ثمار

ترامب: انتصارٌ تلفزيونيٌّ مِيْدُوسِيّ

 3

(1)

كثيراً ما فكَّرت، ربما بكثيرٍ من الغرور، أنّ التلفزيون مقضيٌّ عليه بالفناء القريب مع اندلاع بقيّة الأذرع التي فتحت الحريّة لكل فردٍ بشري، لكني اكتشفت، بعد مدّة، أن رمز (ميدوسا) هو أقرب ما يكون للتلفزيون اليوم، فقد استطاع هذا الجهاز العجيب لا أن يتطوَّر تقنيَّاً بإذهَالٍ فحسب، ولكن جميع الأذرع النابتة في الكون الإنسانيّ حديثاً مع ثورة التكنولوجيا، أصبحت مركَّبةً في رأس التلفزيون تماماً كما هي الثعابين كشَعرٍ لميدوسا، لا تخرج هذه الثعابين عن سيطرتها وتوجيهها، ثمّ إنها – حسب الأسطورة – إن نظرت إليكَ تجمَّدت وتحوَّلتَ حجراً: تمثالاً.

يبدو أن عصر فناء التلفزيون قد تأخَّر كثيراً بعد فوز ترامب الأخير، وانفصال بريطانيا من قبله عن الاتحاد الأوروبي بالاستفتاء الشعبي، ثمَّ اندلاع حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ تختَلِف اختلافاً جذريّاً عن سابقاتها كونها منقولةً على الهواء مباشرةً للناس جميعاً في الكوكب، وعبر التلفزيون، وجميع العالم يتفرّج باستمرارٍ لا يهدأ.

فإن كان التلفزيون قد انتصرَ فعلياً وعمليّاً، كما سنناقش أدناه، فعلى من انتصرَ يا تُرى؟ لقد انتصر على: “الفنان” و”الورق” و”الصفوات الإسفيريَّة”. وأتعرّض إلى هزيمتهم بعد محاورة مقالة عميقة كتبها ديفيد سيليتو، مراسل (بي بي سي) للإعلام بعنوان (كيف صنع الإعلام الأمريكي ترامب؟). من الواضح، كذلك، أن الأمر متعلّق، بشكلٍ أساسي، بما أصبح يُسمَّى في الإعلام العالمي: (الفوز غير المتوقّع لترامب)!.

(2)

إن أعمق مثالٍ لـ “انتصار التلفزيون”، كما سمّاه سيليتو، هو فوز ترامب الأخير، لأسبابٍ منها أن فوزه ليس فوزاً في دولةٍ واحدة، وإنما سيمتدّ إعصار هذه المفاجأة موجةً تغمر العالم، وستُعيد للرؤى القومية والشعبويّة الألق والثقة في نفسها من جديد، وقد حدث. يلاحظ سيليتو في مقاله أن الإعلام المكتوب والبديل – الإسفيري – كانا ضدّ ترامب جملةً وتفصيلاً بنسبة تتجاوز الـ95%، ولم يتوقفوا عن تحذير الشعب منه، بينما هو، بالنسبة لعدَّاد سوق التلفزيون الإعلامي، نجمٌ محبوبٌ أو كما قال سيليتو: (لدينا الآن رئيس يتمتع بجاذبية تلفزيونية ولا يمكن التنبؤ بما سيقوله، وهو الشخص الذي ستتعقبه الكاميرات وتقديرات الشعبية في أي مكان ذهب إليه). لذلك ليس من المناسب أن يكون التلفزيون “أخلاقيّاً” في ظلّ السوق التنافسية الدامية في بلاد الرأسمال شخصيّاً، وإن فرضنا أن ترامب ليس هو الخيار “الأخلاقي” بالمعايير الديموقراطية والليبرالية، وحتّى الإنسانيّة بالمعنى العام؛ لكنه أخلاقيٌّ جداً من الناحية الاقتصاديّة والأمنية بالنسبة لمن فقدوا حياتهم وهم يتابعون بلادهم تنقل المصانع والبزنس إلى بلدانٍ أرخصُ يداً عاملةً، وفي ذات الوقت تصدّر الأبناء والبنات ليموتوا في حروبٍ عبثيّةٍ لا يدرون كيف أصلاً أيّدوها ولا لماذا خِيضَت. على كلٍّ لن تلتفت قناة (سي إن إن) لذلك وأمامها جبلٌ من ذهب المشاهدين اسمه (ترامب).

1

يقول سيليتو: (هناك وجهة نظر (ليبرالية) تقول إن وسائل الإعلام منحت ترامب مساحة كبيرة جداً للتعبير عن نفسه دون تنقيح. وبدلاً عن الشعور بالفزع فإن قطاعات كبيرة من الجمهور أحبت مشاهدة ما يقوله ترامب. ويمكن أن يُنظر إلى الصّحافة المَطبوعة بشكل أساسي على أنها فشلت في رواية القصة الحقيقية، في حين منحت شاشات التلفاز مساحة مفتوحة لترامب. وسواء اتفقت مع ذلك أم لا، فإن هذا الأمر يفترض شيئين، الأول هو أن لصناعة الأخبار هدفا أخلاقيا، والثاني هو أن التلفزيون لا يزال وسيلة الإعلام الأكثر فاعلية. وأيا كان رأيك من وجهة النظر الأولى، فإن وجهة النظر الثانية هي أكثر وجاهة مما حاول المروجون الرقميون إقناعك به. (…) لقد كان ترامب هو الرجل الذي أثار الاهتمام لدى شبكة سي إن إن بقياسات مستوى الشعبية في سوق تلفزيونية شديدة التنافسية وفي المقابل حصل ترامب على فرصة كافية للظهور على شاشاتها).

(3)

لا شكّ في أن انسلاخ بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي أدّى مباشرةً لفوز (ترامب)، والذي يُعتبر “الخطوة الثانية” في الطريق إلى الهاوية. ففي تقريرٍ شيّق لـ (بي بي سي) نقرأ أن اليمين الأوروبي سارع في التعبير عن سعادته واعتباره فوز ترامب ” بشرى بانتصارات قادمة” مثلما سعد أغلبهم، والذين يسعون لتفكيك الاتحاد الأوروبي – وسوف يحدث – من انسلاخ بريطانيا عنه. علينا أن لا ننسى القوّة الهائلة التي احتزاها اليمين البريطاني قبل فوز ترامب، ودفع بريطانيا إلى خارج “السور الأوروبي”. نقرأ في التقرير: (كتب جان ماري لوبان مؤسس حزب الجبهة الوطنية الفرنسي (يمين)، ووالد زعيمة الحزب مارين لوبان، في تغريدة له على موقع تويتر بعد فوز ترامب “اليوم الولايات المتحدة وغداً فرنسا”. (..) وقال “اليميني المتطرف” الهولندي خيرت فيلدرز: “لقد استعاد الأمريكيون أرضهم”، وأضاف أن أوروبا تشهد “ربيعاً قومياً”). انتهى. وإني أرى أن تعليق فيلدرز الأخير هو الأخطر: “الربيع القومي الأوروبي”.

(4)

قام هذا الجهاز العجيب – التلفزيون – بعد أن كانت عنقرَته تَشغلُ مساحةً كبيرةً من فراغ المنزل، بـ “التحوّل” إلى سَرِيحَة مُسطّحة، تمنحك خياراتٍ في الصورة ليس لي بها خبرةٌ كبيرة نسبةً لعدم امتلاكي سريحةً منها، ولكن أعرف، مثلاً، أنها تستطيع تَبصِيرَكَ بالأبعاد الثلاثيّة عن طريق نظارة خاصّة! ثم إنه استخدم جميع إمكانيّاته لزرع أخطبوط الإنترنت في رأسه عبر البرامج الكثيرة التي صارت تعتمد اعتماداً مُطلقاً على الإنتاج الإسفيري!

لقد استطاع التلفزيون أن يثبت، بأسلوبٍ مسرحيٍّ ساخر، أنه رفيق النظام الرأسمالي الأعظم والأشد طاعةً، وبذلك تتم مكافأته بصورةٍ راتبة، بينما لا تنتبه “الوسائل المتمرّدة”  (دعنا نسميها هكذا: من صحف وإنترنت) أن آلاف أضعاف ما تصله من شعب يصل في دقيقةٍ هائلةٍ لكل الشعوب في العالم، ولشعبه هو بالذات، عبر التلفزيون. حسن، نعترف أن هذا مُرعب، ولكن ألم يكن التلفزيون دائماً شخصيّةً شيطانيّةً ومُرعبة؟.

لقد بدأ تمدد هذا الجهاز، منتصف القرن الماضي، محاولاً الوصول إلى جميع البيوت، أولاً، وقد ساهمت “بذرة فناء الرأسماليّة” في انتشاره – أعني ضعفها الساحق تجاه الربح، قل: جَشَعها – وعندما حلّ الإنترنت بطيئاً في الانتشار الشعبي – نسبةً لصعوبة التحصل على ديسكتوب، دعك عن لابتوب – مع بدايات الألفيّة الجديدة كان التلفزيون، بالفعل، موجوداً في كل منزلٍ سلفاً، جالساً في انتظار الحفلة الكبرى. فبينما يعود فضل الانتفاضات التونسية والمصرية – مثلاً – إلى المدونين الإلكترونيين، إلا أن الطريق الذي سَلَكته كانت بحجم وعي الشعب الذي استَلَمه التلفزيون شاكراً جميل الجميع.

كان التلفزيون هو المسوّق الأول لتلك الانتفاضات، وقد انتصر، في هذه المرحلة على “الوسائل المتمرّدة” مرةً أخرى، وبالضربة القاضية كما فعل ويفعل إلى اليوم، ولكن بهدوءٍ لم ينتبه إليه مستخدمو تلك الوسائل، بل ظنّوه حليفاً لهم، لذلك لا يزالون في المراحل الأولى لاستيعاب الكيفيّة التي يجب أن تعمل بها الشبكة، وظلوا في خانة التحريض والتوقّع، بينما لم تتوقّف طبقة شاسعة عن التثقيف ونشر المعرفة والإمتاع والإبداع، وهنا بقعة ضوء.

هنا، حدثت هزيمة للمثقف والعالم والفنان والمتمرّد، قبل أيام في أمريكا، لقد حدث ذلك! لقد كانت المغنية الشهيرة (مادونا) مثيرةً للحزن في دعمها لهيلاري وشَتيمتها لترامب في المسرح قائلةً: “أتريدون أن يسخر منّا الكون كلّه؟” فقد تذكرتها، في تلك اللحظة بالذات، ترتدي الزي العسكري وتشجّع الجنود الأمريكان المساكين ليلقوا حتفهم، بالجملة، في العراق.

 (5)

أختتم هذا التنقيب بإعادة ما قلت من قبل: إن شعوب العالم لا تعرف عن بعضها أي شيء سوى ما قدّمه ويقدّمه الإعلام، كذلك فإن شعوب دولةٍ واحدةٍ – كالسودان – لا تعرف عن بعضها شيئاً سوى ما قدّمه الإعلام التقليدي والإعلام الاجتماعي المُقسَّم قَبَليَّاً وعرقيّاً ودينيّاً لا زال، لذلك فنحن نعيش، فعلاً، في عالمٍ مسطّح سيصعِّب كثيراً على حاملي خطاب ثورات حقوق الإنسان والديموقراطية وحقوق المرأة والطفل واللاجئين..إلخ؛ فالواقع يكذّب النظريّات جميعها، والشعوب تتداخل بصورةٍ مريعةٍ دعت حدَّ بناء الجدران الـ(صَّحي صحي) بين الدول، وليس مجرّد أسلاكٍ شائكةٍ أو خطٍّ وهميٍّ في خريطة!

ما هو سرّ هذا التدفُّق الانتحاري عبر البحار إلى أوروبا، حدّ تضحي بحياتك؟ أتذكَّر ما كتبه التركي أورهان باموق الآن عقب هجمات 11 سبتمبر في مقاله (غضب الملعونين)، يقول: (لم يحدث في أي وقتٍ، طوال التاريخ، أن وصلت الفجوة بين الأغنياء والفقراء إلى هذا الاتساع. وقد يُجادل شخصٌ بأن الدول الغنية في العالم مسؤولة عن نجاحها الخاص، ولذلك فهي لا تتحمّل مسؤولية الفقر العالمي. ولكن لَم يحدث أبداً أن جاء زمنٌ عُرِضَت فيه على فقراء العالم حياة الأغنياء كما يحدث اليوم من خلال التلفزيون وأفلام هوليوود. ربما يقول شخص إنّ الفقراء كانوا دائماً يُسلّون أنفسهم بالأساطير التي تدور حول الملوك والملكات. ولكن لم يحدث من قبل أن كان الأغنياء والأقوياء يؤكدون دواعي مكانتهم وحقوقهم بمثل هذه القوة).

* كاتب من السودان

eltlib@gmail.com

* تم نشر هذه المادة تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني.

زر الذهاب إلى الأعلى