ثمار

ذهاب وإياب

جمال غلاب غلاف

اتجهت إلى وسط المدينة. المسافة حتى هناك طويلة بعض الشيء، وتعودت على قطعها راجلاً كل يوم. النقود هي السبب. في جيبي القليل منها. لا وظيفة لدي، لا أمل في الحصول على وظيفة أيضاً وفوق ذلك كله من العسير جداً تلقي المساعدة من أي جهة كانت. عبرت الجسر ببطء وأخذت أستنشق بعمق في محاولة لاصطياد نسمة من النهر. دخان العربات كثيف ولا شيء غيره يمكن استنشاقه. كنت أسير على رصيف المشاة وأتوقف أحياناً لالتقاط الأنفاس ولتأمل المركبات وراكبيها. الذين يمتطون الحافلات وجوههم مكفهرة في الغالب، أما الذين يقودون سياراتهم الخاصة، فيظهرون أكثر ثقة بأنفسهم. بعد انتهاء فسحة التأمل أعاود المشي وليس في رأسي أدنى فكرة عن الجهة التي أقصدها. ما أقصده هو أنني لن أجد جواباً إذا استوقفني أحدهم وسألني: إلى أين أنت ذاهب؟ أكثر من ذلك لا أعرف ما سأفعله عندما أصل إلى الجهة الأخرى التي أقصدها الآن ولا أعلم لماذا أنا أسير على هذا النحو، ولكن هل ذلك أمر مهم؟ إلى أين أنت ذاهب؟ ماذا تريد؟ هذه أسئلة لن ألتفت إليها، فقط سأواصل المشي. كل يوم تنهض هذه الأسئلة معي من النوم وترافقني وتدور حولي، ولكني عاجلاً أو آجلاً أصرف تفكيري عنها وأواصل المسير.

في زمن سابق أذكر أنني كنت أنهض من النوم وأحمل (ماي كلير باك) المصنوعة في الصين من البلاستيك الشفاف والتي تحتوي على شهادتي الجامعية ومجموعة أخرى من الأوراق الثبوتية التي لا غنى عنها لشاب يبحث عن وظيفة، أحملها كل صباح وأتَّجه إلى المركز. أذهب بالمواصلات أحياناً، وأحياناً راجلاً كما هو الحال الآن. حاولت تذكر لونها ولكني فشلت، وحاولت تذكر محتوياتها بالتفصيل، فلم تسعفني الذاكرة. أين هي الآن؟ كم مر من الزمن منذ انقطعت عن حملها؟ لا أذكر. لا جدوى من التذكر، الأفضل المضي قُدماً. تبادلت نظرة سريعة مع الشرطي الذي يحرس مخرج الجسر. كل يوم أصادف شرطياً جديداً لكن الطريقة التي ينظرون بها للناس واحدة. يخيل لي ذلك. يبدو أنهم يتلقون تدريباً معيناً في المعسكرات لينظروا إلى الناس بطريقة محددة. نظرة باردة، قاسية، خالية من التسامح ولها في النفس وقع صافرة إنذار.توجد مدرعة أو دبابة يجلس إلى جوارها مجموعة من العساكر على بعد خطوات من الشرطي الحارس. كانوا ينظرون إلى الناس باحتقار.

عندما أنزل من الجسر تكون المرحلة الأولى من رحلتي اليومية قد انتهت لتبدأ التي بعدها. المرحلة التي بعدها يطبعها التجنب. ألزم نفسي بتجنب مجموعة من الأشياء. أبدأ بتجنب المرور قريباً من بنايات دخلتها ذات يوم للتقديم لوظيفة. كثيرة هي طلبات التقديم التي عبأتها، وكثيرة تلك الفايلات الشفافة التي صففت فيها الشهادات والأوراق الثبوتية بعناية فائقة، لتتكوم مع فايلات أخرى قبالة موظف أو موظفة استقبال يطل من عيونهما الغضب. المرور بالقرب من تلك البنايات يصيبني بالقشعريرة. أكبر وأهم موقع أسعى إلى تجنبه بكل ما أوتيت من قوة كان هو الجامعة التي تخرجت فيها. عندما تنتهي مرحلة التجنب أوسع من خطواتي لأقطع المسافات بهمة ونشاط كأنني على موعد حاسم أخشى فواته.

السنتر دائماً يعج بجميع أنواع السيارات والبشر والبضائع. دائماً أصل إلى هناك عند انتصاف النهار فيكون الزحام قد بلغ أوجه والحرارة في أعلى درجاتها. رغم المشاعر المتضاربة بداخلي لكنني أشعر بكثير من الامتنان تجاه هذا السنتر، فهو المكان الوحيد الذي أشعر فيه بأنني مدفون وأنا حي دون أن تتملكني القشعريرة.

تحسست جيبي واطمأننت إلى أن الجنيه الورقي يرقد بجانب القطعة المعدنية فئة خمسين قرشاً قبل أن أدلف إلى الساحة الأشد ازدحاماً حيث يلتحم البشر بالسيارات بالبضائع في فورة هائجة تَرُجُّ العقل رجَّاً. أرجأت التفكير في ما سأفعله بالجنيه ونصف إلى حين بلوغي الجدار العظيم الذي تحتمي بظله بائعات الشاي وماسحو الأحذية وسائقو الحافلات ومساعدوهم في انتظار النمرة. سحبت بنبراً وجلست. كردة فعل سريعة على نظرة البائعة المستهجنة طلبت كوب شاي بالنعناع. شكل السائقون والمساعدية صفاً غير منتظم تحت الجدار في مواجهة الشارع الذي لا تهدأ فيه الحركة البتة، وكانوا يعلقون على ملابس بنات الجامعة الرائحات والغاديات وبعضهم كان يغمز لهن. بعد دفع ثمن كوب الشاي يتبقى معي جنيه ولدي جنيه آخر خبأته جيداً وسط أحد الكتب في البيت، وعليه يمكنني أن أفطر بساندويتش طعمية بخمسين قرشاً ليتبقى عندى خمسين قرشاً أضمها إلى الجنيه الذي خبأته حتى أتمكن من تدبر أمري غداً. مرت فتاتان بدينتان فتبادل مجموعة من السائقين والكماسرة النظرات، وبدت لي نظراتهم شبيهة بنظرة الشرطي. انتظروا حتى ابتعدت الفتاتان فقهقه أحدهم، وقال آخر شيئاً عن الدهن. ربما الكماسرة والسائقون يتدربون على أشياء معينة ضرورية لمهنتهم. في الجامعة أذكر أنهم كانوا يكررون لنا أن التدريب عامل مهم من عوامل النجاح. تابعت ست الشاي وهي منهمكة في تعديل وضع الجمرات تحت الموقد بدقة. تابعت كما لو أنهم سيطرحون عليّ سؤالاً في إحدى المعاينات عن أدق تفاصيل عمل ستات الشاي. كانت تربط التوب عند خصرها وعندما لاحظت أن نظري معلق بها تظاهرت بالتشاغل بالموبايل مع اختلاس نظرات سريعة نحوي فيها استفسار، ودعوة، ووعيد، فحولت نظري إلى الطريق من جديد. أهم شيء يجب التأكيد عليه هو أن أظل بعيداً عن البيت أطول مدة ممكنة. بعد الفراغ من الشاي سأبقى لبعض الوقت، ولكن لم أحدد وجهتي التالية بعد.

عندما أفكر في الأمر ملياً ينتهي الوضع بأن أضحك على نفسي. لا بد أن ست الشاي لاحظت بوادر الابتسام على وجهي لذلك هي ترمقني باستياء واحتقار مبالغ فيهما. لا بد أنها تقول لنفسها: المجنون، ومن يظن نفسه حتى تؤثر فيَّ ابتسامته البلهاء. لمحتها وهي تحكم من تثبيت طرحتها على رأسها جيداً وكأنها تخشى من هجومي الوشيك. كل واحد له همه وكل واحد له اتجاهه. يا سيدتي، يا سيدتنا يا سيدة الشاي العزيزة إن الاتجاه الذي يتخذه مشروع ضحكتي هو غير هذا الذي على بالك. صدقيني، أنا أضحك على نفسي. ما يُضحكني يا سيدتي هو أنني استخدم اللغة العربية الفصحى في التفكير، وفي مخاطبتي لنفسي وقد أضحكتني كثيراً جملة “لم أحدد وجهتي التالية بعد”، مثلما تُضحكني مجموعة الكلمات التي أخاطب بها نفسي متقلباً على الفراش قبل النوم كل ليلة. أتحدث عن الوجهة والتحديد كأن القبة تحتها فكي.

عندما فرغت من الشاي أخذ الشعور الدفين بأنني في ورطة في الاستحكام، وتزايد هذا الشعور ودخل معه على الخط  شعور كاسح بالضياع والفقد ليتجلى ذلك كله في تعثري بالبنبر الذي كنت جالساً عليه وأنا أنهض لمغادرة المكان. مغادرة المكان الظليل نسبياً مشكلة في حد ذاتها، فقد كنت أود الجلوس على ذلك البنبر أطول فترة دون التفكير في أي شيء، بينما عيني لا تستقر على شيء محدد، وأذني تلتقط ثرثرة الكماسرة والسائقين بكثير من التدقيق، فقد حفظت أحاديثهم وبت أعرف بعض الأصوات ولديّ تحفظات على الطريقة التي يطلبون بها الشاي، والتي يجتذبون بها البنابر، قبل الإقعاء عليها، والأساليب التي يتحايلون بها للتهرب من دفع ثمن الأكواب التي يشربونها إما بجرجرة واستدراج أحدهم ليدفع عن الباقين، أو بالدخول في مناقشات طويلة ولزجة مع البائعة المسكينة، يتكرر فيها الوعد بأنهم سيدفعون غداً ثمن ما شربوه أمس واليوم، مع تلميحات تقلل من شأن الشاي وستات الشاي، وأهم تحفظ لديّ كان تجاه الطريقة التي يرمقونني بها، والتضخيم الظاهر في نبرات الأصوات عند الحديث عن مغامراتهم مع شرطة المرور أو أي من تلك المغامرات التي لا تخلو منها حياة الكماسرة والسائقين، وواحد منهم كنت أرمقه بطرف خفيٍّ يتصرف كأنه عمدة أو زعيم أو شيء من هذا القبيل، ما كنت أطيق صوته ولا تحرشاته المكشوفة بالبنت المسكينة، وأكثر ما يغيظيني أن البنت المسكينة تبدو كما لو كانت متواطئة معه، لا بل هي متواطئة معهم جميعاً الحمقاء، لذلك تعثرت، وخُيِّلَ إلى أن البسمات الصفراء تجلد مؤخرتي وأنا أغوص في الزحام الذي كانت الشمس تبذل قصارى جهدها لصهره وتذويبه.

فَرْمَلَ سائق الهايس ساخطاً ليسمح بعبور سرب من الراجلين فعبرت معهم. سخط بعضهم من سخط السائق، فتبادلوا معه شتائم سريعة قبل أن يكتمل عبورنا إلى رصيف يتزاحم فيه الباعة مع العربات، وكان بعض أعضاء السرب العابر الذي انتميت إليه في لحظات العبور تلك يبدو كأنه غير معنيٍّ بسخط السائق ولا بسخط بعض الأعضاء، أما بنات الجامعة اللائي عبرن معنا فقد كانت السماعات على آذانهن، وكانت هناك بنتان تتضاحكان كأننا في نزهة في الريف الأمريكي. الأمر لا يعنيني كثيراً لكنَّ عاطلاً مثلي يمتهن التسكع كفاحاً، لا بد أن يسجل الظواهر السالبة ويُحلِّلها وينتقدها. هذا جيل لا مبالٍ، هذا جيل أصم. هكذا حدثت نفسي وأنا أفارق السرب مُشتَّتاً بين المضي إلى أقرب بائع طعمية، أو التفكير في وسيلة أخرى تُمكِّنني من الحصول على ظل معقول في هذا النهار القائظ لقضاء الوقت متسكعاً هكذا، وعدم مغادرة مثل هذه الأمكنة إلى أجل غير معلوم، ولإبقاء كل الأمور المُعلَّقة، مُعلَّقةً كما هي. يا لها من حياة قائظة! تدعو للغيظ. ماي كلير باك لا فائدة منها وأنا نفسي عبارة عن باك حمقاء منتفخة بالهواء الساخن يسفعها السموم بلا شفقة. إنني بلا جيل ويحقُّ لي أن انتقد وأهاجم بلا هوادة، فكل الأجيال تافهة، لأن هذه البلاد يحصل فيها مستوردو الحقائب الصينية الشفافة على مليارات الجنيهات والدولارات واليوروهات بينما يحصل مستهلكو الكلير باكات على السموم.

بعد تكرار مشهد العبور السابق عدة مرات في مواقع مختلفة من هذا السنتر فشلت في الحصول على ظل يقيني حر الهجير. برندات البنايات المنتشرة في السنتر مكتظة ومحتلة بالكامل بالباعة وستات الشاي وأصحاب المحلات الذين يضعون مقاعدهم أمام محلاتهم بغرض الحراسة أو اصطياد زبائن، وبخاصة بغرض الإيقاع بالبنات العابرات في فخاخ مكشوفة. هذه المدينة عامرة بالفخاخ المكشوفة والفجة. إنها مدينة لا تسمح لك بنصب فخ مختلفقليلاً ينصبه الواحد لنفسه ثم يقع فيه طائعاً ليتدبر العبارة الخالدة: “أكون أو لا أكون” على مهل، وبطريقة تجعل من أمر تدبر مثل هذه العبارات أمراً له معنى وقيمة بعيداً عن طريقة العيش السائدة والمفروضة بالقوة على الناس. وهل هذه الطريقة مفروضة علينا بالقوة كما أظن أم أننا نفرضها على أنفسنا؟ قلت لنفسي: دعك من التفلسف الفارغ وهيا بنا إلى الطعمية.

نصف قطعة الخبز التي تحتوي على ثلاث حبات طعمية كانت ناشفة والطعمية نفسها أنشف منها وخالية من أي طعم، والبائع بدا عليه الاستياء وهو يناولني الساندويتش الصغير، كأنه يقول: “اذهب والتهم ساندويتشك اللعين بعيداً عني”؛ وهذا ما يؤكد نظريتي القائلة بأن السنتر مكان للعداء. الجميع يتبادلون العداء الصامت أغلب الوقت، النظرات تنطق بالعداء والكلام أغلبه شتائم أو جمل قصيرة يتم شحنها بأكبر قدر ممكن من الاستفزاز، وحتى طريقة المشي توحي بأن هذه الأجساد المتلاطمة تريد الانقضاض على شيء ما، أو هي تخشى أن ينقض عليها شيء ما. ورغم أن هناك أكثر من دورية شرطة، فإنه لا يمر يوم دون نشوب معركة دامية هنا أو هناك، وقليل منها ينتهي بالقتل، أو إحداث فوضى يمتد تأثيرها لبعض الوقت، قبل أن تدور تروس الماكينة الغريبة التي يسمونها وسط المدينة من جديد. وأعتقد جازماً أن حالة العداء السافرة التي يعج بها المكان هي التي تقوم بتشحيم التروس وتزييتها لتواصل ماكينة السنتر عملها بشكل أفضل.

ليس بمقدوري الحصول على جرعة ماء، ناهيك عن عصير أو قارورة مياه غازية بعد ابتلاع الساندويتش الناشف، وليس من خيار أمامي غير الاحتفاظ بالقطعة المعدنية حتى نهاية الدوام حتى لا أعود راجلاً. من الجيد أنني أحتفظ بجنيه (ألف) ورقي في البيت وسط ذلك الكتاب الذي لم أتمكن من إنهائه حتى الآن. لو كان الجنيه معي الآن لكنت تهورت، ولشربت كوزين موية بقرشين (مائتين)، ولربما اتجهت إلى إحدى ستات الشاي مجدداً دون تحسب للعواقب. وجود ذلك الجنيه الذي هو أيضاً (ألف) يعني أن الرحلة ستتكرر غداً، لكنني أُخطِّطُ لما هو أبعد من ذلك، إذ أنتوي العودة إلى السنتر راجلاً غداً وأيضاً الإياب سيراً على الأقدام حتى يظل الجنيه (الألف) في مأمن ليوم إضافي آخر. الجنيه الذي يُسمَّى (ألفاً)، أيضاً أطلقوا عليه ولفترة من الزمن (ديناراً)، ثم من جديد عاد جنيهاً كما كان في السابق، لكن لا أظن أن أحداً غيري يهتم لمسألة القرش والقرشين هذه. عموماً فإن مسألة القروش والمال والنقود مسألة غاية في التعقيد والغرابة. الغرابة عندما تطرأ على شيء غريب أصلاً، على الأقل بالنسبة لي، تجعل الأمر برُمَّته متاهة يصعب تجنبها. هذه المتاهة موجودة في كل شبر من هذه المدينة المكتظة بالبشر والنفايات والمركبات، ويفترض أن الرحلة الأساسية التي بموجبها يتجول الناس في جنباتها هي رحلة للحصول على المال بصورة منتظمة، لكنني لا أحصل عليه إلا لماماً ولفترات قصيرة جداً، وفي غالب الأحوال لا أحصل عليه بتاتاً، مضافاً إلى ذلك قضية الأسماء التي لا تهدأ، فالأمر كله مريب وغريب وعجيب جداً، ولا يدع لي مجالاً للراحة أو الهدوء أو الهروب.

أضحك ضحكةً صغيرةً، وأنا وسط الزحام، أضحك بسبب البرمجة التي لا فكاك منها والتي ألزمت نفسي بها أو التي ألزمتني الأيام والظروف بها. أريد ظلاً آخر حتى أسمح للخمول الذي سرى في جسدي أن يبلغ مداه. بنبر تحت شجرة وارفة أو موطئ قدم تحت إحدى المظلات المنتشرة في محطة الباصات القريبة، ورغم أنني أعرف بناية قريبة معزولة عن الزحام نوعاً ما، لكنني أتردَّد أكثر من مرَّة قبل التوجه إليها أو إلى أيٍّ من الأماكن التي يتوفر فيها شيء من الهدوء النسبي والسبب الذي يقف وراء ترددي هو تلك الخبرة التي اكتسبتها بالسنتر ومواقعه وحركته، وهي خبرة قوامها الخوف الكثير والتردد الذي يقودك إلى تردد وهي خبرة تجعلني أرتبط بالسنتر ارتباطاً متوتراً، ولكنها لا تسعف كثيراً في خلق علاقة وطيدة بالمكان وأشيائه بسبب دوريات الشرطة المنتشرة هنا وهناك وحراس البنايات الذين لا يطيقون تردد المتسكعين على الظلال التي يقومون بحراستها، ويضيقون بكل من تظهر عليه بوادر التسكع المجاني، وقد ينتهي الأمر نهاية غير سعيدة في زنزانة قذرة أو كبسولة من كبسولات الشرطة الشعبية، يصفعونك فيها صفعتين أو ثلاثاً قبل توديعك بركلة محترمة على مؤخرتك. لو كانت لديّ وظيفة ما ربما كان الشعور بالخمول مختلفاً. من حسن الحظ أنني لم أشرب ماءً لأن ذلك كان سيدفع بي بعد قليل للمراحيض العمومية فئة 30 قرشاً. الأحسن أن أتسكع هكذا نصف دائخ حتى العصر. يبدو أن عمري كله سينقضي وأنا نصف دائخ هكذا، لكن لا بد أن ثمة قشة سأتعلَّق بها وستنتشلني من الغرق. ربما تنتشلني من موج السنتر لتُلقي بي في لجة أخرى لا قبل لي بها. حلوة هذه المفردات الفصيحة التي أخاطب بها نفسي وتكرارها يمنحني شيئاً من السلوى والعزاء. رمقني سائق إحدى الهايسات بنظرة نارية  وخطواتي الحائرة تعيق سباحته المتعثرة في هذا البحر من الحر والضيق والاختناق، وكانت نظرة السائق الحارقة أظهر علامة تؤكد أن المد في هذا البحر قد بلغ ذروته. أسرعت قليلاً لأعبر صوب الضفة الأخرى من الشارع. من على متن هليكوبتر تحلق على ارتفاع منخفض سيبدو السنتر لمن يتأمله أمواجاً تتكسر في بعضها ولا تتقدم إلى أي مكان. دوامات من الحديد الذي يقوده سائقوه بصبر نافد، وبشر دائخون تحسبهم بخاراً يتصاعد من الأرض متلوياً لبعض الوقت قبل تلاشيه لتنفث الأرض العزيزة غيره، وقد سئمت – أي الأرض – من كثرة المشغوليات والمسؤوليات مثل الأم التي تسأم من تربية كل هذا العدد الهائل من العيال.

المرحلة التي أصل فيها إلى طريق مسدود هي الأقسى في جولتي اليومية هذه. دائماً تنسد الآفاق في السنتر بين الواحدة ظهراً وحتى الرابعة عصراً. يبدو الناس من حولي قد ضاقوا بأنفسهم أكثر مما ينبغي. وجوههم السوداء والسمراء والقمحية من حولي وقد انسدت أمامها الآفاق أقنعة لا تتناسب إلا مع خشبة مسرح القسوة والعبث والضياع. في مثل هذا الوقت يفقد الباعة حيويتهم، وتتخذ العربات الداخلة والخارجة من السنتر هيئة مدرعات حربية وقعت في كمين لا فكاك منه، وتتصاعد من حفرة سوداء في أعماق الروح استغاثات متقطعة مطالبة بتعجيل النهاية المؤجلة عبثاً.

ولكي أضع حداً لكل هذا لا بد أن أحصل على مهنة ما. شيء أتشاغل به عن هذه الحفر التي جعلت من روحي غربالاً يستقبل كل شيء ولا يحتفظ بشيء. أي شغلانة والسلام ألبسها قناعاً أضلل به نفسي كلما نقبت عن نفسي فلا أجدها ولا يبقى مني شيء سوى القناع حتى لو جبت أشد الحفر حلكة في الروح.

لن أعود إلى ماي كلير باك أبداً، وعليَّ أن أتخذ قراراً حاسماً الآن، أُحدِّدُ بموجبه كيف سيكون مستقبلي، وعليَّ أيضاً تحديد علاقتي مع هذا السنتر بصورة نهائية وحاسمة وواضحة وإلا…

اجتاحني تيار الأفكار الغبراء وأحلام اليقظة المتحشرجة المعتادة، وأنا أشقُّ طريقي متفادياً البضائع المرمية تحت الأقدام والمحروسة بأصوات الباعة الذين لا يكفون عن الصراخ وفكرت أن الالتحاق بهذا الجيش العرمرم من المفترشين بحاجة إلى رأسمال، ولو حاولت تنصيب طبلية في هذا السنتر فإنني أُصبح مُلزماً بالتردد على مكاتب كالحة للحصول على تصاديق وأختام وأوراق وهلمجرا، ثم إن الجباة لا يرحمون، هذا غير (الدردحة) التي لا غنى عنها لمن يريد الحصول على فرصته في هذا السنتر. وبما أنني أعتقد جازماً أنني في وادٍ و(الدردحة) في وادٍ، لذا ازدادت قناعتي بأنني في أمس الحاجة إلى شعوذات خارقة وتدجيلات متقنة لمواصلة هذه التي يسمونها الحياة، وعندما بلغت تقاطعاً تتشعب عنده الطرق، حلمت بأنني درويش مودرن ألف وأدور ضائعاً في ملكوت الزحام، وجزمت كعادتي بيني وبين نفسي أن الكينونة خاصتي قد غلبت عليها العناصر الزيتية فلا مناص لها غير أن يطلع زيتها ليغذي السياق الزيتي الذي تقيم فيه وتنزلت على سكينة الدراويش لأن العشرات من حولي بل المئات يلفون ويدورون في جذبة أرضية لا فكاك منها.

بعد اللف والدوران دون هدى وقبيل المغيب بساعة أو نحوها أعود أدراجي. تتكرر الرحلة معكوسة ولكنني هذه المرة لا أسرع ولا أتجنب كما هو الحال في رحلة الذهاب، فكلما تأخرت العودة أو حتى تأجلت أكون قد حققت الهدف الأول من تسكعي الهذياني وهو البقاء بعيداً عن البيت أطول مدة ممكنة. من منافع التأخير التي لا غنى عنها دخولي البيت في وقت يكون فيه التعب قد أخذ من الجماعة هناك كل مأخذ. يكف أبي عن الهذيان وتكون أمي قد كفت عن توبيخه واستسلمت لغفوة قلقة لم أفلح حتى هذه اللحظة في اكتشاف الطريقة التي تنهيها بها بغتة ما إن أدفع الباب محاذراً من إحداث ولو أقل قدر من الضجيج. تستوي جالسة على العنقريب وتوبخني بكلمة أو كلمتين، وتبقى على ذلك الوضع فترة من الوقت موزعة جهدها الناعس بين التوبيخ والتضرع إلى الله أن يهديني ويجمعني ببنت الحلال، قبل أن تغيب في غفوة جديدة لن تطول.

صدف أن لمحت وجهي منعكساً على واجهة صقيلة لبناية شاهقة مما يصادفني أثناء تسكعي المتخبط في السنتر. رأيت وجهي قناعاً أُريد لملامحه أن تعبر عن ما لا يمكن التعبير عنه في حفل تنكري سينتهي باكتشاف المحتفلين لحقيقة الأمر وهي أنهم موتى لن يتمكنوا من تصفية حساباتهم لا مع الوجود ولا مع العدم. كانت نظرتي نظرة شخص مُدان يعلم على نحو ما أن عقاباً فظيعاً ينتظره بمكان ما لذا فإن نظرته بدورها كانت تدين كل شيء. كانت نظرتي تدين صاحب الوجه الجزع وهو يتأمل صورته الهاربة والمتسربة والمتحولة إلى بخار رهيف يتلوَّى معذباً في صمت.

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى