ثمار

فقدتها ! .. فقدتها !

محمد عثمان2

(1)

في عائلتي، انجاب التوائم متوارث.

كانت جدتي احدى ست شقيقات توائم، خرجن على ثلاث دفعات. عندما تزوجت جدتي أنجبت ست شقيقات أيضاً، لكن هذه المرة فقط اثنتان منهن كانتا توائم، احدى الشقيقات التوأم كانت أمي.

لم تنجب أي من خالاتي الخمس سوى بنات.

انجبت كل منهن ست شقيقات، اثنتان منهن توائم. كان الأمر بمثابة “تقليد عائلي”، لم يتجرأ أحد أن يكسره، أو أن يخالفه. حتى تزوجت أمي، أصغرهن…

أذكر جيداً فترة حمل أمي بي، لم تكن الفترة الأجمل في حياتي، ولكنها الذكريات الوحيدة التي أملكها عنها، أو بالقرب منها. لم أكن الوحيد في بطن أمي، كان المكان ضيقاً ،ولزجاً، ومزدحماً… كنت أنا دائم البكاء، أما شقيقي فهو يلصق قدميه بوجهي مرغماً إياي على شمهما. وعندما أرفض، يركلني على رأسي، وأصيح إلى أمي شاكياً، فلا تسمعني.

كان يأخذ حصتي وحصته من الطعام ويجلدني بالحبل السري ان اعترضت.

في كل مرة يلصق أحدهم اذنه ببطن أمي كنت أصرخ مستنجداً ليخرجوني من هنا، فيبعد اذنه بعد عدة ثواني، واسمعه يقول:

“ما أحلاهم، يضحكون!”

منعني شقيقي من تناول الطعام، ظلّ يخبرني بأن أمي تحبني أكثر منه، توعدني بأنه سيخرج قبلي فيكون هو الأكبر وتعود أمنا لحبه اكثر. كان يرفض سماع أقوالي، وأحاول جاهداً أن أقنعه بأنه يتوهم، ولكنه يدعي انه لم يسمعني.

كانت أمي تأكل كثيراً “لتطعم التوأمين”، ولكن أخي كان يأكل كل ما يأتي عبر “حبلنا السري”. أصبح كالبالون، وأزداد كسلا، لم يعد يملك الطاقة ليضربني كما كان يفعل، فهو يأكل، وينام، “ويتّسع”!

أما أنا فبدأت أهزل، كنت أرى طبقات جلدي الرقيقة وقد انطبقت على عظام أضلعي الهشة، وكانت أثار الجَلد تبدو جلياً عليها. وكان أخي يأخذ المساحة الأكبر، تاركاً لي مساحة لا تكفيني إلا للالتصاق بالجدار…

كنت أخبر نفسي بأنه سينفجر يوما ما، وأنني سأملك كل ما يأكله هو لنفسي، ولكنه لم يفعل…

نظرت اليه في احدى الليالي وقد منعني شخيره، والجوع، والمرض من النوم. كان خداه المتوردان منتفخان، وأرجله، وعنقه، وايديه غاصت في كرشه المستدير، كنت ملتصقاً به وبالجدار، ومختنق…

تتملكني نوبات غضب في مثل هذه الليالي، فأطمئن نفسي بأنه سينفجر قريباً، وحتى إن لم يفعل فأننا سنخرج على اية حال، وستطعمني أمي بعدها وتحميني منه… أملي هذا على نفسي عدة مرات، حتى تزول النوبة.

ولكن نوبة غضبي لم تزُل في تلك الليلة، وبدأت الأفكار تراودني: ماذا لو لم تستطع ان تحميني أمي منه؟ ماذا إن كانت لا تريد أن تحميني منه؟ ها نحن بداخلها وهي ترفض الاستماع، تدّعي بأننا بعيدون جداً، وأن أصوات صرخاتي البائسة هي ضحكات، وضرباتي على جدار بطنها ليست سوى “مداعبة”… تسميني بالشقي! أتعلم يا ترى كم انا فعلاً شقي…؟

تأملت في أخي، كان يغط في نوم عميق. ما أطيبه وهو نائم! لا يضربني، ولا يهددني، ولا يأخذ طعامي!

نظرت إلى حبلنا السري، كان يعتصره بيده وكأنه يعلم بأني سأفكر أن أخذه أثناء نومه. تساءلت: أيستحق الأمر المخاطرة؟

مددت يدي الهزيلة، كنت أرتعش بشدة، خوفاً من ايقاظه، ولكني سحبت الحبل من يده، ولم يستيقظ.

انقلب على جانبه وكان الحبل بيدي حينها، تمنيت لنفسي أن يظل نائماً هكذا الى الأبد.

لا اعلم كيف علمت بهذه الطريقة آنذاك، ولا أعلم أي فطرة شيطانية تلك، ولكنني اتبعتها. لففت الحبل حول عنقه، ربطته جيداً، ثم مسكت بطرفيه، وشددت! تم الأمر بسرعة شديدة، توقف الشخير، واهتزاز مكاننا بأنفاسه، وعمّ الصمت…

علمت حينها أنى قمت بالشيء الصحيح، أخبرت نفسي بأن أمي لن تغضب، وبأنها ستفخر بي عندما أخبرها بما كان يفعل.

فككت العقدة من عنق شقيقي، ووضعت فوهة الحبل على سرتي، وأكلت حتى شبعت، ثم نمت، ولأول مرة، جيداً!

لا أعلم ماذا حدث بعدها، فقط اني استيقظت في غرفة العناية المركزة في المشفى، وبأن أمي “ماتت”.

(2)

قلت:

“لا تقل يا أنا، ولا تُعبّر، لا تفكر، لا تنصت… بل لا تستمع أصلا!

دع هذه التوافه لي، لا تفعل شيئاً يا أنا! لا تشتتنا يا أنا، رجاءاً، لا تشتتنا!

ألا يكفيك اعطائي اياك قلمي لتكتب؟ ألم تكن الكتابة كل ما اردت؟ إذاً أكتب يا أنا، أكتب على الأوراق البيضاء، وخط كلماتك على الجدران، وعلى كراساتنا، وأوراق أبي الخاصة بالعمل، والوثائق، وتلك المذكرة التي تخبئها أسفل وسادتنا…”

“نعم أعلم بشأنها” أرد على الدهشة التي يحاول جاهداً إخفائها، ثم أواصل:

“لوثها بكتابتك! أما افكاري البيضاء التي أضعها في أذنيك فلا تلمسها! اغسل أذانك جيداً واغلقها بإحكام، لا تلوثها! لا تفكر يا أنا… هكذا اتفقنا!”

صار أنا يخيفني. لطالما كان مطيعاً، لم أعتد على عصيانه، ولن أعتاد. كنت أمسك بزمام الأمور ولكني فجأة فقدت السيطرة… يدفعني هذا الأنا للجنون، يستنزف كل طاقتنا في اعمال ليست له! لم أعد أستطع النوم في الليل. صارت أفكار أنا تزاحم أفكاري، تسبب الضجة في أذناي، تصدر أصواتاً كمحطة راديو مشوشة، لا أستطيع فهمها، ولا يخبرني عن ماهيتها.

لم يعد يخاف الظلمة، بل وكأنه صار يفضلها على الضوء، لم يعد يخضع لتهديداتي، وصار التحدي هو اللغة البارزة في كل ما يفعل.

أخبرته في الليلة الماضية بأنه إن لم ينم فأن الوحوش ستأتي اليه، فرسم ابتسامة تهكم على وجهه، مطّها من اذني الى اذني الأخرى وهمس:

“ألم يخبرك أحد؟ لا تأتي الينا الوحوش، لم تفعل ذلك قط، ولن تفعل! نحن الوحوش…

عندما كنّا صغاراً كنت أهدد أنا بأن اطعمه للوحش المختبئ أسفل سريرنا، كنت في الليل أتسلل إلى أسفل السرير بينما ينام أنا أعلاه، أهز السرير وازمجر محاولاً جاهداً أن أخفى صوت الابتسامة العريضة المرسومة على وجهي، كانت الأصوات تصل إلى أذني أنا النائم، وتخترق طبلتيهما، وتدوي الزمجرة برأسه، فتحول أحلامه إلى كوابيس. وعندما نصحو في الصباح، يكون “أنا” بللّ السرير أثناء نومه، فأجد لنفسي وسيلة أخرى لتهديده.

كنت أحب الخروج، وكان أنا منطوياً انعزالياً، يهاب الاختلاط بالناس، ويخاف من عبور الشارع ، والظلمة، والتعرض للضرب ، والفضيحة! كان يخاف من كل شيء… حتى ظله!

يترجاني في كل مرة أريد أن اخرج فيها أن لا أفعل الليلة، أن نبقى في البيت اليوم… “فقط اليوم!” وكنت اهدده بالظلمة، وبأن اطعمه للوحش أسفل سريرنا، وبأن ادع فتية الحارة يضربوه، وان افضح تبوله ليلاً، فينصاع!

لم يعد أنا كما كان، تمرّد عليّ هذا الشقي، ولم أعد أعرف كيف أتصرف معه.

كنت اشغله بالكتابة أياماً واتظاهر بأنه غير موجود، أحاول تناسيه. هذا “الأنا” الذي لطالما أخفيته… صار يفرض وجوده عليّ، يفكر، يصرخ، يشاركني في محادثاتي، ووجباتي، وينازعني ساعات نومي!

كأنه يعاقبني، يمنعني من النوم ليلاً، يضرب بأصبعه على لسان مزماري في كل مرة آكل فيها، يخبرني بأني لست جيداً بما يكفي، ولا يعجبه أياً مما أقوم به!

عندما كنّا في الرابعة عشرة قرر أصدقائي معاقبة زميل لنا رفض مساعدتنا في الاختبار، وانضممت اليهم، كنت أمسك بالفتى من ياقة قميصه، وكان الفتى يقاوم، فلكمني.

عندها أخرج أحد أصدقائي خنجراً كان يخبئه تحت قميصه وطعنه…!

لاذوا جميعاً بالفرار، ولكنّي لم أستطع الحركة، كانت الدماء تسيل من بطن الفتى، وكان أنا يصرخ برأسي، يخبرني بأنه اخبرني الا افعل، ان لا انضم اليهم…

ظلّ أنا يرى الحادثة في كوابيسه، يعيد فيديو ذلك اليوم ليلة بعد ليلة، يبكي على وسادتنا حتى يبللها، يخبرني، ويذكرني، ثم يعيد اخباري بأنني مُذنب.

(3)

– لا أعرف كيف فعلها أنا، ولم أعد أهتم بأن اعرف. فقط أريده أن يتوقف، أن يرجع اليّ مفتاح دماغي الذي اغلق بابه وراءه ودخل، وتركني هنا، بانتظار خروجه!

يتسرب من اذناي أصوات دقات إزميله على جدران رأسي، وأشعر بشظايا العظام المتطايرة ترتطم بعينيّ من خلفهما، وكأنها تدفعها للخروج من مكانها، فاغلقهما، اترجاه بأن يتوقف، فيدّعي بأنه لا يسمعني، بل وأشعر بضرباته تزداد قوة، أرى الكلمات جلياً وهي تحفر على رأسي… يدون احداث حادثة مقتل زميلنا حرفاً حرفاً، لا يترك اية تفصيله، يكتب دون خجل عن خوفه آنذاك، ويكتب عن نصحه لي، وعن الصراخ، وعن دم الصبي، والخنجر، وهروبنا…

أشعر بالإزميل يخدش على الكلمات، ويعيد كتابتها، ثم يخدشها مرة أخرى، وينقش مجدداً!

يصيغ المسودة الأولى، ويعدل فيها، ويكتب مسودة ثانية، ولا يعجبه ما يكتب، فيعيده!

أريده أن يتوقف، فقط أريده أن يتوقف.

ربما هذا حلم سيء، ربما أكون مصاباً بالحمى، وهذه مجرد الكوابيس التابعة لها، ربما ان غسلت وجهي قد تزول دقات الازميل، ويعودُ انا مطيعاً.

– لا اعلم ما الذي توقعته، ولكني صُدمت عند رؤيتي لنفسي في المرآة، كنت طبيعياً، عيناي في مكانهما، لا تشققات على جلدي، لا دماء، لا نقوش، ولا حتى آثار ارهاق، لا شيئي غيري! لا يمكن ان يحزر شخص ما ان برأسي كل هذه الضجة، ولا ان يرى الكلمات المنقوشة على جمجمتي، ولن يجدوا انا وازميله إن اخذوا صورة اشعة لرأسي. أبدو سليماً معافى، لا شيء ببدني. لذلك لن يستطيع أحد انقاذي، لا طبيب، ولا مسكنات ولا شيء… لا شيء على الاطلاق!

يتملكني اليأس عند تلك الفكرة. أسأبقى هكذا للأبد؟ هل اترك انا يخط أفكاره اللعينة على جميع اركان رأسي؟ ماذا فعلت ليعاقبني هكذا؟ انا فقط اردت ما هو جيد له، اعطيته قلمي ليكتب! هو أراد ان يكتب فتركته ان يفعل ذلك شريطة ان افعل ما تبقى! هكذا كان اتفاقنا، فلم يا انا تعاقبني على مالم اقترف؟

سأهلك، اجل سنهلك لا محالة. سنُجن وسُيلقى بنا في مركز للمجانين، أهذا ما تريد يا انا؟

– صداعي اصبح لا يحتمل، وكان الألم يزداد مع كل حرف ينقشه الازميل والمطرقة، كنت لا اريد شيئا سوى ان يخف الألم، او انقله من هذا الألم الوهمي، الغير موجود، الذي لا يبدو في المرآة ولا يظهر الى الم قد يراه الطبيب، الم حقيقي!

ثبتُّ يداي على جدار غرفتي، وبدأت بضرب رأسي عليه، بعد أول ارتطام احسست بأنا يسقط على الأرض، ولكنه سرعان ما نهض، وحافظ على توازنه وبدأ يزامن بين طرقات المطرقة، وارتطام رأسي بالجدار:

أضرب، فيضرب، أضرب، فيضرب، أضرب، فيضرب… وهكذا!

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى