ثمار

شظايا الاحتمال

عباس

هوى جريحاً وشمس الأصيل ساطعة. كان يحلِّق آمناً حين أصابهُ حجرٌ طائش، فخرَّ مرفرفاً بجناح واحد، وتكوَّم تحت ظلال شجرةٍ عتيقة. نهض يغالب الألم.. حاول تحريك الجناح المصاب لكنَّ الريش المكسور لامس التراب.

حين تهاوى الطائر مكسور الجناح، توقفت أيدي الرجال التي كادت تشتبك في عراكٍ موتور. تبادلوا نظرات الوعيد وبجوارهم امرأة مريضة تفترش التراب وتتوجع في نحيبٍ صامت.. على أسنة الوجع ينبض الأمل، تمضي اللحظات ثقيلةً وذاكرتها تمور بالشجون:

قبل أعوام ثكلت زوجها، وعاشت وحيدةً وسط قومها، تكابد الفاقة والحنين. ولمَّـا علمت أنَّ رجالاً من عشيرتها يعتزمون المسير، للعمل في حقول الآخرين، صارحتهم برغبتها في العمل، فقالوا لها: “وهل تستطيعين؟”.. فأجابتهم بأنَّها ستكون في خدمتهم حتى نهاية الحصاد على أن يعطوها أجراً. تبادلوا النظرات وصمتوا حائرين. ولمَّا حان موعد السفر، اصطحبوها معهم متوجِّسين. وبعد أيام من السير الدؤوب، وصلوا إلى مكان تجمُّع العمال، والتحقوا بآخر دفعةٍ تم قبولها وترحيلها إلى الحقول. سكنت بجوارهم وسط الحقول الشاسعة. كانوا يخرجون للعمل قبل شروق الشمس، وتظلّ الأرملة في الراكوبة، تطبخ طعامهم، وترتب أغطيتهم، وتغسل ملابسهم. أطولهم راودها مرةً، وأقصرهم راودها مرات، لكنَّها مالت للأوسط، الذي اتقدت بوجدانه نيران الشهوة، ولمع بعينيه بريقها، لكنَّه لم يراود الأرملة الحزينة. بعد الحصاد عاد الرجال إلى أسرهم بالجنيهات والأمل، وعادت الأرملة إلى وحدتها الموحشة بقليلٍ من النقود.

هذا الموسم طلبوا منها أن ترافقهم للعمل، أضمرت غبن العام الماضي واستجابت لطلبهم. فجراً، غادروا ديارهم يحدوهم الأمل، ويناوش خطواتهم القلق. وقبل أن يكتمل نهارهم الأول أصاب المرأة إعياءٌ شديد فاضطروا للسير بخطوات بطيئة ثم توقفوا، وباتوا ليلتهم في المكان ذاته. صباحاً عجزت المريضة عن السير فحملوها على أكتافهم وواصلوا رحلتهم. عند الظهيرة توقفوا تحت ظلالٍ وارفة. وضعوا المريضة على التراب وهي تغالب الألم بالأنين الواهن، وتقلِّب نظراتها بين الخوف والرجاء، بينما واصل الرجال جدالهم الصاخب.. قال الأطول:

–  لقد حملناها ما يكفي، وإذا واصلنا حملها فلن نقوى على المسير. إنَّ موسم الزراعة قد حان، وإذا تلكأنا فسوف نصل بعد فوات الأوان، ولن نجد فرصةً للعمل، وسيعود كلٌّ منا إلى أهله وهو حسير.

–  نعم.

قالها القصير ثم أضاف:

–  لقد أنهكنا حملها وتأخر ميعاد وصولنا إلى مكان القبول.

قال الأوسط:

–  وما العمل؟

فأجاب الأطول:

–  لقد حملناها ثلاثة أيامٍ ولم تعد لدينا القدرة لنحملها أكثر. وإذا تأخرنا في الوصول فأنت تعرف المصير.

قال القصير:

–  لا بدَّ من المسير.

صرخ الأوسط:

–  ونتركها؟!

–  لا حيلة لنا.

قالها القصير ثم أضاف:

–  ابق أنت معها وسنواصل رحلتنا.

–  ولكنَّا خرجنا معاً من ديارنا.

–  إذن ارحل معنا.

–  ونتركها وحيدةً مريضة؟! سوف تلتهمها الوحوش وتقطِّع أوصالها.

استمر جدالهم عقيماً حتى صمتوا مضطرين. دار القصير حولهم ثم مشى إلى شجرةٍ مجاورة. أنصت إلى حفيف الأوراق فتذكَّر حصاد الموسم الماضي، يوم استلموا أجورهم، ففاضت أشواقهم.. ثم غمرتهم الأماني. ودَّ حينها أن يطوي المسافات ليعانق زوجته وأولاده. وكأنَّه أفاق من حلمٍ باهر، زرَّ عينيه وصاح من بعيد:

–  لندفنها.

–  حيةً!

صاحا في وقت واحد.

–  أليس خيراً من أن تلتهمها الوحوش وتبعثر أشلاءها في الفلوات. قلت لكم لندفنها.

–  حيةً!

قالها الأوسط ثم أضاف:

–  لنسألها.

–  إنَّها لا تجيب.

–  إذن فلننتظر حتى تموت.

–  ومتى تموت؟ هل تعرف؟ لقد قلنا لك إنَّنا لا نستطيع البقاء هنا فالعمل لا ينتظر.

بين الحضور والغياب ظلَّت الأرملة تسمع جدالهم فتنبش روحها رماح الأسى، ويغور بوجدانها الخوف والحيرة. تكاد لا تصدق، كأنَّها في حلمٍ مرعب، أو كابوس مقيت. وقالت في نفسها: “هل طمست عقولهم وأظلمت قلوبهم أم إنَّه الجنون؟!”..

واصل الرجال جدالهم المرير. تعلو أصواتهم وتنخفض، والغضب يغلي في الصدور. صرخ الأوسط وأطلق حجراً في الهواء، ثم صاح محذراً صاحبيه.. وقبل أن تشتبك الأيادي تراجعوا حين سقط بجوارهم طائرٌ جريح. صمتوا لبرهةٍ وتبادلوا النظرات ثم عادوا للمناكفة. قال الأطول للأوسط:

–  إذا أردت البقاء بجوارها فسنمضي ونترككما للمصير، وإذا رغبت في المسير معنا فلا بدَّ من أن..

قاطعه الأوسط مستنكراً:

–  حيةً!

–  لا خيار أمامنا.. ها هي الشمس تميل نحو الغروب.

صاح القصير:

–  هيا لنبدأ العمل.

 ثم حمل رمحه وانتحى جانباً وبدأ الحفر.

انحدرت الشمس على قوس المغيب ونفثت أرجوان اللهيب. وحينما هيمن طقس الأفول، أكملوا حفر القبر ونفضوا عنهم الغبار. استداروا فلمعت بعيونهم أقواس الذهول، ثم طوتهم دوامة التردُّد والخوف.. وبينما الأرملة غارقةً في نفسها تنازع الأمل، عَبَرَ فوقهم سربٌ من الطيور، وبعد حين استدار عائداً. دار دورتين ثم حطَّ حول الطائر الجريح. اصطفت الطيور بسيقانها الطويلة وأجنحتها مفرودةً إلى الأمام في خشوع، بينما الطائر الجريح وراء الصفوف يرنو حزيناً وقد أفرد جناحاً واحداً. رفَّ بجناحه السليم ثم استدار كأنَّما ليودع الشمس في موكب الغروب. أفاقت الأرملة، تنهدت.. حاولت انتزاع نفسها من دوامة الأسئلة والترقب الرهيب. لبرهةٍ جارحةٍ تأمَّلت الظلال الغاربة، فهل أبصرت قبساً من الامتنان يلمع بعيني الطائر الجريح؟ وهل عبر بخاطرها طيف الأمان لتستريح؟ أسندت رأسها إلى التراب ثم أغمضت عينيها، تناوش صدرها سهام القلق، وتراود خواطرها شظايا الاحتمال.

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى