(حب الناس) مرَّ عامٌ على رحيله :عن الشاعر الغنائي التوم إبراهيم التوم
كأنه أراد أن يحقق وجوداً مغايراً، بالعيش داخل أغنية شاردة، مضوّعة باللوعة، بالحنين والرجاء، ملتصقاً بجدران خليتها الداخلية الشفيفة، وممتزجاً برهافة إيقاعها الطروب، تجلوه، في الآن ذاته، موسيقاها الداخلية السرية التي لا تنضب. كأنه أراد أن يكون هو نفسه اللحن، ليس بوصف الألحان حالة تأملية صوفية مجردة وإنما كحياة كاملة، مترعة بالعشق والسلوى والوله العفيف.
ولد الشاعر الغنائي التوم إبراهيم التوم بمدينة عطبرة، منتصف خمسينيات القرن الماضي، في أجواء وطنية، مشحونة بزخم الاستقلال والجلاء والتحرر الوطني من ربقة الاستعمار الإنجليزي الغاشم، حيث كانت المدينة الحديدية تتهيأ، مع رفيقاتها من المدن السودانية الأخرى، لانبثاق وعدٍ مأمول مع الحرية جديد. اشتعلت الأناشيد المدوية في جنبات ساحاتها المفتوحة وردد الناس مع حسن خليفة العطبراوي، الذي سيتغنى للشاعر فيما بعد، “يا غريب يلا لبلدك” وغيرها من الأناشيد الوطنية التي تدعو للحماسة والنضال. لكن التوم ورفاقه من جيل ما بعد الاستقلال اختاروا أن يناضلوا بكلمة الحب، بالجمال ضد كل ما هو قبيح، بالشعر العاطفي المرهف لتعبئة الوجدانات بحب الحياة وحب الناس:
“يا ريت
كل زول تايه
يلاقي الريدة في دربو
عشان الناس تحب الناس
وزي عينينا بتحبو
ما أصلوا البزوروا الريد
حب الناس
بزور قلبو”.
تلقى إبراهيم التوم تعليمه الأوّلي بمدينته المهد، عطبرة، المدينة التي انفعل بها وجدانياً، أحبها، وحلّق، كعصفور جائل رقيق، بين حواريها وبلداتها الصغيرة: الحصايا، خليوة، الداخلة، وبيوت السكة حديد الأنيقة، تلهمه رائحتها الغامرة الأغنيات، وتوحي له فضاءاتها وعوالمها المكتنزة بالجمال، الشعر. فكتب، باكراً، منذ المرحلة الثانوية أولى قصائده العاطفية، فذاع، رغم هدوئه وأدبه الجم، في الوسط الفني في المدينة، وتحول، في سن باكرة، لواحد من الرموز الفنية لعطبرة السبعينيات رفقة صديقه الشاعر “حسب الباري سليمان” وتغنى له الفنان “هاشم خليوة” أغنية “غلطان أنا” قبل أن يلحن له الفنان الكبير “حسن خليفة العطبراوي”:
“مالك ما اعتيادي”، “الشارع يشهد يوم مريت”، “خلاص ارتحت من حبك” و”مسامحينك مسامحينك”.
شعرية التوم إبراهيم ليست للنسيان أبداً، فهي شعرية تنهل من تجربة صوفية عميقة، ومن دنان عاطفية وروحية جياشة، تتأسس، شأن كل ما هو سوداني أصيل، على جدلية بساطة الشكل وصدقية المعنى واستحالته. يكتب كمن يغمس الريشة، عميقاً، في محبرة قلبه ويُدوِّن بها، مباشرةً، في قلوب الآخرين، لا على بياض الورق الصامت وهو إلى ذلك رجل مرهف رقيق الطبع، يكتب عنه الروائي عبد الغني كرم الله: “عرفته، قبل أن أعرفه، عرفت قلبه، قبل وجهه، كنت في مدينة بورتسودان، حي ديم النور الشعبي، يشبه الغابة، كل بيوته خشب، أرهف جدارن، لا يتجاوز سمك الحائط نصف سنتمتر، كل البيوت هكذا، وطالما هناك نتواءت في سوق الشجر، فلا شك هي هي، في الجدارن، التي صنعت منها، ولك أن تتصور أغنية، تنسل من هذا الثقب الصغير، من مطبخ بعيد، وتعرج على صالون “مَضْيَفة”، في أعماق الليل، وأنت تسمع “ما اعتيادي، مالك ما اعتيادي”، تلكم كانت صدفة لقائي معه، في أغنية له، وما الصدفة؟ سوى وعد من الله منذ الأزل، وهو لا بد واقع”.
ويضيف كرم الله: “حين التقيته، وجدته يشبه قلبه، وأغنياته مرآة كانت له، طيبة فطرية، وبسمة وضيئة، ومهلة في السلوك، والمشي، والسكنات، كان اللحظة الحاضرة، هي المستقبل والماضي معاً، لا عجلة، يعشق الفكر والحوار والقراءة، بصورة فريدة، تلميذ في مدرسة الشارع والكوكب والمجرة، وفي هذا الثالوث ما شدني له، أحب فحص الحياة، كلها، حتى النعاس والنوم ونمو الأظافر، تعني لي الكثير، المثير”.
شَعرٌ غزير، وعيون وسيعة، وبحة في الصوت، وسمت يجعلك تهمس لنفسك “إنه شاعر، إنه شاعر لا محال”، لو رأيته مار بالطريق، سارح مع نفسه، أو متأملاً قدسية الاشجار، وطريقة عيشها، ومخيلة زهورها، وذكاء وزهد جذورها، لقلت له “سلام أيها الشاعر، ماذا يعني لك الطريق؟ لأشار لك بأدب “باب حديدي”، فوقه عصفورة، وتحته عناد برعم هامس “كم أحسَّ بالحداد، ونبضه، ونظارته والشرر يتطاير وهو يصنع هذه الزخارف الحديدية على الباب العجوز، المتآكل، شكراً لقبره، وللحامه، يموت (بني آدم)، ويترك “فناً صالحاً”، يُمتِعُ العيون على ضلفة باب قديم، صابر، فتح قلبه لألف مهمة، ورغبة، وملل، واشتهاء.
أعظم قصائد الشعراء هي حياتهم، نظراتهم، ضحكتهم، وذلك الحدس الغريب، كنور ينسل من جوارحهم ويلمس ما حولهم من حياة وحبور وعطور، متمثلة الحياة، أعمق ما يكون، وأجمل، يخترق حدسهم هشاشة المظهر، إلى غناء الجوهر، وإلى الحميمية التي تنتظم الأحياء كلها، والأشياء، فلا فرق بين رسومات السحب وزخارف البيت ورقصات البخور وخطى بني أدم في طلب العيش والحب والسعد، كلها في الهم والفكر “شرق”.
في الخرطوم، إبان دراسته الهندسة الميكانيكية في معهد الكليات التكنولوجية، وكرسمة إلهية محكمة، تعرف التوم على الملحن الرقيق “سليمان أبو داؤود” الذي تميَّزَ بثراءِ المُوسيقى، وتفرَّد بأُسلوبية مغايرة في التلحين العبقري. والتقى، إلى ذلك، المُغنِّي الجميل “عبد المنعم الخالدي”. شكَّلوا ثلاثتهم لوحة فنية فريدة في صياغة الكلمة ونصاعتها وعذوبة اللحن وكماليته وتطريبية الأداء النادر وجيشاناته، لكأنما جوقة كاملة من العشاق، في لحظة أبدية خالدة، تغني بحنجرة واحدة الآف الألحان والأغنيات، فحققوا خلاصة تجربة الثمانينيات الغنائية وتأسى بإبداعهم الصادق كثير من الناس، أنشدوا: “حب الناس”، “الأميرة” و”علمينا يا دنيا”.
يقول الموسيقيُّ عثمان عجبين: “عندما قال التوم إبراهيم: “ما أصلو البزورو الريد حب الناس بزور قلبو”، هو في الحقيقة يقول: “كن جميلاً ترى الوجود جميلاً”، بعض الشعراء السودانيين مدهشون في تكثيف المعاني داخل قارورة اللغة، علبة التعابير، التوم إبراهيم قال العبارة المأثورة ببساطة، هذه البساطة على وجه الدقة هي المطلوبة للشعر الذي يُسمَّى “غنائياً”، الشعر الذي ينادي الموسيقى كطرف ثانٍ لتتدخَّل وتقول: ما أصلو البزورو الريد بطريقة تجعل الوجود جميلاً”.
ويلفت عجبين إلى أن نصوص الغناء أصعب وأدق من شعر التلاوة، لأنك عندما تكتب أغنية أنت تُبقي على الأفكار الكبيرة وتحافظ عليها داخل لغة رشيقة / سهلة / حيوية / ويومية، يومية هذه هي قاصمة الظهر. ويضيف: “عبقرية التوم في هذا النص تُشبه عبقرية أبو آمنة حامد في نصه “ما نسيناك”، أبو آمنة يقول: “الرهيف قلبو بيعيش في شكو أكتر من يقينو”، بمُفردات بسيطة قال حكمة كبيرة، من هنا يمكن أن تميز من هو شاعر الأغنية ومن هو شاعر الكتاب، شعر الأغنيات ليس مكانه دفتي كتاب، مكانه داخل الأنغام، إنه يُقرأ مسموعاً”.
ويعلِّق عجبين بأن الكثير من المُوسيقيين ضلَّوا السبيل عندما شدُّوا الرحال إلى تلك النصوص الشعرية في بيت الكتاب، تلك الأشعار الانطوائية، العميقة في مقصدها بتعقيد في بنائها اللغوي، ويقول: “الغناء عادة لا يشعرُ بمثل هكذا نصوص، لكنهم أخذوها وانهالوا عليها، خرجوا بمرتلات وليس بألحان، من شدة سطوة تلك النصوص عليهم لم يستطيعوا غير ترتيلها وتلاوتها “الكابلي مع العقاد، مصطفى مع عاطف خيري”، ناسين أن سهولة اللغة أولوية على العمق، الغناء يبحث عن نصوص يغنيها أي يدللها، نصوص مثل أسئلة الأطفال البريئة لكن عميقة”. ويزيد: “الأغنية لا تبحث عن نصوص ناضجة أثقلتها التجارب وصارت تغوص عميقاً عميقاً، ولا نصوص عاقلة مُراقَبة بـ”وعي” عميق، هي تبحث عن دفقة “شعورية” عميقة انسابت بسلاسة كما (الونسة)”.
ويقول عجبين أيضاً: “البشرية مارست الغناء لتهرب به من العناء، عناء الأسئلة العميقة، لذا عندما يغني أحدهم نصاً وجودياً ثقيلاً، هو بذلك يثقل على الناس ويسد مخرج هروبهم، لكن مثل التوم إبراهيم يشعرون ويعرفون أن هذا مخرجٌ وليس نفقا، يتركون مشاعرهم تنساب خارج الوجود وأسئلته في رحلة طويلة، يعودون ويحكون عنها بلغة بسيطة، لا تضيق العبارة عندهم مهما اتسعت الرؤيا وطالت الرحلة، اللغة ليست جل همهم، هم مشغولون بالمشاعر، ولأنهم كذلك، ستصيب عدوى مشاعرهم كلاً من الملحن والمغني، وتتحول الأغنية إلى كتلة مشاعر ضد منطق الوجود الثقيل”.
عاد إبراهيم التوم لعطبرة الرؤوم وعمل بالسكة الحديدية في قسم المشتريات قبل أن يتركها، مكسور الخاطر، للعمل في مصنع سكر كنانة العام 1986م، وفي كنانة الخضراء، البلدة الهادئة، وأصل كتابته الغناء، يُحوِّل الدم لكلمة والعصب لمشروع لحن موحٍ وطروب، تذيعه حنجرات المغنيات والمُغنِّين، تدلف مباشرة، إلى قلوب الناس، محبةً محبةً.. غنَّت له “حنان إبراهيم” و”نجم الدين الفاضل” و”إبراهيم حسين”، وغنَّى له “سيف الجامعة” أغنية “وداع”. لكنه، مع ذلك، لديه كثير من المخطوطات الشعرية حبيسة الورق لم تُلحَّنْ أو تُطبع بعد.
يقول الشاعر الأصمعي باشري، الذي زامل التوم بالعمل في كنانة: “الشاعر المرهف التوم إبراهيم التوم، واحدٌ من أميز شعراء الأغنية السودانية الحديثة على الرغم من أنه كان مُقلاً وزاهداً ولا يتعشق أضواء الإعلام الكاشفة، ولا يتهافت عليها كحال الكثيرين من شعراء الأغنية، عاش حياته قصيدة قصيرة من الصمت والهدوء والمحبة ورحل عنا أيضاً بذات القصيدة في صمت رهيب، كان حياته تماماً كأُغنياته المُشبعة بعمق المعاني وسلاسة الأسلوب التقيته في دروب الحياة بكنانة قادماً إليها من السكة حديد عطبرة مسقط رأسه، فأحببنا إنسانه العامر بالإلفة والتسامح والمحبة، لا تعرف نفسه الحقد والضغينة رغم الظلم الذي طاله كمبدع ورغم الضيم الذي لحق به قبل مماته بسبب المرض وسوء الحال، لكن إنسانه وفكره كانا غنيَّيْن بالمحبة ولم تفارقه الابتسامة حتى رحيله المفجع في عيد الميلاد السابق”.
أنفق الشاعر التوم وقتاً كثيراً في القراءة والاطلاع، إذ كان شغوفاً بمحبة الكتب ومدارستها والاعتناء بها، عنايته ومحبته للأحياء والأشياء، ينقب، بدأب لا ينقضي، عن حقيقة الوجود الأزلية بطريقته الفنانة الخاصة، مترقياً في مقامات الكشف عن أسرار الوجود الخفية، كلما تكشّف له حجاب عتم عليه آخر لكنه لا يبالي.
يعود “عبد الغني كرم الله” قائلاً: “كان له اهتمام عظيم، وولع بالفلك، بالمجرات وجيراننا من الكواكب العملاقة، التي تلفُّ وترقصُ في المجرة، وما الشمس، إلا كوكب صغير، وضئيل، مع تلكم المجرات اللامتناهية، الفيل في القمر أخف من المعزة، وفي السديم أخف من الفلين، وبعيد الجاذبية، بلا وزن، فلن تخاف نطحه، ما أعجب قهر الجاذبية، فهي من تصنع القوة والوزن، والعنف “وهي لا ترى، مثل الكهرباء والحرارة والضوء”، كلها ذبذبة، أي طاقة منفوثة في السماء، وكلها تتعرج كموجة، في مشيتها “أهي أيضا من الماء؟”، الماء الأول؟. و
تقول عائشة سليمان، خريجة مكتبات وصديقة التوم، وبينما نحن نصنف مكتبته العامرة ونفض عنها غبار عام من رحيله: “تتنوع هذه المكتبة وتحوي في طياتها عديد العناوين المتنوعة، من كتب الفلسفة، إلى التصوف، إلى الأدب، شعراً وروايةً ودراساتٍ نقدية، إلى غير ذلك من المجلات والإصدارات”، ما ينم عن أن التوم كان متعدد مشارب القراءة، واسع الاطلاع، شمولياً في مدارسته للكتب.
إن هذه المكتبة هنا في بيته ليست كل شيء، ففي كنانة هناك أيضاً مكتبة ضخمة تضم آلاف الكتب والمخطوطات النادرة، اقتناها بوساطة سفرياته العديدة ومن تجواله الدائم وزياراته لمعارض الكتب، يقتني الإصدارات، جديدها وقديمها، كأنه يريد ألا يفوته شيء.
“سنعمل على المحافظة على هذه المكتبة الكبيرة تخليداً لذكراه العطرة”، تقول عائشة، وتضيف: ” كان مُحبَّاً للكتب محبته للحياة، تجده، دائماً، مُمسكاً بكتاب يُطالعه، ليل أو نهار، يطالعه بلا ملل”.
قبل ثلاث سنوات من رحيله الفاجع، عانى “إبراهيم التوم” من مرض الفشل الكلوي اللعين، فتلقَّى الآلام الحادة بجَلَدٍ وصبْرٍ ورضا، من خلفه وهو ذات المرض الذي أفقده حياة ولده الأكبر، من بين بنتين وولد آخر، فرثاه التوم بقصيدة حزينة كأنه يرثي فيها نفسه مُسبقاً. فارق الحياة في ليلة 25/12/2015، في هدوء مبجل، مثل نسمة تتهجد صاعدة مع بخور عدني معطر، صوب حضرة أخرى، وإلى محراب جديد، فغرسه أهله وأصدقاؤه وإخوته في الفكرة الجمهورية وهم يُهيلون من فوقه دمع المحبة الثخين:
“ما ملت كلا
كلا
والغير ضل، ضل
عن حالة العشاق”.
* شاعر من السودان
* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني.

