ثمار

إكسير: هذه العين

هذا الاسم ينطبق انطباقاً لا فكاك منه على هذه المجلة السودانية التي تصدر في الخرطوم في أوقاتٍ لا نعلمها، بل فقط نتفاجأ بها تملأ الساحات وتسافر إلى مدنٍ بعيدةٍ في قارات العالم، وتجلب إلينا كنوز الكتاب السودانيين في الخرطوم، والمدن السودانية، والمهاجر البعيدة، والأجيال المتعددة. ينطبق الاسم للتجدد المذهل الذي تصدمك به هذه المجلة في كلِّ عددٍ من أعدادها الأربعة، والتي صدرت أول أمرها في العام 2012م واستمرت – كما لم تستمر مجلة بالمجهودات الفردية لمحبيها ومحرريها وقرائها- إلى عامنا الحالي. عندما أمسكت العدد الجديد بين يديَّ شعرتُ بلطمة، ودوار، ومشاعر متداخلة. أقول: يحدث ذلك في كل مرةٍ أقع فيها على العدد الجديد.

تتجدد كإكسيرٍ حقيقيٍّ للحياة، غير مُتَخيَّلٍ فقط ولكن محسوسٌ أيضاً، يُشربُ بالعين ويدخل القلب مباشرةً، يُشعل فيه غابات الخيال إشعالاً يستمرّ لعامٍ كاملٍ إلى أن يصدر العدد الجديد. لقد نشرت إكسير لأكثر من 200 كاتبٍ وكاتبةٍ خلال مسيرتها الطويلة، ويُغيظك، أكثر ما يَفرسُ مرارتك، أن يقول المثقفون في جلساتهم السرية وبوستاتهم الماسخة أنها مجلة “شلّة”. لقد حطمت إكسير هذه الأسطورة بأن نشرت لكتابٍ وكاتباتٍ من أجيالٍ سودانيّةٍ مختلفة، وأساليب كتابية تُمعن في الاختلاف مع بعضها البعض، واتجاهاتٍ فكريّة صارخة التباعد والتنافر، ولكنها، في خطّها العام البصير، تنظمهم بخيطٍ يُحسّ فقط ولا يُفسَّر. ولكن يمكنني أن أُجازف وأختم هذا التنقيب بتعريفٍ قال به مؤسس المجلة الكاتب محمد الصادق الحاج (رفقة الشاعرة رندا محجوب)، في حوارٍ بصحيفة (الرأي العام) مع الأستاذ عيسى الحلو في أبريل من العام 2007 ردّاً عن سؤال حول الكتابة الجديدة في السودان في الفقرة التالية:

[عطفاً على محاذير النظر إلى الفنون التعبيرية في حدود سياقاتها الجغرافية حصراً، فمما لا تنكره السلامة أن الكتابة، بأي اعتبار قيست، أجغرافياً أو وجودياً؛ زمنياً أو غيبياً، لم تكن، يوماً وأينما، بمعزل عن سلسلة التراكم الطويلة من المحاولات البشرية والملاحظات والمعلومات والبيانات وأعمال المشاركة والاتصال والتعبير التي أنجزها البشريُّون بعمر وجودهم، فلا هي محض (الكتابة الجديدة) ولا هي محض (جديدة) ولا هي (في السودان) بهذه البساطة. فإن احتكمت في لحظة إلى جِدَّتِها، فما ذلك إلا عملاً بواقع مفارقتها واختلافها، وحتى ذلك يتم من خلال اتصالها بمنجزات المعرفة الإنسانية ولجوئها إلى استخدام وسائط المشاركة التي تكمن جذورُ نشأتِها في القِدَم. وإن احتكمت إلى (في السودان) فَطَائِفٌ من العرفان بجميل يسهل التنكر له، وعلى السودان أن يفخر بأن أتيح له هذا الشرف. ليست (تجارب الكتابة الجديدة في السودان) لهواً يُزْجَرُ عنه؛ وليست مذهباً يذاد عنه بآلات منهجية. هي شيء مِنْ صُلْبِ الوجود البشري على هذا الكوكب بما هو طبيعي وفريد بذات المقدار. كتابةٌ، هي احتفاء بالشغفِ الأرضيِّ ورعشةِ الحياةِ ورعشةِ الموتِ وبغتةِ اللطمةِ والزمجرةِ الطَّرُوبِ والقَرْعِ الساخط المستنـزَف المستعِرِ العاوي على كل باب مفتوح لا يؤدي ولا يَستحقّ. كتابةٌ منحازة لحرية المحاولة والاختيار والاختلاف وقوة الممكن. كتابةٌ منحازة للبشري ضالاً في ظلمات غريزته وفي ظلمات عقله، سائراً على الأرض تحت أعراس الخيال والفيزياء، تهديه مساقط الممكن تحت جلده إلى بشريته، لا يَعِدُ بأقلِّ منها ولا يقبل أقَلَّ منها؛ تهديه إلى جذوته وحشيةً ومستأنسة. كتابة خاضعة لكل ضلال يريها طرفاً من المجهول؛ متطرِّفةٌ لكل شرارة حية وضارية ورائية. كتابةٌ، هي الجائحة الأرْضية؛ مفاتيحها وأقفالها، أبوابها وسكانها، داخلها والخارج. وليمة الضِّرَام، لا أحد يأكل من ما يليه، كلٌّ يُوَلِّي وجهه أين يريد، ولا ولاية. كتابةٌ في سرعة الخطف، لوثة بانيةٌ مهتاجةٌ تصطكُّ بكلِّ (هيهات) وكلِّ (مرحباً) ولا تقبل أيَّاً منهما. كتابة منحازةٌ للبشريِّ قادراً على التعدين في كلِّ أرضٍ وفي كلِّ سماء؛ في كلِّ واقعٍ وفي كل خيال، في كل شيء وفي كل لا شيءٍ… إلى غير نهاية، لا باحثاً عن غاية ولا عن مفقود؛ ولكنه يفرح ويحتفل وينتصر لكل عِرْقٍ نادر تناله يده الداخلية المفعمة في مِنْجَم الوجود. هي تنجيم في الصخر وفي الفضاء، وهي أمر جِدِّيٌّ وحقيقي ويُعَاشُ بكل خلية حيَّة، فيه جاذبية الخيال ونوره وظلامه، ودمه ولحمه، وابتعاده واقترابه؛ فيه جاذبية الفن والتلقائية، فيه جاذبية القوة والضعف، فيه جاذبية الحب والغيرة، فيه جاذبية الحكمة والاندفاع.

وعن ما يشبه ذلك حدَّثنا (أورهان باموق) في روايته (اسمي أحمر) عن حكيمين اسْتَبَقَا على مَنْ منهما سيُمِيتُ الآخرَ أولاً وبطريقة رشيقة وسريعة. الأول منهما أتى بالسم أمام أخيه فمزجه له في كوب الشراب وقدمه له فما تردد هذا في تناوله منه بكل وقار ثم شربه، وأثناء سريان السم في بدنه اتجه إلى زهرة في الحديقة وهمس لها بـ(شِعْرٍ مُظْلِم) ثم قطفها فمدها للأول الذي سقط ميتاً من الخوف قبل أن يتناول الزهرة من يد أخيه. أمثولةٌ (مُظْلِمَة) تضع الفنان في فم الرعشة. هل شِعْرٌ مطلقاً استطاع أن ينفِّذ فاعليةً كهذه؟، وإذا لم يستطع فكيف لا زال الشعراء يكتبون ما لا يستطيع؟. بطريقة ليس منها مناص؛ (رشيقة وسريعة)، بحيث الشراسة كلها تتفرَّج، على الشعر أن يعمل. ليس الشعر الظريف؛ أنيس الْمُتَّكَآت المستأنسة، عروس المجالس، بل (الشِّعْر المظْلِم)؛ الشعر الذي يصعق، يميت ويفعل بالبشر وبالأشياء الأهاويل، وهو ما ليس أقل منه مطلوباً من شاعر، فهل؟.

* كاتب وشاعر من السودان 

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تصدره جريدة السوداني

مأمون التلب

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى