ثمار

ثقوب أسيفة

%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%b9%d9%85%d8%b1-%d8%ab%d9%82%d9%88%d8%a8

دغدغات المشيئة المنتقصة

 

ثم تكاثرت عليَّ الرقة حتى بدوت كمخلوق الحب، وتوالدت الحركات فجعلت جسدي حفلاً من ظمأ. وتكشف لي اسمي معلق عند طرف بصري. مثل خصية، لا يقوى على الوقوف، وبيده حزمة من رغبات ذابلة.

لكن شيئاً كالجسد البشري كان يحاول أن ينطلي؛ أمعاء بلا حساب، أعضاء اللاسبب، أعضاء تَحِتَّها عن جلدك فتنمو ثانية، دماغ منخوع، إلخ… وظمأ لا تعرف من أين  يأتي. فلنمض به نحو الجرثوم؛ يطفق يتخلص من أعضائي واحداً واحداً، وتنحرف قسوتي لتصيب مقبض اليم فيبدأ يغني ويصيب كل ما حوله بالولع. ويُولِّي اسمي هارباً. مثله يطلق تفتيت المسافة ساقَيْه للريح فيما كنت أحظى بالقُبلة أخيراً من شفة الرحمانية مُتأهِّباً لتسريب جهلي.

كان عليها أن توقظ في رئتي ديدان المشيئة الموحشة، حتى يكتمل الانطلاء على حديد أضلعي وآباري ومياهها الموغلة في غراماتها، وعلى دورة خصوبتي وأعضائي التي تلعب البلِّي مع الأيلولات طيلة نهاراتها.ويكتمل على وساوسي  حتى أصاب بالأرض وأختلط بأسمائي المبعثرة، فما أدري ما الصيغة وما الذي ينطلي؟فأخطئ ملامسةً وعناقاً أدخرهما عند بيت الجدة رغبة، ولا أدرك خطأي إلا بعدما يستطيل بي الظمأ وتترقرق بأنحائي عيون الحنان، فأُعوِلُ بجنوني، وأطفق أحصبني بالثقوب؛

ثقب؟

بعض ما حدث؛

الثقب يتلوي، العالم يتلوى بين ذراعيك، أحدهم يجقلب في الصفحة الثمانين، والشهقات تمسك بخناق الفلوت الواقف يتفرج على النغمة، والفيلم المكرور التفاهة يأكل حصة التاريخ كاملة ولا يترك من رشدي ما يقيم أود خيانة.. ولكن ليس هذا ما جرى، ولا ما هرولت كي أتخلص منه؛

غير أن المطر المتلوِّي بعينيَّ لا يترك مضغة حصيفة إلا استزرعها بالتخمين فثمة غصن يتدلى من مؤخرة عنقك تتعلق به قطعان من الوسوسات فلا تؤخره علينا، ولا تمت عند هذه الصفحة، فأنا لم أجد ما جئت أقتنصه.. ولا أكلت رغيفة ما حدث في صحيفة الأسماء، والمطر المتلوِّي لا يترك لي رقعة أتجفف عندها أو ألتقط ثماري.

حسناً، أتذكر بعض ما حدث؟

كان القطيع الأخير قد عاد من الذبح متأخراً قليلاً، فأشعلنا تحرقاتنا وتحلقنا حوله. أردناه  يسجل اسطوانته الأشهر. شيدنا أسئلة مهلهلة من جهة، ولكنها قدر ما يستر شهوة اللحظة. حطمنا بعض موجاتٍ، وتلكأ الطرب في الخروج من الحجر المعاق وهو ما اضطر جأر أن يستمني طيلة الظهيرة على قطرة المطر الركيكة، كيما يتلاعب بالمفاتيح. لكن الفاشل ذاك.. الطيع.. العائد من الذبح دون العثور على موته.. والحاصل رغم ذلك على إجازة بموت الوقت، لم يلحظ تلكؤاً أو إسراعاً.. لم يغننا ما يبلل الريق، بل سحب جهة مسكينة وتوسَّد يده وشخر. حتى قررت تخمة لا يدري من أي بلدة هي أنها منه فأخذته بالأوتار وانسكبت الثقوب على الكؤوس.

أي قطيع هذا؟

 

ثقب؟

نطهو الكون على عين العاطفة. نطهو القسوة وأطباقها المتلوية. نطهو جذوع الكائنات، المسافات، وما يعنُّ، حتى تتدلى أزهار النسيان من الأعين. نطهو البورخيس البرِّي المُعشِب.

نطهو هربَ الأعضاء من أجسادها وخيالها يكاد يَنْفَقُ في المُقتبل. نطهو أقراص الشهوة وسيقانها الدُّخانية، نطهو الوحشة بأصواتها كُلِّها، نطهو مذاق الجثيم، نطهو أفخاذ الموت دون سواها وندع ما تبقى منه لوصل الأرحام.. نطهو أعصابَ الكُرَّاسات، واليمُّ المصفَّي خلال قماشة الأزل، والأبدية تُـقـلِّم نـَفَـدَها،  ودَوْدَوْ بَيْ يتدلَّى. نطهو ما بين يدي الرمل، وما يكاد، وما يُشقِّق المرآة.. نجتمع ببطن النشيش، ننفلق جينومات، نتعرى سديميات أمام باب المتاهة كل يوم ونُرضعها من ثدي البداية حتى تطفو حلكاتٌ على الحقول وتُسلم خُطومها.. تنفَـلِـقُ. نمتحنُ نوايا الهذيان، نمتحن اللمفا فيُصاب الكلام بالطفح الجلدي.

ننزع التمساح!

ننزعك عن الفوهات..

!

!

نتدفق!

ثقب؟

ما بال الطرق خفيف هنا؟ من الذي قضى حاجته بهذه الصفحة؟ أهو حيوان الموت؟ يا للرائحة!

وما بالها تنزوي أرتال النظر المتكدسة بعينيك عنها. ربما عليك أن تمنحني الطرف الذهبي من نارك المتقيحة أعتصر منها ما ينضج بصلتي. أين تمضي بها وحدك أيها الجحود؟ عندي بها ثقب. فكَّة ألم. نخالة كائن. زجاج مكسر بقلبي.. عندي، ولست وحدك بها. فدعها تعتني بالنمل الملول.. فالعضو ما زال باكراً والسطور القاتلة لم تنجلِ، وفصول الجحيم منعقدة.

اتركها! أين تمضي بها وحدك؟! عليها أن تنتزع لحمي الممضوغ من أنياب الحروف؛

عليها أن تلتقطني من نهم المائدة.. يتوجب على تلك الوحوش أن تستريح.. أن تجوع قليلاً..أن تقضي حاجتها بمكان آخر غير هذه الصفحة.. بعد أن أتت عليَّ.. أريدني مرة أخرى.

ثقب؟

ولو بالحلكة كلها! ولو علينا يتصاعدُ المرجان! ولو بجرثومة الهلوسة؛

أمضي مع الذنب إلى آخر حنك الندم، ثم أخلع ما تبقى من خيبات أدفع منها ثمن الذاكرة. أمضي معك حتى إجفالة العذر. أضع رغبتي بين قصبة هوائك والنظر. أمضي مع نهر البذاءة، أصاب بالعالم. أقضي بقية هيئتي هواءً لامتناهيَ الرِّقة. أقضي هيئة اختناق.

أمضي معك؛ لولا أني أجهل أنحائي ويوقع بي حيوان الفقط! لولا أني مصاب بمراحيض الأسئلة. أمضي معك؟ ولكن ماذا سيكفي؟ ولا شيء يمحو هذه الغابة من الظن الأعشى.. ونحن نجهل غرائز؛ البيت، والظل، وأحابيل الآلهة، والمُهمَل.  نجهل غرائز الكلمات!! كيف أمضي معك؟ ولا أين لنا سوى شتلة معتمة؟ أتراها ستفي هذه المسكينة؟ وماذا سنصنع بصيغة الأيلولة عند نباتات الظل والسخريات الرائجة؟!

ثقب؟

وقلت يكون  حجاب من اللامبالاة نرسل أثناءه حَـبَّ…..الأبيض على الأرض، والطير يبسط إرث الجهات وينهمك في عقد المقارنات. قلت تُبسط أثناءه مائدة المسافة كاملة، وتدرس قـَـسَمَ الحمام الشهير الذي سيصير إنجيل الرسل بعد تيه ونيف، وتُعَدُّ مسائل شيقة عن مكائد الجهات والليل ذو الكف الغليظ الذي يلتقيك في أول الخطو أو الليل الرقيق الدامع الخجول الذي يمكث عند الوحيد.. وتُبسط رعونة الفجر إذ يَدْهَمُ الفلوات قبلما تلبس ما يستر السر فيها.

قلت غشاءً رقيقاً تجيز متاهتنا عنده نومها وتنحلُّ الجهات؛ فأي وطء سلكت أيها المذعور حتى بلغت بنا هذه الإشراقة من الرغبة؟! أي مبعوث انتخبت يا عنايتنا بزهور الخيبة؟ أيا هذا اليكاد!

لأي مجازات نتأهب في عمانا؟ ونحن اعتمرناك في شكنا الطويلاستعصاء خيالات وضمور في قوائم السبب. ونحن اعتمرناك ثم نصَّبتنا ألوية وسلطت علينا اشتباه الأفولات. وأنت سرحتنا من فجيعتنا ووقيعتنا وألقمتنا شهوة المتاهات، فأين وماذا نصيب؟ وأنت توعدت بالليل أشباح مواجعنا وأرواحها المحبوسة بحظائر حنيننا، وأوعدتنا بالمنامات تطلي القلب بالبصر المحتقن عند كف الرجاحة. وشيدتنا بالخذلان وعظاته، وأخفتنا بالمؤوَّل يُلقـَي من أعلى أسوار الفقط المستوحد!!

فكيف تبقِي منامك متقداً طيلة ذاك الوخيم على بابنا وهو يحصبنا بالمسائل؟ كيف تبقيه متقداً وديوك مدججة بالنداء قد انسربت بين كفي نداءاتها وجهات الجواب؟ كيف تبقيه على زرقة القلب دون سوط من اللهب الأنثوي؟ وأنت صغت أنينك وفق ما يعوي الليل قبلك فوق أعناق الراحلين من الوحشة.

أأحزنك ما صغتُ من ولع أيها البائس؟!

اصعده إذن؟!!

 ثقب؟

نسهر بصحبة فقارات العواء المتسلسلة. نمضي الليل صحبة الشلل الارتعاشي المزمن حتى تغرورق الأنحاء. ننقضي صموتين كأشواك. متكدسين على حلوق النوتات/

نبهر أنفاس كل مؤلم. أتباع الخسائر، نحن، نمضي في التحلل هنا، منزوع ريش حقيقتنا.. متفتتين؛

خطى متلعثمة. قروح أشواق. جأر صغار النطف. وأشجار كلّام بلا طائل.

نتعفن كالكلام. نتعفن في صمت. نثقب الجينوم. نطعمه عسل أصابعنا. ثم نودعه صفحة الإهداء.

ثقب؟

أتناول منفذ الوجوم. أمدُّ يدي، أُقلـِّبُهُ، أقلِّم ضفافه، تقطر منه الحيل وهو واجم.

قديم ومعطوب مع ذلك. قديم ومنسي حتى أعشبت أخطاؤه ألماً متبطلاًً، ومكثاً وافراً، وعواءً عامراً بالدربة، وبالهيولات الراكضة تلحق بالسوق، بسرطانات الشوق والتئاماتها، واحتراز اللغات ضد الغريب واشتباكاتها.

أردته منفذاً، لكنني حين تناولته لم يعد منفذاً. فبعثت إليه خطل الدربة وجهجهة المحض الجائع حتى بدأ يقضم أنحاءه خشية تأتي شراهتي عليه، وناولني الشك صغاره الوسواسين ففقأت خيالاتهم وتركتهم لرحمة الأربعاء.. ناولني آكولة الاعتراف، ومصران التراب العصبي، فدمجتهما فبدت سنجة. ثم ناولني سُمَّاً من قرن العزلة فسكبت عليه قطرات من طمث التبلدي ورحيق زهرة سوداء وشربته.

ناولني خيالي.. لكني كنت قد ذهبت. وتركته منفذ مصمت من الكلام الأعمى.

ثقب؟

ثم رأيت الأين المترامي الأطراف يبغر بطن كتابه.

أحشاء طالما طعمت أعشاباً ضالة وكثيراً من نحل الحيرة وقصب أضواء مقشرة وأحراشاً من أنحاء الغربة حالكة بكثير من حلوى المودة أيضاً. وربما بعض من فوضى حلقات رقص اللبق كأعمى. أمعاء تغذت على صدى المقص الهبائي المسنن عدييل.

رأيته ينثر كتاب استماتاته ويتمضمضُ أسراره كل حين حتىلا يستعر الجذب، كلب الجهات المتدلي، ورق اللاطمأنينة الخرقاء، سمَّ المسافة يمسك بمصراعنا وعويل اليُغمَي كلما مسته أنحاء من آخره.

سينثر الأين كتابه عليك أنت بالذات، يا قداحة الدمع، ويا مقتلة بقاءات مرفهةٍ وإحَراجات تتآنس بالصراخ. يا مجارحات بالفروج المشدودة على قلوب طارقيها وهش كاللعثمات، يالفقاقيع الوادعة لا تأبه للطير المخلوع يفرفر من فرط الحملقة ولا للطرف الداكن من لساني يلعق أُذن السؤال.

سينثره ثم يلتقطك!

فتوقف عند الرصيف الرطب من التيه فسيوافيك هناك.

وقـَد!

ثقب؟

لا يذكُرني. لا يسعه انفجار البلور. أنهكه نزال اللحم.. يحلمني كل يوم. لا يعرفني. أقضي ليلي كله أصد غاراته.. لا يشربني.. لا آكله. مع ذلك؛ إن غفل عنه الحرس أتيته، وإن غفلت أطبق.

أذكر هشاشة ظله، يذكر الخفوت في وسوستي. أمقت ظله الهين يثأثئ، يمقت عكوفي.

لا نلتقي، لا نفترق، لا نتخاطب، لا نغيب.. يعشق ما يختبئ خلف المسالك، ارتاب التيه الرابض بجنبها. امتحنه بي. لا يعودني في غسقي، أعوده بقلب خاوٍ من الدقيق. يمنحني ثديه، أمنحه حَلـَمَة خيالي.. عيني بعينه وأنا هو.. عينيه بعيني وهو هي. لا يراني إلا بي.. أسحبه من عماه لأراه؛

نتراءى للتقالد!

ثقب؟

نُدخِل الوقتَ إلى الدهليز، بلا مواربة، نحقنه بنخاع الكائن، ونغلق عليه الخابية، ثم نتركه مع نفسه مسافة آباد تغسل نفسها من باكتيريا الملل، حتى يعُبُّ الترابُ من الترابِ المُغـدَق، وينتظر غـدٌ عند غـدِهِ ريثما ننتهي من رصف ثقب العدل، ثم نرسل بعد ذلك في طلبه.

يركن نشيش خوَّاف إلى صفعة المواتاة إذن، وتستيقظ الحالة سوف من نومها مُتكشِّفة، وليقرِّع أحدهم الحَمَام. ليقرِّع غربته وأصابع الهديل.. ليأتِ آخر بعدسات اللوعة المُقرِبة فتحزم السلالات أربطة أحذيتها، ولتكشط ساكسفونات لحاء الجبل، وليفلِّي كورال شعر النهر.. ويا الفأس هذه التقطيبة وما تحرث من جروح بالكائنات!! يا التقطيبة هجرتها الأكواخ، صيحي بحامل الكانفاس فليأتِ بحشيشة وإلا هرب جميع من بالريشة!

وليأتِ ألف؛ الوحيد، بطيبته اللامبالية، وليدخِّن معنا.. وليتسوَّلنا نكتة بذيئة.

ليأتِ الجميع.. المافي شنو؟

ثقب؟

سأُسلم كمتاهتي العزيزةلتضعها في صندوق منوياتك الائتماني.. ارتحت! وأسلمك قزحاً صغيراً يتسكع في باحة بيتك الخلفية، وقلبي المقطوع أخضر وتعوسه السرطانات. أسلمك أنفاساً أرجوانية من سلالات المسافة، وتأويلاتك نمامة تمسك بالخناق، تدحرجه حتى باب الأخلاق. وعند شاطئ الإطراء تستدعي لك جمهرة ارتباكات. جناحك يفشل في حل المسألة، ويفشل في… بزة الهدوء. أتهاوى أنا في سوئي، وأتوكل على كأس اللامبالاة القارح كأني رأيت بصرك خارج من بيتنا أيها الموحل. فلا تمتحن الأنشوطة الغافلة، إذ ثمة جوع الذرات. سيلتقطه أطفالك لأجنحتهم.. سينفعهم ذلك مؤكد.. أو تلتقطه الخيوط. وأعده لإلفة الموت، لو يقوى على القيد  الحليم.. أعده لو يتكرر، لو يتآكله التعود. أعده من اللحم المنعطف المتاهي. أعده من الانبلاجة العصفية لو نتجرأ لزمهرير البيوت.  أعده من بثور الحروف، لو يتنفس. أعده رحلة خميس سرمدي الوعود. أعده لو نكون معاً في العناد.. لو بقي قلقك يهز إصبعه أمام وجهي هكذا / ماذا يصنع وجومي؟ لو تنتهرني شفتاك كلما الخفقة.

لسلمتك للذنوب إذن. لسلمتك للوحشات. ولقلدتني عويل خلاياك. ثم ما عفتني

ثقب؟

وكان عواءً مصمتاً، مبحوح القامة، كأن لم يُضِع نطفة سدى، وأنفق حياته ينصب النواميس.

أكان هو ما توحمتُهُ؟ اهو كل ما هلوستَهُ؟

ياللخدعة!

لقد بدا محضُ عينٌ. فرج يتنفس عميقاً، لسان عند أول تأتأة، قدم تقضم رغيف الخطوات، بدا أنا، أنطِف أول آدم كلما لهفة لك نكأت فتلات روحي.

بدا ما بيننا كلما انفجرت فقاعات أعيننا عند الالتقاء. بدا فحشا في صون الألوهة، نقذفه ما استطعنا بالكتمانات والتجربة. وأخذ حيوان الكفاية منا يتغير شكله ويتبدل حاله فمن ثقب بجدار الألوهة، إلى مصاصة بالينبوع الأبدي، إلى جسد محبوب عامر بمتاهات وانفرادات وحدانية وإشراقات حجبية واتصالات، إلى فتوح وانثقابات وألوان من الأفاعيل.

بدا ولشد ما أردته، أزهر به لحمي وأشرق بالابتسام الكريم، فاختبأت عنده الوساوس حتى صرت موكولاً بها. صرت لهفة تنمضغ.. صرت تعباً فارع القوام، وأختبئ من سوط العواء يهشني، وأرتبك حين أرى أفواهي مشرعة ويدي ما تزال في المائدة. فكل شيء أضعته ينمو، كل شيء بذرناه؛

خساراتنا تنمو، طفل النسيان يتغذى على عصارة هزائمنا وينمو، والعناد برأسه الناشف والذي ظنناه في الأرذل سلخ جلده وتفتق ينمو، عاطفة الذنب، إبرة المكر، ماء الاحتمال، شهداؤنا،

كل شيء كُـنته أو سأكونه ينمو؛ ويشرح كيف وضعت يدي بجيب الإله.

صار كل شيء موجـعاً من كل شيء ويؤلمه لا شيؤه.. كل شيء بازغ منك أيتها النطفة. كل شيء فاحش فيك أيها المحض النقي. كل شيء واحش بك يا أيها السمّ الفادح.

أهو أنت؟ ما توحّمته هناك حيث كانت الضربة جزعة تسوق أطفالها؟ قلب من اللهاث ينزل عليَّ بمطرقة الوله الجحود، ويتكثف بتجاويف رأسي غاز ناشف من الأصداء والموجات الإكسيدية وذبذبات الجزع.

بلهجتك الضوء المجرد من واجبات الصباح وتشبه يوماً محدودباً على ظهر القتامة؟

 أو أنه أنت؟ ذاك اليتـَشَمَّم روحيبلونها الحالِكَ جوعاً يلعق هُناكها المتورم من فرط الدبيب. تتشمم الحتانة البيضاء في يد ديسمبر، لتدُلَّك على ما اندس تحت البذاءة من دمع، تدخن حشيشة أمعائك، تتشمم الأسماء، حذر ما يؤذي الظل فيها، تتشمم ما يقطر منها في إبريق العودة أيضاً.. ثم لا تدع شيئاً يؤخرك عن ملاقاتي، أو مفارقة الشبق؟!

أوَ أنه أنت؟

تأخذني نرتقب العائدون بأيام مرقعة وبصر مِلؤه الريقَة. نمتحن المسافة بأسماء حراسها.

تتوسوس كلما ألهبت روحك الساعات؛

أيجوز أنا لم نكن؟ أيجوز أنني لم أجز؟ أنني محض نهد كوني يجلس تحت منزلة الحليب ليُرضع الله الظمآن؟ محض خصية مقطوعة الطارئ؟ ماذا إذا كنت محض ظن أقترحه في محضر العدم عبثٌ سكيرٌ ثم لم تلاحقه كلاب الألحاح؟ أو هَبْنِي تزويرة مسروقة من أصل العدم؟ وماذا إذن وأنا أنقشع كأنني رجاء خفيف أستدرجه أحد الجنونات الماكرة وأوقعت به صنارة الوجود؟

يازول قـَفـِّل!!

 

ثقب؟

ما بالك تنفق كل هذه الذرائع؟ ألكي تقطف هذه الدمعة؟ ستصير بلا ذريعة تكفي كي يلتقط الكف أصابعه!! وستمضِي بك حتى ذريعة اللامبالاة، فهي مهملة ولا أحد يريدها؟! سترَبِّي قطعان الذرائع. تحشُو فم الأبدية الرخو بأثمالها. ستحشو بها ثقوبك ما استطعت. ثم لن يسكتها شيء.. الدمعة.. اللامبالاة. عليك أن تسمرها بين هذه السطور، وحاول أن تتلذذ بنسل عصبها جملة جملة، وهي توح وتولول.. لهذه المرة فقط، وإلى الأبد.

ثم انظر في الصفحة الأخيرة..

ثقب؟

أتدلى؛

بمقدار المطر المشقوق الذيل يركض وراءنا حتى يتعثر بنداءات قرابة سوء يقيم بالجوار. بمقدار هسيس مقصوص اللباقة، يسري متلوياً، ما بين ضباب صوتك ومرتفعات الرغبة.

بمقدار تتدلى أثداء الحقيقة للمؤمنين، ويدنو التيه ماداً سندوتشات البيرقر.. بمقدار الأنين الأخير لالتفاتة الغريب الموصد على غيابه.. بمقدار ورقة  تتصبب عرقاً.. بمقدار ما يُنزلني من قـِدر التاريخ اليغلي.. بمقدار ما يحل سراويل روحك ويصيب الديانات فيك بالزغللة… بمقدارسوبافي كتاب منتزع من إطار شاحنة فحم قديمة تحاول التملص من علامات تنصيص تقوم على البوابات، حذر هجمات العيال. بمقدار حزن  كامل تأخذه للمرة الألف ولا تسكر وتصاب  نظرتك بالتليف ويصير لسانك شبكيا لا يمسك بوله.. بمقدار روث هائل توقده السلالة تلو السلالة حتى لا يبقى من زبالته إلا ما يصلح للأسماء فتأتي وتلف من سجائرك حذر القطعة.

بمقدار لون ليموني. أعني؛ بمقدار شفة الليمون وحليب عينيها وابتسامة جزعها، بمقدار حرج إلهي.. بمقدار نشادر نشيط.

بمقدار سبتمبر انثقبت إطاراته فحملناه إلى البنشر.. بمقدار ما نتناصب من اشتهاء.. بمقدار الحكمة الغارقة في حساب جدواها.

بمقدار ثقب أسيف!

ثقب؟

ثم يتبدى لي قبو ببطن الجأر. جثيم يتشيد بالوطء الوردي، بالقتامات مثلثات مصابة بالعدوى، وبالسديم الحرقاني وسديم الألوهات. تتشيد ثقوب أسيفة. ثقوب تسيل منها بتلات وبنات. وثقوب يتكثف عندها جمالي حتى تستوطنها الحبيبات.. ثقوب أسيل منها وتشربني النظرات.. ثقوب تضيء. وثقوب يتزاحم عندها السرطان.. ثقوب أعرفها كلها؛ من يغرورقون مع القافلة، من يمسكون بتعرفة الزمن؟ من يحرسون الثقوب؛ بالبراكين العصابية، بالمعظم الكلي المفتت انهار عواء، بالحرقان في لثة الشعر، بالغصة تقيم أودها على جذعك، بالتشنجات، يتشيد بيت الدمع المهشم.. تتشيد أنت أيضاً مرة أخرى؛ وردة النور العمياء. يتشيد سواد النظرة، وجذوع صرخات لم تُستنقَذ من لحمها بعد، يتشيد الحنين مكيدة  مكرورة، فتحسس قلبك.. وأصخ!

 فالعمال لم ينصرفوا بعد، وكثبان الفقود هناك تتلفت

ثقب؟

أشرقت الرغبة فانفرجت أسارير لحمي، وانفتق الحائطُ ما وراءاتٍ تنادي/ وباحت الجهات بانتظاراتها الممضة ولسعني الذنب واشتعل بدني آكولة عظيمة من كل شيء. ثم غمرني حبور عظيم حتى نَمَتْ عظامُ اللهاثِ التي تكلست، وانزوى الملل الخجول في مثل هذه المواقف! ونبتللحائطفرجوردياللون جعليرميني بالشفاه. ارتبك تأويلي؛

فرأي جأر أن نخبئه داخل مرآة، لئلا تراه وتفشيه للصنايعية، بينما رأت البن قلو إنها إشارة على شيء جليل سيحدث. أما سائس فأكد أنه الشاهد الغائب الذي طالما حدث عنه كي يثبت براءته وبالتالي طلب إكمال إجراءات الإشهاد الشرعي لكي يتبرأ رسمياً من كنيته: سائس أعمى، رتبة الهول المنفض.

أما هو وبما له من خسة ولؤم فقد مضى قدماً إلى الحائط يقنعه أنه محض حائط جاف متشقق، وأن ما يحسه هو جرح من أثر هراوة الزمن لا أكثر، وأنه الآن مناسب تماماً للتهدم؟

ثقب؟

أنثر رائحتي فوق طبقات الغياب المترادفة؛ جنون يسيل، ونثارة إيقاع وسوء إشارات.

يضعني في شفرة النداء حتى أتعرى ثم يقذفني بالحجارة، وأنا مجهش في ركوعي ويخشع هو لسوء الإشارة، أتمهد لما يخصنا، أختطف صورته من خياله وأمنحه ما يخصني من اللقاء؛ ما فاض عن اسمي من الوجبة. أنثر الوسوسة على جروح الخيال؛ قد قلت لكِ يا عنادي، منذ قايضتك بمنازل العمى؛ إن صورتي التي بعيون العناكب هربتها أغنيات “البُن قـَلو” التي لا تنتهي. كان حرياً بها أن تسارني وحدي، لكن غفلة أشارت عليها بعواء الهزيع الساكن بصحيفة الخرطوم منذ أحمد عبد المكرم. وقلبي يلتزم رفقته منذئذ. ثم حدَّثتني عنك ذات الانحناء. ولم نتمهل في الخفقان. صرنا نضرب مواعدات؛ تدركنا الكتمة.

نضرب أشجار منتصبة وأنبذةً تشق جيوب الأعياد؛ تلفحنا الشهوات

نضرب قضبان وقطارات نسمم بها لحم الأرض؛ تفلعنا الغربة بمسافاتها المكورة جيداً..

صدعنا عند فوهة المحاولة حتى يغمرك حليب قربي، أو نضعنا في الغليان، أيها التفاهة العصية.. ننثر فوق جلدك مفاتيح وحوائط وطيوف جهات.. ننثر شبهات، نطفاً، حفلاً كونياً من أعباء وخفة.. ننثر بعض عذابنا.. ثم نتمعن ما تلتقطه الحركات

ثقب؟

وليكن كلامك نوبة في الرعشة. ليكن كسولاً  كموت المواعيد. ليكن ما يراد للباس سهرته من العنفوان. وحسن إذن، ثم أيضاً، وبيض العماء، وصورتي التي في عيون العناكب، وقلبي الذي التهمته الحروف الطيور، وفيضك يطعمني العافية وبيوض مخافات. قلت لك وأنا صورة لم أزل:

تتركني أشتعل بعينيك كما لو أنك ما نقص بخيال الزيتونة؟ أو أنك ما اختبأ خلف الإناء؟

كما لو الجناح؟ أسماؤك الحسنى في مصباح العربة المنفلتة وشظية من نظرتها تحرق الصفحة؟

أسماؤك الحسنى سيحطمها القطار العابر يا هذا.

 فأدرك العربة أو القطار أو أسماءك، أيها اطقت.

أدرك شظية نظرتها في صوتك/ ببصرك/بنخاع خيالك. سيتعين عليك إنقاذ تلكالألواح، والوجيب، والمسائل المتبقية من كأس السعاة، فالكلام نعسااااااان يتساقط في فم التمور، ونشوان يقطر من الفروج.. يتعين عليك إنقاذه؛ كلام مشاء يتثرثر بالنظرات، ومهموم يتكالب على الأحوال. ائت به الوادي وليبني لنفسه في المنحدر ليتوطد ببطن السر وليرحم الهوامش.

ثم كما في الوثير؛ اعبر الغربال الوجودي المصنع محليا.. سترى الطفح الإنساني الذي يتغشى الدكتاتور.. سترى بثور أسمائنا على دمه.

ثم كما في الوثير؛

أوعز لكل مطمور.. الذي بمتنزه الحلكات.. الذي يقشرالصرخات بآذان العدم.

من دفعته عين القسوة إلى إقلاق نوم الآلهة فجعل يتحتحت من نفسه ويعرج في مسيره لوخذة الوقت. أقول لمن معي من الإذعانات: هياكم ننفس عن دمنا قليل من الصفيح.

فيقوم إليّ الوخز والعناد المغلوب على اسمه وملل الديمومة.. الخلاصة؛ يتكالب عليَّ المرافعين* جميعا!! أقول: فلتطفو هذه الأرواح في برزخ اللبن لحين تمكننا من الأروي

لكن حين سألت عين التبغ عن حال الفكاهة، ترددت في سماع هسهساتي آذانها. هشت قليلاً من اللامبالاة. ومسحت عن أطرافها دخاناً كان يلعب بالأوتار. قالت: كيف حالي؟ ما للباب من الأعمى. ومن قال إن السارح في الهضبة كلماتي؟ ثم نذهب إلى وحم الجبل؟

نذهب في استدراج الأدغال وننتقي المعابر.. نتركنا لأيادي الرقة، ونغوص في المصاهرة!!!!

فتعالي أيتها المرجانيات، تعالي يا سمكات قوس قزح ولنشعل المعمل. نكاد نجني حفلة الدغل!

ثم كما في كتاب الجأر؛ أبدأ بالخيالي دائماً. ولا أنخدع بالخيوط!

ثقب؟

مرة تلو أخرى. بالشهيق الصموت. بما يسيل ثم يجف في بيوته. بالثعابين والشِعر الحاف. بما يجيد الموت الرصين من لعب. وبسرطانات الرغبة تستولي على مخزون الغلال. مرة إثر أخرى. بالحثيث الكسول وبالأعمى الرسول الجهول؛

تنمو لجثث أيامنا سبتمبرات نضيرة وذوات حراشف. نمشط شعور أحلامنا ونضفرها بالودع.

مرة إثر أخرى؛ ننمِّي حقول الرغبات وأسماك البرهنات الصغيرة تسبح مبتعدة.

مرة أخرى؛ يعود يومنا ملآن بلا شيء ثقيل لا تحتمل جثامته. وثمة ما يكاد يسقط من السلة لشدة المتاوقة. يكاد يسقط ورأسه ناشف يتحتحت منه هزال مكرور وبصقات كلام.

مرة تلو أخرى يكتمل الجوع بهذا النداء.. ويهرب الطحين.

ثقب؟

يقرِّعنا الألم يا حبيبي، يقرعنا  لاشيء مُمضٌّ. نتقرَّع كما شُبهة. نتقرَّع من حُبٍ وجزع. نتقرَّع بكل شيء. نتقشرك أيتها العاطفة الدامعة. أيتها الدمعة من لا سبب، والعويل من لا شيء، والحنين المغرورق بلا شيء. تقرعنا جنائن الضحك، والطير المتناثر من النظرات.

ثقب؟

والمسافة عزلاء، واهنة، بعدما غافلتُها واختطفت إصبع المسَّاح من عينها. بقي ذراعها ممدوداً إلى إناء الضوء، وأمعاؤها خاوية. أتساءلُ؛ ماذا يقيم بأمعاء مسافة مثل هذه: جلدها رخو مثل جسد الأحلام، مظلمة بسبب قصر يدها التي لا تبلغ إناء الضوء؟!

ترى أبسبب وهنها وعتمة أمعائهالم يطب المقام للعابرين فتسطحوا.. أم بسبب ما لوثها من ديدان التوحد وجرثومات المِثلية الإلهية.

عموماً، المسافة رخوة يا سيدي؛ حيلها ضعيف، وخزائنها لم تعد عامرة بالحِيَل..  فلنمض بها إلى البرية إذن، ولنلقحها بالنطف الغامضة، ولنحقن دمها بجرثومة العناد. ثم نسرع في نصب شراكنا للكائن الجديد!

 

ثقب؟

تتآكلك. مرة أخرى؛

ستيانة اليوم المكتنزة. الـتي- شيرت النبوي. القطة فلِّليني. الفراغ في الـ  Codex Seraphinianus. عكازةالعنكبوت ينسج القبلة. الشرخ بالأيدي المغمضة.

تتآكلك؛

البيوت مضروبة وينالها التعب. البيوت بذة الغربة المغشوشة. البيوت ممزقة. صنعة الغفلة تتفشى كما الكلوروفيل النزق بلوالب الجيتارات.

يتآكل سرير مكنوز تحت ظل الماء أو تحت إسكيرت الظلام. يتآكل درب يخلق أعماه. تيه يجلل سائسه بالفشل. دم بارد من الفريزر.

يتآكل الألم  سرّاً كما كان، منذ انفتاق الأعضاء؛ جسد  من دخان، قبعة من الضوء نادراً ما وضعت بالرأس. يترونق لحمي كأنه وحده مَن أكل نبتة الحياة الغضة. كأننا لم نذقها قبله، أو كأنما لسنا نحن من أهداه البتلَّة وخبأ البذرة.

ثقب؟

ويستبد بي أنني لم أوجد بعد! فأجلس إلى العدم طويلاً كي يتأمل أخطاءه السابقة

أمحو الدرب إلى مراحيض الأسئلة. أرش الظمأ بمسحوق النطف.

ثم أختبئ.

ثقب؟

ليتهدَّأ هذا الذئب الوحيد.. ليتهدَّأ هذا الغزال المُعشِب.. ليتهدَّأ هذا الصياد يتلوى من فرطه.. ليتهدَّأ هذا الجنيه في حفاضاته.. ليتهدَّأ هذا الإله الكبير، ولتتهدأ وحوشه وتدعنا ننام “غرقى في مياهنا الجميلة”.. لتتهدَّأ القيامة والجنة وهواتف الجيل الرابع.. ليتهدَّأ هذا الخنجر الرضيع فثمة دم وفير ونجوى.. ليتهدَّأ هذا الحبيب يلوك انتظاراته حتى يبلغ طعم الحلكة.. لتتهدأ لوعاته.

فليلق بأسلحته مكافح الغربة هذا.. فلتتهدَّأ أنفاس الغريب وليعقد قرآنه من خليلة تِيهِه وليدخل بها ليومه.. فلينفض هذا الدم الضروس الغبار عن نفسه وليأت يشرب الشاي عندنا.. وليمتحن نفسه بالقبول.

ليهدأ الجميع، أريد أن أنام قليلاً!

ثقب أخير

 

ثم ذهب الجميع وبقيت وحدي، أحرس جثة السائس.

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى