خيول الصباح
أن تنفَصل عن الزمان والمكان ، وأن تفهم جيداً بأن هذا الجسد لايعنيك في شيءٍ البتَّة، ثم بعد ذلك يُمكنك أن تبدأ بمعالجة مواضيع غامِقة ، مثلاً: أن تبحث حول معنى وجود الإنسان في عالم مُضْطرِب ، أو عن سِماتْ اللغة الأدبية التي تغمسُ إشارتها لتصفُ واقع مُبعثرومُفكَك، وما إلى ذلك من تلك القضايا المُتمنعة التي تُحفِّز الخيال والتفكير المُستمِرينْ. وكُل ذلك لتحقيق نوع من القطيعة الإجرائية مع ظرفية الراهن.
وفق هذه القواعد الثلاث يٌمكنك أن تقضي أيام رائعة ستذكرها طويلاً، فهنالك العديد من المشاريع وأنصاف المشاريع من كتابات وملاحظات ومقالات تتشكل فينا ببطء في انتظار دَفعةٍ جريئة للظهور والإعلان عن وجودها ، إذن ، فلتكن تلك فرصتها المُناسِبة.
لم تستمر المطاردة سوى خمس دقائق، إنتبه بعدها سائق الحافلة وضغط على دواسة الفرامل لتكمِلُ شوطها كاملاً في مرة واحدة فقط ، فاندفعت امرأة عجوز إلى الأمام حتى كادت أن تسقط ، بينما تزامنت حركة الأيادي المفاجئة لتتشبث بالحواف الخلفية للمقاعد العديمة المقابض، تلفَّت السائق عن يمينه وعن يساره ببلاهة ثم أدار مفتاح التشغيل وحرَّك عصا التعشيق للوضع صفر، في تلك اللحظة صعد ثلاثتهم، كانوا يرتدون بدلات رمادية مصنوعة من قماش سميك تحتوي على أربعة جيوب مطرزة باللون الأزرق والأسود، أولهم كان قصيراً وسميناً وتلمع عينيه المُحمرّتين كصقرٍ يُعدُّ نفسه للإنقضاض على فريسته، الثاني كان أطول منه قامةً ويبدو عليه الإستهتار حيث كان يمضغ قصبة السكر التي سالت على ذقنه على شكل خطين متوازيين ، أما الثالث ، فقد كان مُستعجلاً ومتوتراً، يلقي أوامره للرجلين الآخرين بصرامة ووجه عابس.
الفتاة التي كانت تجلس على المقعد المُجاور لباب الحافلة نهضت بعفوية وهي تمسك بحقيبتها الجامعية السوداء بإهمال واضح ، فارتخت ساقها اليُمنى وإنحنت قليلاً لتتمكن من مشاهدة ما يجري في المقاعد الخلفية ، وذلك من خلف الرجلين اللذان كانا يشتمان ويصرخان ، أما الرجل صاحب قصبة الُسكر، فقد كان يتحدثُ مع السائق ويرسلُ بصره بين الفينة والأخرى ليحدِّقُ في أعلى مؤخرة الفتاة التي إنحسر عنها الإسكيرت بعض الشيء. فطلب منها الرجل الأشيب الذي كان يجلس خلفها أن تجلس، مشيراً بيده في حركة ترددية سريعة من الأعلى للأسفل وكأنه موظفة بنك تحاول إيقاف تاكسي الأجرة.
كان من الممكن أن تتم هذه العملية بطريقة أخرى أكثر هدوءاً ، لولا أن التدريبات الإيرانية التي نالوها علمتهم أن الإثارة شيئاً مهماً في مثل هذه الظروف ، أو ربما كانوا يريدون أن يَضْفوا على عملهم شيئاً من الإثارة لكسر الملل وتبديد غبار الروتين.
إنطلقت العربة التويوتا ( بوكس موديل 1990) بسرعة كبيرة ، وكأنها انقذفت من فوهة مُدفع، وعلى الصندوق الخلفي جلس عدد من الرجال ذوى البدل الرمادية ممسكين بحرصٍ وبكلتا يديهم خشية السقوط المميت ، وكانت أرجلهم ذات الأحذية العسكرية الكبيرة تدوس بشكل عشوائي على ثلاث خرفان رُميت بأهمال على أرضية الصندوق.
عبرت القذيفة شارع محمد نجيب من الإتجاه الجنوبي إلى الشمال بسرعة جنونية ، متجاوزةً إشارات المرور الحمراء ، ثمَّ انعطفت يساراً، وفي تلك اللحظة زحفت العجلات الخلفية مخلفة أثراً وعلامات سوداء على شكل نصف دائري مُتقطِّع على الإسفلت، ثم إستعدلت طريقها إلى الأمام بعد عدة تعرجات وما لبثت أن استقرت ، حتى انعطفت مرةً أخرى يساراً في الإتجاه الجنوبي ثم إختفت في مكان ما.
المكان المقصود لم يكن مجهولاً تماماً ، فهو عبارة عن بناية كبيرة عُلقت عليها لافتة ( منظمة الإحسان والتقوى للعمل الخيري) . وتقع في المساحة الشمالية لمقابر فاروق ، ولكن إحداثيات موقعها بالضبط فهو أمر يستعصي على (قوقل) ، ولكن في كل الأحوال توجدُ هناك ، في مكان ما ، وتأخذ شكلها المُريب، ككلمة نابية أثناء تعارف عابر.
بعد قليل سيبدأ المهرجان ، الطالب الأصغر سناً كان مُعلقاً على الشباك الحديدي بكلابيش حديدية صدئة، يداه إلى الأعلى، على كامل إمتداهما، وهو شبه واقف على الأرض، أو واقفاً على أمشاطه، وإستمر على هذه الحال وقتاً طويلاً ، وعلى ملابسه المُبتلَّة ، تبدو بقع صفراء أو بنية هي عبارة عن سوائل لزجة، ليس سوائل لزجة بالضبط، ولكنها مزيج من فُتات الطعمية وحبيبات الأسود وأغشية الطماطم الرقيقة التي تكرفست في شكل أسطوانات صغيرة الحجم أشبه بما يسمى ( قميص الدابي).
ومرت أيام كثيرة، والرجل الضخم المُلتحي يجلسُ محتاراً على مكتبه، وينظر إلى صفحات الدفاتر البيضاء التي لم تُسوَّد حتى الآن ولو بسطرٍ واحد. في أحد الأيام، وبعد أن نفدَ صبره، قذف (بكباية الشاي) في وجه الطالب الساخر المُشاكس فأصابه بجرحٍ بليغ ، مما جعل عامل النظافة يبذلُ جهداً كبيراً لإزالة البقع الحمراء من على أرضية المكتب الخرسانية. لم يكن أي منهم يعلم في أي يوم بالضبط حدث ذلك، لأنه من الصعب تقدير الزمن في مثل هذه الأماكن. حيث لايوم ولاإسبوع ولاشهر ولاغيره من القياسات الزمنية المعروفة، هناك فقط لحظات لانهائية تتمدد على سطح الدقائق التي هي بدورها تطفو على الساعات والأيام وهكذا، بإختصار، يأخذ الزمن شكلاً دائرياً أو إهليليجياً ليبتلع بداخله كل شيء ،كما (دوَّامة النهر)، ولذلك لم تستطع الفتاة اللثغاء أن تقدِّر المُدة التي قضاها الطالب الساخر المشاكس في بئر غيابه قبل أن يسمع الناس خبر موته.
ولكن على الأرجح أنه مكث هناك وقتاً طويلاً بعد خروج زميليه الآخرين. كانت تأتي إلى الجامعة في الصباح، ثم تعود في آخر المساء تمضي يومها صامتةً وشاردة الذهن، كمُسرنِم فقد بوصلته. وكانت بالكاد تحاول أن تعي مايدورحولها.
(لاتستفز الجلاد وأنت في قبضته). ربما كان من المُمكن أن تكون هذه العبارة طوق نجاته المفقود. لولا أنه في بعض الأحيان يأتينا السهو من حيث لا نعلم أو نعلم، تماماً كما نسيتُ أن أشير إليها في بداية القصة بوصفها القاعدة الرابعة. ولكن الأمور سارت على هذا النحو المُتعب.
بعد ذلك، تداول الطلاب السيناريو الوحيد الذي ذاع وإنتشر فيما بينهم بسرعة البرق، نقلاً على الراوي الأول والذي سنفترض أنه هو تلك الفتاة اللثغاء . وقد حافظ على صيغته الأولانية من دون أي تعديلات، وهو كما نعلم أمرٌ غريب، إذ تفقد الروايات دائماً بعضاً من شكلها الأصلي بعد التداول والإنتشار، حيث تمسُّها ذوات المستمعين والرواة الجُدُد. وهذه هي التفاصيل الكاملة لسيناريو الطالب الساخر المشاكس :-
( كانت خيوط الدخان تتصاعدُ من خمسة مواضع متفرقة على جسده، حيثُ إنغرست أعقاب سجاير البرنجي، وكان هنالك رجلاً ملتحياً ضخم الجثة، وغاضباً بشكل نهائي، يرتدي بنطلون أزرق وفانلة داخلية، ويتصببُ عرقاً، وقد كان يصيحُ بأعلى صوته ويركل ويشتم ويركل، ويصيح ويركل، ويسأل ويركل … ، ثم كانت هنالك جثة أو ملامح شبحية لجسدٍ مُعلَّق يتأرجح على عارضة حديدية بسمك 2بوصة كبندول فيزيائي، وعلى الأرض سقط(السونكي) وعلقت به ذرات الغبار التي تخللت حُمرته ).
* كاتب من السودان