الحوري و ذاكرة النجارة
اصطخاب الحبَّ في المكان
داريت تَحرَّقك للمسِ نماذج الحوري المعلقة على الجُدران ، رمقتك و تقبلت وجودك ، تمنيت لو أنك مررت بأصابعك و تحسست شوقها ، كلَّمتها و كلَّمتك ، سألتها و أجابتك ، سمعتَ الحكي و تبينت التواريخ ، الهفوات الصغيرةَ و الأخطاء الكبيرة ، إحداثيات المكان و ما جرت بهِ السنين ، الإحباط و الأمل ، الطنطنة و الضحكات المكتومة ثُمَّ شممت العرق المخبوء في مسامِ الأيدي و الأخشاب و تأملتَ الوجد المغطى بغبارِ الانتظار فلكلِ وَاحِدَةٍ قصة ترويها و بين يديَّ أي مخططٍ تنتهي أزقة مُباصرات الصِنعةْ و دروب التبصر الفاتن حيث السُّرُ في الجذوةِ التي رعتها الأنامل و أنبتتها النقرات و حملها العصب لمجاري الدم ، يقطع الفأس في أيامه الرحيمة تلك المادة ثُمَّ تُشكلها المخرطة على صراط التكعيب ، تجعلها جاهزةٌ للخلقِ و لذهابِ المنشار عميقاً كما شقوق الطين ، تصقل الفأرةَ قشور السطح النحيلة فتَضجُّ المادةُ عشقاً لجسِّ الأصابع العارية إلا من غرضِ إعادتها سيرةٌ أخرى تنتمي لما ينفع الناس بلا غلوٍ يُزهقُ أرواح النبات و لا انفصامٍ ترفضهُ الأرض النجيبة .
ترعرع الحوري و شبَّ بمنزلِ نجارٍ مستنير في حيٍ بسيط رضى بأقدارهِ الطرفية و حمل مدلول الاسم ” حي العرب ” ارادات القبائل التي تقاسمت فضاء المكان الجديد ، ألقت القوافل عصا ترحالها عند قدميَّ صبا المدينة ثُمَّ سَئِمت الحرب و أحابيلها الطويلة ، سأمٌ حكاه النيلَ حينما عجزت طوابي الطين عن صدِّ قسوة المكسيم ، خلدَّ “معركة النهر”١ الجاسرة تلك رغم مأسويةِ بؤسها ” ضابطٌ صغير ” ساقهُ بعد سنواتٍ طوال منصب رئاسة الوزارة بالإضافةِ لحساباتِ البيدر و الحقل و تقلبات السياسة و تغيرات موازينها لفكفكةِ التوسع و تغيِب الشمس عن إمبراطوريةٍ فاخرت كثيراً بتمددِ شمسَ نهارها ، مشى الأسرى الغرباءَ و المقيمين الحارات ، تأسلم بعضهم حيناً من العسفِ ليسلم ثُمَّ عندما اطمأنوا أستكنفوا ظلال راياتهم القديمة ، لم تَبني النفاجات المفتوحةِ من طينِ تكدرها أي حوائط تعزل مساسقات الناس و لا رفعت البيوت النحيلة بوجه سماحها الطيب الأسوار و لا اضطرب العهد و لا انتصبت لنُهيرات الفرحة مشانقُ العيبَ و التجريم بل سارت الحياة كما يجب فتمسك بعروته من أراد و عاد ليقينه القديم من اختار ، طابت النفوسَ و جرت تحت الجسور مياهٌ كثيرة ، أقبلَ الشوام و المغاربة و الأغاريق و الهنود و تفنن الأقباط في تعدّيلِ دورة الفصول فاحتفلت المدينة بخيالِ ربيعها و شمَّت الأزقة رائحة النسيم الذي استولدته المحبة الوهيطة و أفردَ النَّقادة الملاءات و وشوشوا الستائر وباشرت ثِيابَهم و التجار الآخرين قدلاتها الوجيهة و عندما أذابَ القطار المسافات تغيرَ شكل الخارطة و تمددت لتشمل دار المساليت و أحراش الاستوائية و صعيد فازوغلي و ميناء سواكن حيث تغيرت تبعاً لذلك مسارات القوافل و تقاطعت تجارة بربر و الدامر و سواكن و المسلمية و غيرها عند كرش الفيل و اضمحلت تدريجياً أسواق السلطنة الزرقاء و التركية التي أعقبتها فتسيِّدت أم درمان تجارة الغلال و المنتوجات التقليدية و تشكيل الذائقة الشعبية و رعاية نمو الكائنات الجنينية لبلاد ما بعد المهدية ، تموردت الموردة و لم تعبس العباسية ، نقَّزت العرضة و شقَّ التُرماي حدبات الوداي العتيق ، أتى التجار من صعيد أم الدنيا من بحرِيِها و قِبليها ، اشتجرت اللهجات و اللكنات و اللغات القديمة و تباينت الألسن .
اصطخبت المدينة بالوعودِ و الخيباتْ و رعت مصداتِها سراً و جهراً ما يخص تباكيها و فرحها ، انتصارها الهش و هزيمتها المُكلِفة ثُم بحثت في عَلَنها و خفائها عن ينابيعٍ تُجدد وجدَها و تشحذ جذواتها ، أطلقت أغنيتها و وارت في الترابِ الهجين ما وسع الرمزِ من القنابلِ المُفخخة فأقبلت الطوائف الكبيرة و احتشدت في الانتظار القبائل و جاورت بيوت الطين النهر و أحرقَ الميسورين من كُلِ دروب الحياةِ لهاةَ الطمي حتى يقتلعِوا الدّانقِيل و يشهروا في وجهِ الغبار مداميك الطوب الأحمر لكنَّ صخور كرري استعصمت بحزنِها و أرخت تلال المرخيات ظلالها و انتظرت في مداها انكسار السيل و التئام الأمواه و عندما حَرنت القبائل و ألقت مفردتيَ ” الحكم الثنائي “٢ شِباكَ صيدها اللينةْ وقفت الطوائف ما بين لافتتيَ حزن المدينة و اصطبارها حتى أزفَّ زمان المساومة فباعت بعض ما سيجدد عذاب الأرض القديمة فعرجت دون عصاها المدائن و أدمنت الرواكيب الحديثة لعبة العسكر اللئام و الطيبين و الحراميةَ الخفاف و الثِقال.
شبَّ الحوري في بيتِ حرفيين ، مادة أبيه الخشب و مادة أهله من جهةِ خادم الله بت الريح الجلد ، نما مع تماوج الأعواد في ذاكرتهِ و تشّكلت و خفقات قلبه كُتل المهوقني و التيك و غيرها و تجعدَ أمام عيونه المبنهرةَ الجلدَ و استوت ألوان طبيعته العتيقة و تجاورت في شريطِ أخيلته بجانبِ الشبابيك و الأبواب و السقوف و السلالم و السقالات و المحافض و “عناقريب القِد”٣ و سُعون السُقيا و الأحذيةَ و الصنادل و خُروجِ الماء ، الشنط و حقائب الأيدي ، جفير السيوف و أحزمةِ الرباطات ، كرابات الحيران و لِجامات الخيولً ، مقاود الإبل و “مخلوفاتها”٤ و أحزمة سروج الحمير ثُمَّ تلونت ذكرياته و ألعاب طفولته الشقيِّة و البريئة بأصباغ النيل و لِحاء الأشجار و عصير العُشب و زهو الطلاء القادم من وراءِ البحار ، امتلأ عبد العزيز حدَّ الدهشةِ البِّكر بمعارفِ الكدح و تجليات لؤلؤات العرق و أقواس الشمس و رأى انكباب الفتّونة حين صلاةِ الجسد و إيمان الجوارح و أبصر عزم الزنود و حزمَ الطوايا و صفاء النوايا و دوزنَت تشابيه و أشواقه روائح الخشب و حرفنة عبير “القرض” و شنّفَ أُذنيه صرير المزاليج و دقات الشواكيش و غناءَ الفأرات و مع كلِ ذلك احتفى بالعائدِ العادل و أدمن توالي هبات والده الصغيرة و الكبيرة .
بدت “فرمات” أعمال الحوري السابقة مثلَ عيونٌ للمكان و ذاكرة للناسِ أجمعين من أتى بهمِ الدرب أو من قصدَ لأجلِ نزوعهِ الوثوق و لكأنَّ الفرمات أبصرت نشوءِ الكون و تخلق الكائنات ، سابقةٌ لدرمانِ و أمه ، شاهدةٌ على مأساةِ “أبو ودان” و حزنهُ ، صديقةٌ للالتقاء العذب و عشيقةٌ للبحرينِ حينما اقترنا أو اجتمعا أو ذاب جنون حبَّهم في نهجِ الوداعةِ أو كيفما سارت الأزمنة بكتابِ النهر العتيق ، لكنك تعود لنماذجِ أعمال الحوري القديمة و لا تبارح بنابرَ الواقعات ، تُضمنّها كيفما شاءت عزائم السِيرة ، الأحاديث الجانبية ، الونسات الفارغة و المليانة بلا حشوٍ أو تقعر، أتيت الحوري وأبو الدود في تلك الظهيرة حين مشت بينهم “نور الشقائق” حكاية فوز التي أرهقت “حسن الجزولي” وأشجته لكأنما الخليل و صحبه نماذجٌ حيًّة نُحتت بدمٍ و دموع ثم اكتسى الحلم لحمه رغم استمرار النزيف ، ما لِحقتَ قراءاتِ الحوري لصديقه المستبصر ، تمنيت لو أنك أدركتها وتفيأت الصوت و شممت عطر المشاعر ، انجذبت للدوائرِ الممغنطة و المشحونة بتقاطعات التمنيات و الخيبات و الغياب الحاضر كما روائح الخواطر العصيِّة ، حدثوك عن حُزنهم في مواضعِ الذبول و الاحتراق و فرحهم حين تثور النشوة و تؤاتي الليل نسماته ، كلموك و كلموك فأنصتَّ بحبٍ بالغٍ و تتبعتَ أثر الحكايةَ في المكانِ ، رأيت طرب ” الحُق”٥ برغم وحدته التي جانبت الباب و جاورته ، عاينت النماذج و قد ارتقت بشخوصها الحوائطِ حيث استغرقت في غُبار تأملها الفريد ، تراءت لَكَ خطوط أقلام الرصاص الرصينةَ و الفاترة ، المستقيمة و المُعوجّة ، الباهتة و الواضحة ، التي أسال حراك الأيدي و احتكاكها حبرها الترابي و بدت مثل سيلانِ كُحل المقل العاشقة أو العيون التي أهاجها الإيقاع فأذاب دمعَ رقصها حدود العوالم و اختلطت عند نشوتها الأكوان أو التي عمقت شلخها شفرةَ القطع فتمسك مدادها الرصاصي بالحواف .
هل شممت روائح الجرتق ؟! ،
سمعت زغاريد النساء ؟! ،
غشاك فوح البخور المعبأ بنداءات الخصوبة ؟! ،
تخيلت مواسم الدلكة وشملَتها الداكنة السواد ، القدحَ الباسمَ و المَكفي على بطنِه فوق النار الهادئة ، رأيت جمرات الأصابع و العرقَ الذي يغسل الجسد ، يُعطرهُ ويُجّلِيه ،
مالها الخواطر جائشةٌ ؟!،و الوعد بعيدٌ و دانٍ كطيفِ التمني و الأحلام ، كالأمواجِ حين ينكسر رزاز أمواهها في الصخورِ ، و كالحصى العاري من آثار الأقدام الحافية .
تلاشي في صخبِ حوار الفرمات و أسئلتها الجارحة حِسيس الدلوكة لكنَّ عبق الجرتق التصق بوجودك ، لمسك الحُقَ عميقاً فابتسمت ، واظبت الأسطمبات ( النماذج ) على تماهي وجودها الفريد ، تساءل فيك الشعر :-
” ألانهن بنات الفكرة النجيبة ؟!”
الفكرةَ المنتمية لإلحاحِ النساء و احتياجات التمدن ، فكرة النزوع البسيط و الجمال اليومي حينما يستبطن فخامته و لا يُهدرها بفجاجةٍ رغم تباهي البيوت الناحلة ، جمالٌ حدثتك عَنْهُ العيون و لمحتهُ في خيوطِ الألق الرفيع مثلما زغب العصافير و سبايب مواليد الجياد الأصيلة ، جمالٌ لا تُقلل من حِيلتهِ و حُليته الأيدي المعروقة ، أيديٍ غسلت برعشتها وجوه العملة البذيئة و مسحت بكدحها الانتماء الفاضح للقوةِ منذ انقضاء أزمنة التجارة البكماء ، التجارة الحرّةَ الحكيمة ، تجارة التبادل العفوي لا تجارةَ ” الصّر و الجّر “٦ .
عَدَّدتُ بقلبِكَ الفرمات واحدة لعشرين لمائة ، لم تستطع إحصائها تركتها لتتأملَ ما يليها و يليك ، عمرها يمتد لحقبٍ و لياليها تقترنُ بصباحاتٍ ، عرقٌ و دم ، سهرٌ و استغراق ، فشلٌ و نجاح ، حياةٌ عريضة حفرت بصبرٍ و بنفاذِهِ مجراها ، صعدت و هبطت ، إنحنت و إستقامت ثم أنها تنتظر الآن كما البشر لحظة إنعطافتها المدَّوية أو إنطفائِها العادي كما خمودِ الجذوات علَّها لم تنوم أو يغفو لبرهةٍ تحرقها بل تظلُ هكذا كامنةٌ و غامضةْ ، تستشرف ما سلف من أرواحِ مجسماتها الفتيِّة كصباحِ العيد ، مجسماتها العتيقة كرائحةِ مغارات الصالحين أو العجوزة كمشي الرطوبة في المفاصل و صعود حشرةِ الأرضهْ أعلى الأبواب و أدنى عيدان الرواكيب .
أحسستُ بالأسطمبات تسترخي في عُهدةِ يقين الحوري و قلقه ، إمانِه وجنونه و تُحيطه و تحتويكم بوداعةِ نماذجها المُتحفزة ، مطمئنةً لوجوده العادي ، اليومي ، متتبعةً لَهُ حين يشرب مزاج قهوته و يُطعم عصافير بطنه ، يغني أو ينوح ، تُحرض عصب أنامله ،يغلفها و يحتويه رهقٌ تلحظَ تجعُدِ لغةَ بوحه كأنما الصرخات الولهى دوزنتها دقات الشواكيش القريبة و المتناثرة على طول و عرض المنطقة الصناعية .
رأيت الصنائعية يتهيئون دون كلام ، تسبقهم الابتسامات حين يدخلون ، سحناتهم شتى ، لا تميزهم إلا الأيدي المُدربة و السواعد المباركة منذ نوح ، ضحكت و محبتك الناشئة فللنجارين رسولهم كما للأميين و الحدادين و الفقراء ثُمَ اندهشت لإطلالةِ بولس و أندراوس و نشئت و عمك جيد ،
تساءلت بخفوتٍ يُشابه صلوات الأسحار:-
كيف انتهى بهم العشق هنا ؟! ،
ألأنك تعودت على مرأى الأقباط خلف مناضد الدكاكين والمكاتب ؟! ، يبدو أن ريفيتك لن تُمدنها المُحدِثات !!
رأيت الحوري يحاورهم بحميميةٍ و الفةٍ أرجعتها لاقتسامهم العرقِ المبذول لا تمايز ملامحهم المتباينة و نَسبتها لاختلاف السِحن حينما يُثري العمل تنوعها ، لكنَّ حزنك تجاسرَ ليقول بملءِ يقينهُ و يقينك أنَّ العمل يُمدَّن سؤال الدين و ينزع عنه جلافةِ البداوة المستحدثة التي حولته لتدينٍ قشريٍ لا تسنده المحبة و لا يخدم أبواب إحسانهُ العديدات ثُمَّ أنَّ الهوية أيضاً تستوي بين يديَّ العمل الماهرتين و تستقيم على صراطِ الحق الطبيعي و الوجدان السليم و أما التنوع الخلاق فيخدمهُ و قبولِ الحياة التميز المثمر كما اختلاف الفرمات و تفاوت أطوالها ، انحناءاتها و أشغال زخارفها و كما تباين صنع الأبواب ، الشبابيك ، الدواليب ، الأرائك من خشبٍ مُشتجر الاختلاف اجتمعت فيما يُفيد وجود الناس إذاً ما ضِيرها لو شدّتها المسامير أو حَزم أبضاعها الصمغ.
هل أستعصم بتموجه المهوقني ؟!،
أو أُعجب بذاته التيك ؟!،
أو عيّرَ الموسكي بجمالهِ الهشاب ؟!،
قبل أن تُنجب الأسئلة أجوبتها مشي “حاكم” الغرفة فشممتَ رائحة الغابات و سمعت صراخ رئة الأرض المخبوء مُنذ ألفِ عامٍ و عام و رأيت الحرب الطويلة الغباء ، أبصرت المشاريع الخائبةَ صرعي و الوطن حبيس الأفق القاصر و الرؤى المختزلة إلا أنَّ ابتسامة “حاكم” أضاءتك و المكان .
هوامش
١/ معركة النهر : معركة كرري و كتاب لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل .
٢/ الحكم الثنائي : المقصود حكم البريطانيين و المصريين للسودان في الفترة الممتدة من ١٨٩٦م إلي ١٩٥٦م .
٣/ عناقريب القِد : القِد جلد البقر الذي يقوم مقام الحبال .
٤/ المخلوفة : سرج الإبل .
٥/ آنية توضع فيها مواد و عطور طقوس العرس و الختان .
٦/ الصّر و الجّر متلازمة تُشير لعملية البيع النقدي و مقابلها المعاكس التجارة البكماء التي لا تستخدم فيها الأموال.
* كاتب وروائي في السودان