عقل المرأة وعقل الرجل… أيهما! أم ماذا؟
من الأسئلة الشائعة في المُجتمعات البشرية هي هل النساء والرجال مبرمجون فطرياً على قدرات عقلية واهتمامات مُتباينة، وهل هذه الفروق الذهنية تحتم التمايز في السلوك وطريقة التفكير وبالتالي المجال المهني أو الأكاديمي والتمييز الجنسي في الرواتب بافتراض أن الفروق الجنسية تؤثر على القدرات الإدراكية؟ أو هل الرجال غير قادرين فطرياً على الاعتناء بالأطفال وتخصيص الوقت والجهد لمصلحة أبنائهم، أو أنهم مُبرمجون بيولوجياً على السلوك العدواني، أو لا مفر لهم من التفكير المستمر في تعدد الزوجات Polygamy؟ وغيرها الكثير من الأسئلة الحَائرة في مجال جنوسة الدماغ التي تبحث عن إجابات علمية وقد لا تجد! وبالتالي أصبح لدينا ما يُسمى بالأفكار المنمطة عن جنس الدماغ – غير المُؤسّسة بالضرورة على دليل علمي – التي تنتشر بين العامة أو بين العلماء أنفسهم.
بشكلٍ عامٍ يتكوّن الدماغ في الإنسان من نصفين، النصف الأيمن والنصف الأيسر، وكل منهما يؤدي وظائف مختلفة عن الآخر، لكنهما يتكاملان، ويتحكّم النصف الأيمن في الشق الأيسر من الجسم، بينما يتحكم النصف الأيسر في الشق الأيمن من الجسم. ويختلف تكوين المخ بصفة عامة بين الذكر والأنثى من الناحية الكيميائية والوظيفية، وأيضاً من ناحية تشعب واتصال الخلايا العصبية (النيرونات) ببعضها، ويكمن الفرق الجنسي الأكثر وضوحاً في الدماغ في حجمه العام، حيث يزيد حجم دماغ الذكر بحوالي 10% عن حجم دماغ الأنثى، لكن هذا الفرق في الحجم قد يكون متوقعاً بناءً على الفروق في طول القامة والأوزان وحجم الجسم بين الذكر والأنثى، حيث أنّ الجسم الأكبر يتطلب بالمثل دماغاً أكبر كي يقوم بوظائفه. وبالرغم من أن دماغ الذكر أكبر حجماً من دماغ الأنثى، الا ان عدد الخلايا العصبية وهي الوحدات الوظيفية في الدماغ قد يكون متساوياً في كلا الجنسين، لكن تُرص الخلايا العصبية في دماغ الأنثى بشكل أكثر كثافةً، بالإضافة إلى أن دماغ الأنثى يظهر ارتفاعاً في معدل الاستقلاب للجلكوز والإمداد الدموي أعلى بنسبة 15% عما هو الحال عليه في دماغ الرجل، الأمر الذي يعكس زيادة في النشاط الوظيفي لدماغ المرأة. ويتصل نصفا المخ بتجمع عصبي يُسمى الجسم الثفني corpus callosum، وعن طريقه يُمكن للمعلومات أن تنتقل بين نصفي المخ، ويبدو أن حجم هذا الجسم أكبر حجماً في الإناث مما يجعل من عملية انتقال المعلومات بين النصف الأيمن والأيسر للمخ أسرع وأكثر كفاءةً في الإناث، بمعنى أن المرأة معدة بيولوجياً لتوحيد وظائف نصفي المخ. ويؤدي النصف الأيسر وظائف التفكير المنطقي والاستنتاج التحليلي واللغة، أما النصف الأيمن فهو مسؤول عن تخيل المساحات والحجوم وتقدير سُرعة الأشياء وتصور الفراغات بين الأشكال من حولنا. وتكمن قوة المرأة في نصف مخها الأيسر، لذلك فهي أكثر لباقةً وقدرةً على الحوار والاسترسال اللغوي والإقناع وتعلم اللغات الأجنبية والموسيقى والغناء وترديد الألحان من الرجل، أما الرجل فتكمن قوته في نصف مخه الأيمن، حيث ومنذ النمو الجنيني يُظهِر دماغ الذكر قدراً من اللا تناظر بنمو الفص الأيمن للدماغ بشكلٍ أسرع من الفص الأيسر.

وعلى الرغم من الإشكالات المُزمنة في فهم طبيعة عمل أدمغتنا مُعقّدة التركيب وعلاقتها بالجنوسة، فقد قدمت لنا الأبحاث العلمية في هذا المجال بعض الأدلة التي تدعم الفروق الجنسية للدماغ في بعض الأمور، مثل العنف الجسدي، وسُلوك اللعب في الطفولة، وبعض القدرات الذهنية بما في ذلك القدرات البصرية والمكانية، والقدرات الرياضية، والقدرات اللغوية. كذلك بعض الفروق الجنسية المُتعلِّقة بسمات الشخصية، مثل العطاء أو إضفاء الحنان والعطف على الآخرين، والمقدرة على التعبير عن المشاعر، وقدرات الإسهاب اللفظي والكلامي (أعلى في النساء)، والسيادة وفرض الرأي أو الإصرار عليه (أعلى في الرجال)، وفي مستوى النشاط والحركة لدى الأطفال (أعلى لدى الأطفال الذكور). وعموماً فإنّ عمليات التمايز الجنسي تتحكم بها عوامل يمكن أن يطلق عليها عوامل وراثية بيئية مثل الكروموسومات الجنسية (X/Y)، وكذلك بيئة الهرمونات في ما قبل الولادة وبعدها مُباشرةً، والتأثيرات الاجتماعية والخبرات المُكتسبة منذ الطفولة وحتى الوفاة، فالدماغ البشري أكثر استجابةً للخبرات والتجارب مما قد تقترحه الأفكار النمطية التي بحوزتنا. وبالتالي فإن هوية الجنس مهمة في تحديد سمات الشخصية بالنسبة للمرأة والرجل، ومن يعانون من اضطرابات هوية الجنوسة – وهم غير الراضين عن جنسهم أو يعتقدون أن الفرد من الجنس الآخر أعلى منهم مرتبة اجتماعية – بسبب خلل وراثي هرموني أو مشكلة في التنشئة بما في ذلك التحقير الأسري قد يحتاجون لتدخل طبي لعلاجهم.
إنّ أفضل الفروقات الجنسية المعروفة في القدرات الذهنية هي التدوير الذهني، وهو القدرة على تدوير الأشكال الهندسية بسرعة ودقة في الذهن، وكذلك الإدراك المكاني وهو القدرة على تخيل أبعاد المكان المحيط بالفرد والتفاعل معه، وفي كلا الحالتين هنالك تفوق للذكور على الإناث، حيث يظهر الذكور مقدرة أكبر في تدوير الأشكال الهندسية في أدمغتهم وكذلك تخيلاً أفضل لأبعاد المكان المحيط وتقدير المسافات، ويظهر هذا جلياً عند مقارنة طريقة ركن كل منهما للسيارة أو ممارسة الجراحة أو لعب كرة السلة أو كرة القدم وجميعها مهام تتطلب تقديراً للمسافات والأبعاد المُحيطة. ويبدو أن هذه القدرات تطورت لدى الرجل خلال تطور دماغه عبر آلاف السنوات منذ أن كانت المُجتمعات البشرية تعتمد على الصيد وجمع الثمار، وبالتالي تطور دماغ الرجل ليكون أكثر قدرةً على تخيل المكان وموقع الطرائد الثابتة أو المتحركة ومطاردتها وإصابتها بدقة، وهذا يتضح أيضاً في استخدام الذكر لكلتا يديه بشكل أفضل مقارنة مع الأنثى. أما على مستوى اختبار القدرات الدراسية، فإنّ هنالك فروقاً جنسية لمصلحة الإناث في القدرات الحسابية وحفظ الأرقام، فالمرأة لها مقدرة أفضل في عمليات الجمع والطرح وحفظ أرقام الهواتف والتواريخ مثل يوم زواجها وتواريخ ميلاد أبنائها أفضل من زوجها، لكن يتفوّق الذكور في الرياضيات وحل المسائل المُعقّدة، وهذا ما قد يفسر تفوق الذكور في مجالات مثل الفيزياء والهندسة والرياضيات البحتة والفلك. لكن هذا التفوق لمصلحة الذكر في العلوم لم يمنع ظهور هيباتيا الإسكندرية عالمة الرياضيات والفلك المرموقة، وماري كوري الحاصلة على جائزتي نوبل في الفيزياء والكيمياء، بالإضافة للمُراهقة البريطانية أوليفيا ماننغ صاحبة الستة عشر ربيعاً والتي تفوّقت مؤخراً في مقياس معدل ذكائها على معدل الذكاء المسجل للعالمين المرموقين البيرت انشتاين واستيفن هوكنغ. كذلك تتفوّق الإناث على الذكور في المهام اللغوية، فالأنثى أكثر مقدرة في تعلم اللغات والتحدث بها واستخدامها في الإقناع، والترجمة من لغة لأخرى، ويظهر هذا جلياً في سيطرة الإناث على كليات الألسن والترجمة وتميزهن فيها. لكن تفوق المرأة في اللغة لم يمنع ظهور عباقرة لغة مثل جيفري تشوسر ووليم شكسبير في الإنجليزية، وابن منظور وسيبويه في العربية. وبالرغم من تفوق الإناث في طلاقة اللسان والقدرة على إنتاج أصوات لفظية بسرعة، إلاّ أنّه لا تُوجد فروقات واضحة بين الجنسين في ذخيرة المفردات اللغوية أو استيعاب القراءة بشكلٍ أسرع.
في ما يخص الفروق الجنسية في العدوانية، فإنّ الذكور أكثر عدوانيةً من الإناث، وتلعب الاندروجينات وهي مجموعة الهرمونات الجنسية لدى الذكور (تُفرز بواسطة غدد صماء) دوراً في إذكاء السلوك العدواني لدى الذكور بتأثيرها على الدماغ، وتظهر الفروق الجنسية بالسلوك في عمر مبكر من حياة الإنسان، حيث ومنذ الطفولة تميل الفتيات لتفضيل لعب الدمي والثياب ومستلزمات الزينة والمكياج، بينما يميل الأولاد الى تفضيل ألعاب القتال والالتحام الجسدي أو لعب الكرة وألعاب الفيديو العنيفة والأسلحة، ويتضح هذا الفرق الجنسي بشكل واضح لدى الذكور بعد البلوغ في الخيال العدواني والاعتداء الجسدي والميل لتجاوز القانون والانخراط في أنشطة مُعادية لمصلحة المُجتمع والإهانات اللفظية والتحرش وتعريض الآخرين لما يبدو أنه سلوكٌ خطرٌ ومؤلمٌ، وقد يكون لبطء الاتصال بين نصفي المخ لدى الرجل دورٌ في تسهيل قيامه بالأعمال القذرة دون مضايقة من باقي أجزاء المخ – التي تظهر في صورة الشعور بالذنب – لذلك نجد كل أبطال التعذيب الذين يحولون المعتقلات لمكان مناسب للموت، والقتلة المأجورين والمرتزقة هم من الرجال. لذا فإن الفتيات المصابات بخلل وراثي يزيد من نسبة إفراز الهرمونات الذكورية في أجسامهن وبالتالي يملن لممارسة السلوكيات الذكورية مثل العنف والميل للعب مع الذكور، وهذا قد يكون دليلاً على التأثيرات الهرمونية في تطور الدماغ البشري وتجنيسه.
إذاً لا يُوجد دليل علمي على أن الرجل أكثر ذكاءً من المرأة أو أنه أفضل منها، لأنه فقط الأقوى جسمانياً، فكل منهما بمنزلة فسيفساء معقدة من الصفات الذكرية والأنثوية تؤهله للقيام بوظائف تتكامل فيما بينها في سبيل الحفاظ على نوعنا البشري الحالي، بالرغم من ذلك فإنّ المرأة تقوم بالدور الأكبر في العملية الأحيائية الأساسية وهي عملية إعادة إنتاج النوع، وتساهم كما الرجل في تطور العلوم وإثراء المعرفة البشرية! ويكمن السبب في التاريخ الطويل للعنف والتمييز ضد المرأة في كون المجتمعات البشرية مجتمعات ذكورية يسيطر عليها الرجل، فهو ولي الأمر، وواضع القوانين، ومُفسِّر الكتب السماوية، ومُؤرِّخ كتب التاريخ، ومهندس خُطط المستقبل. مؤخراً اطلعت على قائمة تحوي ثلاثين اسماً لسيدات سُودانيات بَرَعنَ وحقّقن نجاحات في مجالات مختلفة كانت في السابق حكراً على الرجال، وأصبحن بذلك وجهاً مشرقاً يمثل المرأة السودانية، القائمة أصدرتها مجلة إلكترونية تهتم بشؤون المرأة الأفريقية بشكل عام، وقد ذكرت المجلة في مقالها أن المرأة السودانية اكتسبت حقوقها في وقت مبكر، وأصبحت تنافس، بل وتتفوّق على الرجل في كثير من المجالات، ونتيجة امتحانات الشهادة السودانية خير مثال على ذلك، فالمرأة شريك أصيل في إدارة حركة الحياة والإنتاج العلمي والمعرفي والبيولوجي، ولن تأخذ مجتمعاتنا مكاناً لها تحت الشمس وهي مشلولة النصف.
_______________________________________________________
عن الكاتب: د. هشام يوسف حسن.. باحث سوداني في مجال الوراثة البشرية ، تخرج في كلية العلوم جامعة الخرطوم وحصل على الدكتوراه في الوراثة الجزيئية. عمل أستاذاً مساعداً في عدة جامعات سُودانية وله العديد من البحوث المنشورة في مجال الأمراض الوراثية والتنوع الوراثي البشري والهجرات الكبرى في أفريقيا، يعمل الآن بالمستشفى العسكري بمملكة البحرين.
* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني