخطر هو أن مسدس الفانسو سقط عنه وتدحرج جوار دومینیك، نظر دومینیك للمسدس مرتعبا، لكنه حین رأی ألفانسو والأعمى أمامه أخذ المسدس فورا وصوبه نحوهما! “وتلك كانت لحظة مفصلیة في القصة بالنسبة لدومینیك”.. فقد علت دقات قلبه واندفع الدم في العروق مشعلا فيه حماسا عظيما، خصوصا حين رأى الخوف في أعين الرجلين أمامه، “وكل ذلك كان بسبب المسدس الذي حوله فجأة لرجل قوي”! ثم فجأة انطلقت منه دون قصد رصاصة انغرست في فخذ الحرامي جعلته يولول صراخا، رأی ألفانسو سيلان الدماء جواره وأدرك مدی قربه من الموت، نظر لدومینیك بخوف وأخذ یبكي ويترجاه قائلا: أرجوك لا تطلق علي، أرجوك أرحمني”! وهذا ما حدث بالضبط.. إذ حدق دومینیك فیه بغضب ثم قام وجری مبتعدا، تنفس ألفانسو الصعداء.. “وقد كانت هذه لحظة مفصلية في القصة بالنسبة لألفانسو”.. فقد قرر بعد نجاته الإعجازية هذه من الموت ألا یمسك مسدسا مرة أخری، فالحياة أعطته فرصة جديدة وعلیه أن یستغلها بنسيان كل ماضيه الإجرامي، بل علیه أن یصیر إنسانا جديدا تماما، یبادل الناس الحب والإحترام ویسعی لمساعدتهم ولا یرد الإساءة سوی بالإحسان، أما دومینیك الذي جری حاملا معه المسدس فقد أعجبه شعور إطلاقه للرصاصة، “إذ رأی كم هو جميل أن تكون قوياً “.. لذلك قرر حینها أن یخرج كل أمانيه الشريرة، وأن یبدأ بالأنتقام من كل من استهزأوا به في يوم من الأيام، بدءا بمديره في العمل…! وهكذا حلت المشكلة.. صار دومینیك هو ألفانسو وألفانسو هو دومینیك، كما تمنیا تماما، لكني كراوي لم یكن تهمني حقا تمنياتهما، ولم أفعل ما فعلته سعيا لإرضاء الشخصيات أو لإضافة دراما مشوقة للرواية أو حتی لتدعيم الحبكة أو لإضفاء بعض الواقعية لها.. بل الذي يهمني حقا هو أنني لن أتلخبط بين الاسمين مجددا! فقد كانت اللخبطة أمرا مزعجا حقا.. لكن المشكلة أن هناك أيضا شخصيتان صرت أتلخبط مؤخرا بين اسميهما!! رغم أنهما مختلفتان في كل شيء.. أنا وعاشق البطلة…!