شهادات

عرض كتاب :(في نقد الخطاب العربي الراهن) لسمير أمين

يجدر بنا ونحن بصدد عرض كتاب (في نقد الخطاب العربي الراهن) لسمير أمين، الصادر في طبعة شعبية من (الهيئة المصرية العامة للكتاب بالاتفاق مع دار العين للنشر 2015م)؛ أن نستظل بمقولة جورج طرابيشي الفاحصة حول إنتاج مُفكِّر اقتصادي ذي شأن على صعيد عالمي بمثل ما هو سمير أمين؛ فهو – برأي طرابيشي – قد تحوَّل إنتاجه من الاقتصاد إلى الأيدولوجيا، أو بعبارة أخرى من العالم إلى رؤية العالم؛ وهو – طبقاً لذلك – ليس مفكراً اقتصادياً فحسب، ولكنه يقدم قراءة ورؤية وحلولاً على الصعيد الاجتماعي والسياسي، راجعاً إلى المفاهيم الماركسية ومضيفاً إليها.

وُلِدَ سمير أمين في العام 1931م، من أبٍ مصريٍّ وأُمٍّ فرنسية، يعملان طبيبين، وحصل على شهادة البكالوريا في العام 1946، ثم تابع تحصيله الجامعي بفرنسا، وحصل على دبلوم العلوم السياسية عام 1952م، ثم مُنِحَ شهادة الحقوق – الاقتصاد في العام التالي، ومن ثمّ دبلوم الاقتصاد في العام 1956م من معهد الإحصاءات بجامعة باريس.

عاصر سمير أمين الفترة الناصرية بمصر، فعمل بالمؤسسة الاقتصادية بالقاهرة في العام 1958م، لكنه غادر في 1962م، ليعمل في قسم الدراسات الاقتصادية والمالية بوزارة المالية بباريس.

خلال العام 1957، انتسب أمين إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، إلا أن الماركسية السوفييتية لم تُثِرْ إعجابه، إذ كان مقرباً من الحلقات الماوية.

عمل أمين مديراً لمعهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادي، وقدم بمؤلفاته مجموعة من القراءات مثل العلاقة بين المركز والأطراف، والتبعية، ومحاولة تجديد قراءة المادية التاريخية، وأنماط الإنتاج.

يُشرِفُ سمير أمين اليوم، على برنامج بحوث (استراتيجيا المستقبل العربي والأفريقي)، وينظم المنتدى لقاءات ومناقشات لملفات أزمة التنمية في دول الأطراف.

خطاباتٌ ثلاثة

يسعى سمير أمين – كما يقول في صدر كتابه (في نقد الخطاب العربي الراهن) – إلى نقد الخطابات السائدة عربياً وعالمياً، بإظهار التباس المفاهيم المُستخدمة في هذه الخطابات، وهي:

1-      خطاب الرأسمالية.

2-      خطاب القومية.

3-      خطاب الدين السياسي.

ويقول أمين أيضاً في مقدمة كتابه:

“وبما أن نقدي للخطابين – القومي والإسلام السياسي – هو نقد من اليسار، فقد وجدت ضرورةَ توضيح مقولاتي النقدية فيما يخص خطاب الرأسمالية السائد، وذلك لأن المعارضة القومية والدينية لا تهتمُّ بهذا النقد، وفي النهاية تقبل عملياً بمبادئ الرأسمالية (ولو دون وعي بذلك)”.

وتحت عنوان (نقد الخطاب القومي)، يشير أمين إلى (كتاب مصير الجماعة العربية – نقد فكر سمير أمين) ومؤلفه شمس الدين الكيلاني. ويرى أنّ نقده لهذا الكتاب، لهو أفضل الوسائل لتوضيح المفاهيم الماركسية من جانب، ومن جانب آخر إظهار التباس مقولات خطاب القومية، كما يُشير أيضاً في نقد خطاب الدين السياسي إلى ما بدا له التباساً خطيراً في تقدير الكاتب الباكستاني مُحمّد خان لموقع الإسلام السياسي في خارطة صراعات الراهن بمقال لخان منشور في مجلة “منثلي ريفيو”.

نقد خطاب الرأسمالية

يُفرِّق سمير أمين بين الخطاب الأيدولوجي للرأسمالية الخيالية، والرأسمالية التاريخية القائمة بالفعل.

ويزعم (التصور الخيالي للرأسمالية) – كما يسميه ويُعرِّفه أمين – أنه يعود بالفائدة على جميع الشعوب، ويُكرِّس نشر الديموقراطية وسيادة السلم على صعيد عالمي، وبالتالي فإن نجاح هذا التصور – المزعوم – يمثل نهاية التاريخ.

وبالمُقابل، يلفت أمين إلى أنّ تاريخ الرأسمالية القائمة بالفعل يُكذِّب الاستخلاصات التي يزعم بها خطاب الرأسمالية الخيالية، ويؤكد في ذات الوقت أن تاريخَ الرأسمالية تاريخُ صراعٍ مُستمرٍ بين منطق التراكم الرأسمالي ومنطق المصالح الاجتماعية والوطنية.

 يُقسِّم سمير أمين تكوين المنظومة العالمية الحديثة إلى مراحل، انطلاقاً من بزوغ المعالم الأولى للنمط الرأسمالي في القرن السادس عشر، حيث يُرجع ظاهرة الاستقطاب إلى القرن السادس عشر والمرحلة المركانتلية (نزعة للمتاجرة من غير اهتمام بأي شيء آخر. ونشأ النظام المركانتلي التجاري في أوروباخلال تقسيم الإقطاعيات لتعزيز ثروة الدولة وزيادة ملكيتها من المعدنين الذهبوالفضة،عن طريق التنظيم الحكوميالصادر لكامل الاقتصادالوطني)، التي دامت ثلاثة قرون حيث تصاعدت الفجوة الإنمائية بين المراكز (أوروبا المركانتيلية) والتخوم المُسيطر عليها (أمريكا)، ثم أخذ الاستقطاب بالتصاعد منذ بداية الثورة الصناعية، في أوائل القرن التاسع عشر، حتى أصبحت المراكز تنفرد بالتصنيع في مقابل التخوم (آسيا، أفريقيا، أمريكا اللاتينية).

يفيد أمين بأن جميع نماذج النظام الرأسمالي، ظلت ترتكز على نظرة إمبريالية للعالم، بالتوافق مع انتشار الرأسمالية، التي تحمل في طيَّاتها عدم التكافؤ والاستقطاب على المستوى العالمي.

ويُلخِّص أمين المراحل اللاحقة إلى المرحلة الليبرالية القومية للاحتكارات (1880 – 1945)م، التي تميزت بالصراعات بين مختلف الدول الإمبريالية الكبرى؛ أما المرحلة الاجتماعية القومية لما بعد الحرب (1945- 1980) فقد تمّ خلالها تلاؤم استراتيجيات الإمبريالية القومية تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، واضطرت الإمبريالية إلى التراجع والانسحاب من الصين، كما أنّها اضطرت لقُبول تنازلات لصالح حركات التحرر في آسيا وأفريقيا.

يُشبِّه سمير أمين الجوَّ الذي شَهدته نهاية القرن العشرين بالجوِّ الذي بدأ به، قائلاً: (كان بالفعل جميلاً، ولكن لرأس المال)؛ فكما أدى فوز بلدان المراكز الرأسمالية المعولمة إلى انفجار ديموغرافي وزيادة نسبة سكان الأرض من الأصل الأوروبي من 23% في العام 1800م إلى 36% في العام 1900م؛ فإنّ برجوازيات الثلاثية (أمريكا، أوروبا، اليابان) في نهاية القرن العشرين صارت تنعم بانتصارها، ولم يعد يُنظر إلى الطبقات العاملة في بلدان المركز، بوصفها الطبقات الخطيرة كما كانت عليه خلال القرن التاسع عشر، أما بقية شعوب العالم فما عليها إلا أن تنتظر، لكن أمين يشير إلى أن انتصار الرأسمالية في بداية القرن العشرين لم يدم أكثر من عقدين!

 ثم ينتقل أمين إلى العام 1968م، ويرى أن الأزمة التي نبعت منذها، كانت أزمة انحراف ثم انهيار الأنظمة التأسيسية للتطور السابق، وهي ليست فترة إقامة نظام عالمي جديد، بل هي فترة إقامة فوضى يصعب التحكم فيها، ويشير إلى التناقضات التي ظلت تعمل باطنياً فيها، لافتاً إلى انهيار النماذج الثلاثة للتراكم المُقيَّد الذي أدى إلى أزمة بنيوية منذ العام 1968م، فانخفضت معدلات الاستثمار والنمو إلى نصف ما كانت عليه، وارتفعت البطالة وانتشر الفقر واللا مساواة على الأصعدة الوطنية والدولية؛ فالأرباح التي يُولِّدُها الاستغلال لا تجد منافذ كافية في الاستثمار المُناط بتوسيع المنظومة الإنتاجية.

كما إن القلق الذي تُبديه البلدان السبعة – بحسب أمين – هو تعبير عن هذه الأزمة الكبرى المُتمثِّلة في سقوط السوق النقدية والمالية في العام 2008م، فلحقت ذلك مبادرات وتغيير من لهجة الدول السبع، فصارت تستخدم مصطلح التهجين، بالإضافة إلى مُبادرات البنك الدولي لتوظيف المنظمات غير الحكومية خدمةً لخطابه المعروف بمكافحة الفقر؛ لكنه يرى هذه النبرة والمُبادرات محاولات لتصحيح النظام وإبقائه على ما هو عليه.

 نقد خطاب القومية

يعتبر سمير أمين الوحدة العربية ضرورة تاريخية، إلاّ أنّه يختلف مع جُلِّ التوجُّهات القومية العربية في مجال استراتيجية العمل لتحقيق الهدف، ويعيب عليها إغفالها العلاقة الحاسمة – برأيه – التي تربط النضال من أجل إنجاز الوحدة العربية بالصراع الطبقي، فالخُروج من الرأسمالية المعولمة – لديه – شرطٌ لإنجاز الوحدة العربية، بالإضافة إلى استبدال العلاقات الاجتماعية رأسمالية الطابع بعلاقات ذات طابع اشتراكي في إدارة شؤون المجتمع المحلي.

وفي هذا الصدد، اختار أمين مناقشة أطروحات الكاتب القومي اليساري شمس الدين الكيلاني، بدلاً عن مناقشة أطروحات المشاريع الناصرية والبعثية التاريخية.

ويعيب أمين أيضاً على الخطاب القومي العربي، اعتماده على سمات يفترض أنها تُثبت وجود (الأمة العربية)، مثل سمات: اللغة، والدين، والمرجعيات الثقافية النخبوية، وحركات الهجرة التاريخية، ويعتبر هذه السمات وقائع حقيقية في حدِّ ذاتها، لكنها غير كافية لتُكوِّن قومية واحدة، فليس من العسير بيان مجموعة أخرى من الوقائع التي يُمكن من خلالها استخلاص أطروحة قوميات قطرية محلية، والمنهجان – برأيه – يَشتركان في طابعهما التبسيطي، إذ يعتبر الوقائع المُستنبطة منهما ضعيفة الطابع دون قدرة على الإقناع، بالإضافة إلى أنها أيدولوجية الطابع وغير علمية.

كما يلفت أمين الانتباه إلى أنّ المُجتمع العربي في عصره الذهبي (القرون الهجرية الثلاثة الأولى)، لم يتسم بكونه وسطاً عربياً إسلامياً مُتجانساً كما تزعم – حسب تعبيره – خرافة العروبة؛ بل اتسم باختلاط وتفاعل عناصر ثقافية ولغوية ودينية من أصول مُتباينة، ويُسمِّي ما حدث في القرون الأولى بعروبة ناقصة، ويشير إلى أنها لم تكن عاملاً سلبياً، بل أصبح هذا التنوع عاملاً إيجابياً في ازدهار الفكر والحضارة.

ويقول سمير أمين بانتفاء الحاجة إلى الإضفاء على مفهوم القومية العربية أكثر مما يحتمل، واختزال تاريخ الشعوب العربية في مجرد إشهار عروبتها، داعياً القوميِّين إلى الخروج من خطابهم الميتافيزيقي المُطلق، حتى أنه يقترب – حسب وصفه – من أصحاب النظريات العنصرية والعرقية.

ويطرح سمير أمين طريقاً بديلاً للطريق المطروح في خطاب شمس الدين الكيلاني (أي الترحيب بأي قوة تقود معسكر النضال من أجل إنجاز وحدة قومية حتى ولو كانت برجوازية)، فيشترط ممارسة الطبقات الشعبية دوراً أساسياً، يتمثل في تشكيل تكتُّل وطني شعبي ديموقراطي بديلاً للتكتُّلات الشعبية الوطنية غير الديموقراطية على نمط الناصرية.

أما الجزء الثاني من خطاب سمير أمين، فهو إنجاز مشروع تحرير يقتضي فك الارتباط  وهو – بحسب د. أيوب أبو دية في كتاب (تنمية التخلف العربي في ظلال سمير أمين –– دار الفارابي، 2004) – مفهوم يفترض إخضاع العلاقات مع العالم الرأسمالي لمنطق واحتياجات التقدم الداخلي (على عكس التكيف).

خطاب الدين السياسي

يزعم سمير أمين أن دحر خطة واشنطن الداعية إلى تكريس السيطرة العسكرية الأمريكية على صعيد الكوكب من جانب، ودحر الإسلام السياسي من جانب آخر؛ يزعم أنهما هدفان لا يُمكن الفصل بينهما، ويتوصّل إلى أن الحداثة القائمة بسبب علاقتها بتبلور الرأسمالية العالمية لا يمكن فصلها من نمط التوسع على صعيد عالمي ذي الطابع الاستعماري، ويؤيد القول من جانب آخر بأن تدهور أوضاع المجتمعات الإسلامية، وتفاقم الفقر في صفوف شعوبها، هو السبب الذي يقف وراء دعوة الإسلام السياسي.

ويذهب أمين في تحليله لظاهرة الإسلام السياسي، إلى دراسة نظام الحكم ذي الطابع الخراجي، الذي كان مسيطراً على المجتمعات القديمة، وفيها يُسيطر المستوى السياسي على المستوى الاقتصادي (على عكس النمط الرأسمالي)، وأن النمط المطلوب الفاعل للأيدولوجيا المُناسبة للقيام بهذا الدور هو النمط الميتافيزيقي المُطلق. وقد مثلت العقائد الدينية، الشكل الذي اتخذه الخطاب الميتافيزيقي المطلوب؛ لكن ظهور الرأسمالية (ومعها الحداثة) قد أنتج انقلاباً في العلاقة بين المستويين السياسي والاقتصادي، ما أضفى على الديانة مقاماً ومحتوىً آخرَيْن؛ ونتيجة لذلك، فإن أمين يعتبر الإسلام السياسي ظاهرة حديثة، وليس استمراراً لظاهرة قديمة، كما يدعو إلى عدم الجمع بين ظاهرة إسلام الضواحي الشعبية في أوروبا وأمريكا، والإسلام السياسي في المجتمعات الإسلامية؛ لكون إسلام الضواحي ظاهرة تمثل انتفاضة مهاجرين فقراء شأنها شأن احتجاجات اجتماعية أخرى، كما أن تناول الإسلام السياسي عبر خطاب عام يغفل تنوع الظروف الملموسة والمتغيرة من قطر لآخر؛ يحمل مخاطرة كبيرة.

ومن ثم يتعرَّض أمين إلى مفهوم الإسلامفوبيا، ويُلحق به مفهوماً آخر وهو الصينوفوبيا، ويُرجع هذه الظواهر إلى تكريس الاستعمار للثالوث (أوروبا – أمريكا – اليابان) لنظام عالمي قائم على مبدأ (البارتهيد) الذي يضمن استمرار تداوله ضد جميع شعوب الجنوب، وليس المجتمعات الإسلامية  فحسب.

كما يدعو أمين إلى تحريك الفكر الديني، بل يعتبر نفسه بشكلٍ ما، أحد المتحركين على هذه الأرضية بالأساس. 

* شاعر من السودان

* تم نشر هذه المادة تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني.

حاتم الكناني

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى