ثمار

البيت الشجريّ

“اليوم الذي جُنّت فيه مُؤخرتي”. نعم عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة. لقد دُهشتُ مثلكم عندما قرأت عنوان الكتاب في مكتبة مدرسة أبنائي.

هززتُ رأسي استياءً كما أي والد مسؤول وحضّرت في ذهني سيناريو حوار لجلسة أتفاكر فيها معهم طويلاً حول الكتب، حالما أجد الوقت لذلك بين مشاغل المنزل الرتيبة. إنما في الوقت الحالي سأكتفي بتعابير الاستياء و(مصمصة) الشفاه و(قليب) العيون كُلَّما شاهدتُّ حلقةً من المسلسل الكارتوني المُقتبس عن الكتاب.

حتى كان اليوم الذي صادفتُ فيه لقاءً تلفزيونياً مع كاتب سلسلة كُتُبِ المؤخرة، السيد آندي قريفثس. رفعت صوت التلفاز وتأكدت من امتعاضتي على وجهي.

 السيد آندي قريفثس صاحب أعلى كتب الأطفال مبيعاً في أستراليا وحول العالم، تبلغ أرباح كتبك الخمسة مليون دولار! كيف يبدو لك ذلك؟

(يمسح ابتسامة محرجة ومُضطَّربة عن وجهه).

أممممم لست أدري في الحقيقة. بدأت الحكاية بأني كنت أكتب كتاباً تربوياً -(نعم السيد آندي تربوي) – وتيري الذي قام بعمل الرسومات على كتابي قال لي: لم لا تكتب قصص أطفال؟ لن تكون أكثر سوءاً من الكتب الموجودة في السوق! وهكذا، بهذا الإطراء الجارح شرعت في كتابة سلسلة (مزاح فقط، مزعج فقط، غبي فقط، مقرف فقط، صادم فقط..إلخ). وهي كتابات تحاول أن تختبر ماذا يحدث حين لا يتَّبع الصغارُ الأوامرَ والقواعد. نختبر الأمر حتى نهايته المأساوية العنيفة.

المذيعة: تبع ذلك سلسلة الكتب السيئة (باد بوكس). والتي تتحدث عن أشياء سيئة تحدث. كوارث، مصائب، جنون!!

آندي يضحك: أجل.

المذيعة: لقد اندهشت من كمية العنف الموجودة في كتاباتك. ألم يشكل لك هذا هاجساً؟

آندي (في الخامسة والخمسين من عمره، لكنه يتحدث كمُراهق لذيذ): في الحقيقة لا. أعني كلنا ندري، أنه لدى الصغار تلك المخيلة القادرة على تصور العنف الفظيع إلى مداه، وقادرة على التمتع به. طالما أنهم لا يُحقِّقونه في الواقع، أعني: ستُدهشين في حفلات التوقيع أن محبي كتبي هذه هم من ألطف الأولاد والبنات، كم هم مهذبون ويقولون: (شكراً، لو سمحت)، بعضهم خجول هامس. لعل كتبي هذه تساعد في إطلاق المكبوت في خيالهم.

المذيعة: لنأتي لسلسلة كتب المؤخرة؛ ألم تقلق من استخدام كلمة صادمة كهذه في العنوان؟

آندي: لقد وجدت أنني كلما اجتمعت مع أطفال في مكان ما، ما إن أذكر كلمة مؤخرة، حتى ينفجروا بالضحك.

المذيعة تضحك: حتى أنا أجد ذكرها مضحكاً.

آندي: فكرت في هذا الأمر، يضحكون للوجود المحرج للمؤخرة. لذا تابعت الفكرة لأقصاها: ماذا إن جنَّتْ مؤخرتك يوماً وانفصلت عن جسدك كي يراها الجميع، ثم بزغت لهذه المؤخرة يدان ورجلان، وهربت منك مُسبِّبةً لك إحراجاً مُضاعفاً. وجدت هذه الفكرة مضحكة جداً. ومن هنا كانت سلسلة اليوم الذي جُنَّتْ فيه مؤخرتي.

المذيعة: ثم كانت سلسلتك الأخيرة، قصص المنزل الشجريّ.

آندي: نعم. على موقعي الإلكتروني كنت أجد سؤالاً مُلحَّاً من قُرَّائي الصغار. (متى يصدر كتابك الجديد؟) (أليس من كتابة جديدة؟) (حتى متى علينا انتظار كتابك القادم؟)، لذا قمت أنا وصديقي تيري بكتابة سلسلة تتحدث عن السبب الحقيقي في تأخرنا في إصدار الكتب، عن آلاف المشوشات والمعطلات والمعطبات التي تحدث في عالم خيال الكاتب. المنزل الشجري مرتفع قليلاً عن الأرض، بعيد عن “أرض الواقع”، لذا ترتفع فيه وتيرة الخيال كلما صعدت إلى أعلى..

المذيعة (مقاطعة): كان هناك كتاب المنزل الشجري ذي الـ(13) طابقاً، ثم ذي (26، 29، 56) والآن كتابك الأخير ذو 78 طابقاً. متى نصل الطابق الأخير، السطح؟

آندي: لا يوجد سطح، يبدو أنه كلما صعدنا إلى أعلى تفرَّع الخيال في منزل الشجر أكثر وأكثر. وهكذا أنا وتيري نظل نصارع هذه العقبات كي نتمكن من تسليم الكتاب في زمنه للمطبعة، ويركض من خلفنا (ذو الأنف الكبير) وهو الناشر الذي يُحاصرنا دوماً بالموعد النهائي.

المذيعة: ماذا عن السيد “سلك شائك” (في الحقيقة اسمه غلاف الفقاعات، وفي تعبير الإنجليزية أن تغلف شيئاً بالفقاع بمعنى أن تجعله غير متاح) أعتقد أنه يمثل الآباء.

آندي: ربما. لكنه ليس سيئاً، في البدء يطاردنا السيد سلك لإغلاق منزلنا الشجري. لكن ما إن يدخل هنالك حتى يدرك المتعة الكامنة خلف مشاهد العنف والأشياء المُقرفة في الداخل. يدرك الطرافة خلفها؛ وشيئاً فشيئاً يطلق العنان لنفسه.

المذيعة: ما رأيك في اعتراض الآباء على العنف أو الكلمات الصادمة في كتبك؟ وكما علمت أن البعض حاول سحب كُتبك من مكتبة المدرسة.

آندي: شوفي.. أنا متفهم تماماً أن هذا دور الذي يمارسه الكثير من الآباء. ومن حقهم أن يختاروا لأبنائهم ما يقرأونه، لكن ما لا أفهمه هو أن بضعة آباء يفرضون رؤيتهم على مدرسة كاملة ويحددون ما يجب وما لا يجب على الآخرين قراءته. هذا كثير.

المذيعة: طيب، هل تراقب نفسك في الكتابة؟

آندي: إطلاقا. لا أنا ولا تيري، ليس هناك حدٌّ لعواراتنا وهزلنا ومزاحنا في عالمنا الداخلي؛ لكن زوجتي هي التي تُمثِّل صوت العقل، والتي تُخرجنا أحياناً من دوّامتنا الداخلية.

المذيعة: وكيف ذلك؟

آندي: مثلاً، في إحدى القصص، كان هناك كلب يتابع برنامج كلاب، ونقوم برسم صورة كلب داخل تلفاز يقول: (هَوْ هَوْ)! ثم في الصفحة الثانية ذات الكلب بذات الشكل يقول: (هَوْ هَوْ)، ثم في الصفحة الثالثة والرابعة: (هَوْ هَوْ)، وفي الصفحة الخامسة ربما نُغيِّر تفصيلةً صغيرة، ربما ترتفع الأذنان ويقول الكلب: (هَوْ هَوْ). وهكذا نستمر حتى عشرين صفحة من (الهَوْهَوَة). وأنا وتيري صديقي في غاية الاستمتاع بهذه العوارة. هنا تتدخل زوجتي وتقول: حسن! حسن! تكفي 3 صفحات فقط من (الهَوْهَوَة)، فنصيح: ماذا؟ لا! هذا قليل، فتقول: 6، فنستسلم ونكتفي بعشر صفحات.

المذيعة: وطبعاً هذا هو المقلب الذي يقع فيه القارئ؟

آندي: أيوة. يظل القارئ يقلب الصفحات مُحاولاً أن يفهم ماذا يحدث، حتى تنطلي عليه الخدعة في الصفحة العاشرة ويدرك أننا نضحك عليه.

المذيعة: وماذا بعد؟

آندي: تعرفين؟ كثير ما أجد السؤال: والآن ماذا بعد مرحلة الكتابة للأطفال ألن تنتقل للكتابة للكبار؟ هناك تقليل من شأن كُتَّاب الأطفال، ثم حتى في كتب الأطفال، نجد أن الكتب المضحكة والكوميدية هي في المستوى الأدنى منها. وهذا عجيب!

المذيعة: وما رأيك في ذلك؟

آندي: الأطفال بعزوفهم عن القراءة بسبب الكتب التي نظن أنها الأنسب لهم، هم خير من يجيب على هذا السؤال.

انتهى اللقاء، تابعتُ بعد ذلك عدة لقاءات تجمع آندي غريفثس وقراءه الصغار، وهي لقاءات أشبه بوِرَشِ كتابة القصة أو تعلم فنِّ الحكي والتخيُّل.

في واحدة منها يسألهم: أريد أن أكتب قصة عن رضيع، هل أكتبها عن رضيع هادئ أم رضيع شقي؟

يصيح الأطفال: رضيع شقيّ.

آندي: بالطبع! لأن الرضيع الهادئ لا يفعل شيئاً. إنه يرقد في سريره يضحك ويبتسم ويناغي، بينما الرضيع الشقي سيهرب من سريره، ويحبو نحو شارع فيه سيارات مسرعة، والآن ما هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث للطفل؟ (ويلوح آندي بلعبة رضيع صغير في يده).

ينفعل الأطفال في حماسة، ويصيح واحد منهم: تضربه شاحنة مُسرعة.

آندي: نعم.. أو؟

طفل آخر: سيارة مسرعة في مقدمتها مقص حاد.

يضحك آندي مرحاً: نعم نعم!

طفل آخر: أو طائرة تسقط فيه قنبلة نووية.

آندي: هذه ستكون أقصر قصة كتبتها في حياتي.. كل هذا مُتوقَّعٌ ومعروف، نريد شيئاً غريباً. تخيَّل أن الرضيع يصادف قودزيلا: (الزاحف الوحش الضخم، يُلوِّح آندي بلعبة قودزيلا)، ها هو قودزيلا يحطم الأشياء من حوله، حتى يجد الرضيع في طريقه، ما الذي يمكن أن يحدث؟

يصيحون: سيَفْجَخُه.

آندي: نعم! شرَّ تفجيخة، هذا هو المتوقع.. لكن ما هو غير المتوقع؟

يصيح الأطفال: أن يقتل الرضيع قودزيلا.

آندي: بالضبط! وكيف سيفعل ذلك؟ ما هي الأسلحة التي يمتلكها الطفل؟

وتتنوَّع الإجابات بين أن يتجشَّأ الطفل على قودزيلا أو يرمي بلفافته النتنة في وجهه، فيصعق الوحش وعندها يحمل الرضيع الدبوس الذي يربط قماطه ويفقأ عيني الوحش، ويموج الأطفالُ ضاحكين.

آندي: حسناً حتى هذه المواجهة بين الطفل وفودزيلا متوقعة، لكن تخيَّلْ أن يحدث شيء غريب، كأن يستلطف قودزيلا الرضيع ويُقرِّر أن يتبناه.

يضحك الأطفال.

آندي: قودزيلا بطنه مطاطي كبير يصلح كنطاطة للرضيع.

يصيح طفل: ويمكنه أن يستخدم ذيله كزحلقانية.

آندي: بالتأكيد. (ويقوم بزحلقة الطفل على ذيل الوحش، عندها ينفصل الرأس عن اللعبة وتتدحرج قرب الأطفال، أحد الأطفال يحمل الرأس ويقذف بها آندي).

آندي: لا لا لا يا صغيري. أنت تعلم أن قذف رؤوس الرُّضَّع هو تصرف غير مسؤول، لذا دعوني أخبركم يا أطفال، إذا ما صادفكم رأس رضيع في الشارع ماذا تفعلون؟ تحملونه بكل رفق وتعيدونه لوالدته وقولوا: (سوري)!

زر الذهاب إلى الأعلى