معركة فيردا لُوْنا
فيردا لُوْنا.عشقتها لحظة زيارتي لها ذات صيف. وما إن عدتُّ إلى العاصمة حتَّى حَزَمتُ حقيبة ألواني وغيرها من أدوات الرسم ويمَّمتُ شطرها. في واحدٍ من صباحاتها أتاني عبر الراديو خبر مصرع الأميرة ديانا سبنسر.
فيردا لُوْنا بقعة تُشبهُ موائد الملوك. فها هنا ترقد البحيرة التي تتغذَّى العاصمة من مياهها على مرِّ الفصول. بحيرةٌ تُشرف عليها العديد من التلال الخضراء، قامت على خمسةٍ منها كُلُّ البيوت التي ألِفَتِ القرية. أكواخٌ حجريَّة كأنها بُنيت على الخطر؛ إذ تنحدر بصورةٍ فُجائيَّةٍ إلى سهلٍ مُتماوجٍ استطاعَ مُهندسون إيطاليون أن ينصبوا فيه شَرَكاً جميلاً لمياه الأمطار الوفيرة التي اجتذبتها، كما اجتذبتني، غابات صنوبرٍ وبَانٍ في غاية الكثافة لم يُوقف مدَّها إلا البحر. الغريبُ أنه ولشدَّة امتداد البُحيرة بالأميال وتثنّيات جسدها بين أحضان التلال، أطلق الأهلون عليها صِفة البحر أيضاً.
فمنذُ إنشائها في بدايات القرن العشرين وفي كلِّ شتاءٍ تعجُّ البُحيرة ومياهها الممزوجة بظلال أشجار البان مهيبة العلو بأسراب الأُوزِّ الأوروبي بما يُحيل في نظري دوماً إلى الباليه الروسي الشهير (بُحيرة البجع). يا لصياحها وكأكآتِها ولهوها عندما تتهاوى إلى صفحة ظلال الفجر والمياه الباردة لتصطادَ ما قَدِرَتْ عليه من السمك الوفير قبل أن تطير إلى الربوع القريبة قبل أن تعود في العصاري لتلهو فوق الماء العميق.
كنتُ أشاهد كُلَّ هذا بشكلٍ يومي، أو يكاد، وأنا جالس فوق كرسيِّ الوحيد عند حافة مسطبة أسمنت واسعة، وورائي مسكني ذو الطابق الأرضي المكوَّن من غرفة نومٍ والمطبخ ومخزنٍ وما أشْبَهَ صالوناً أو صالةً للرقص. بافتخار، حدثني “مَلاَّكيه” أحد أعيان القرية بأن المبنى كان مَقرَّاً بالسنوات للمهندس الإيطالي الذي أشرفَ على بناء الخزان. مَلاَّكيه أضاف، بذات افتخاره، بأن الحاكم العام نفسه جاء أكثر من مرَّة ونزل في ذلك المبنى لقضاء عطلة نهاية الأسبوع أو عطلة شخصيّة امتدت لأيام. وقتها ما كانت أشجار البان قد وصلت علوَّها الصاخب الذي تأوي إليه مختلفُ الطيور بصعوبةٍ ما، على ظنّي.
بين هذا المبنى وبيوت قرية ﭭيردا لونا التي ما تعدَّت الثلاثين بيتاً، مسافة ميلَيْن تقريباً قام في آخر ثلثٍ منها معسكرٌ لثُلَّة الجنود كحُرَّاسٍ للخزَّان. هؤلاء كانوا من الثُّوار الذين أقصوا الإمبراطور وغيره من الحكم. فمنذ عهود ذاك الإمبراطور وكذلك العهود التي تلته أُقيمت تلك الحراسة كي لا ينال الثُّوَّار من الخزان. وعلى مبعدة من ذلك المعسكر قام بيتُ المساعد الطبيِّ وإلى جواره سكن حارسان اعتاد الأهالي على تسميتهما (فورستاليه) أي حُرَّاس الغابة، أحدهما يُدعى (هايليه) أما رفيقه فقد نسيت اسمه وبقي لي وجهه الفاقع النحيل.
كان هذا المنسيُّ هو الأفضل أخلاقاً من هيليه الذي لا تُفارق البندقية الكلاشينكوف كتفَه شبيه كتف الثور. هكذا اعتاد أن يذهب معسكر ثُلَّة الحراس والذين عادةً يتم تبديلهم كل ثلاثة إلى أربعة أشهر، ليتآنس ويلعب الورق أو الدومينو أو يذهب مع اثنين أو حتى ثلاثة منهم لصيد السمك.
خلال العامين الذين قضيتهما في ﭭيردا لونا المُوحشة لكُلِّ معاني الكلام، تبدَّلت فِرَقُ الحراسة مراتٍ عديدة. وحيثما لقيتهم سواءً في معسكرهم أو في مسكني أو في واحدٍ من بيوت الأهلين كانوا يحكون لي بافتخارٍ أيضاً عن أيام الحرب الطويلة ضدَّ ما اتفقوا على تسميته استعماراً رجعياً وإقطاعيّاً بل وطائفيّاً في بلدهم.
بيد أنه وبعد سنوات كانت الأمور قد مضت بعيداً بالدولة الجديدة بصورةٍ تناسى معها الجميع أيام النضال الرفاقي والرفقة النضالية ورانت على أرواح الكل، مقاتلين قدامى وجماهير، روح التهبت بحكايات القادمين من إيطاليا، ألمانيا، كينيا، أمريكا والسودان؛ عن أشياءَ بدت في البدء كما الخيال لدى أهل هاتيك الجبال وغابات الدوم والصنوبر وبعض السهول الجرداء إلا من خيرانها العميقة.
ربما كان ذلك ما أفضى بأفراد حراسةٍ جُدد للتذمُّر من هايليه بعدما قضوا شهراً واحداً من فترة بقائهم في ﭭيردا لونا. إنه ليس سوى هايليه الداخل دوماً إلى ساحة معسكرهم الصغير، في أيِّ وقتٍ وبلا استئذان والبندقية على الكتف. كانت الساعة الرابعة في الظهيرة هي أوثق ساعات مجيء هايليه إلى المعكسر إذ تراه كُلُّ البيوت الحجريَّة مُنحدِرَاً عبر السَّهل يُغنِّي ويتمايل طرباً، خاصةً إذا كان قد قضى النهار يحتسي الجعة المحليَّة في واحدٍ من بيوتها الثلاثة. وحتى لو صادف بعضهم في واحدٍ من تلك البيوت فالحال لا يتغيّر. من هنا جَرَت الخطة. خطة القضاء على دخول هايليه ببندقيَّته إلى الحرم العسكري.
بالفعل حانت تلك الساعة الرابعة والتي سُمِّيَت، منذ فترة، ساعة هايليه. وبدأ أفراد الحراسة يترصَّدون هبوطه الذي ما خابَ يوماًً. ها هو آتٍ وقد قبعت بيوت ﭭيردا لونا تُحدِّق من فوقه من شرفات تلالها مثلما حدَّقت في جهة الغرب إلى (جباريك) الذرة الشامي الخضيلة إلى ما بعد المُبالغة. ففي جوفها كانت تبتلعُ أطولَ الناس قامةً. سريعاً توزَّعَ الجمعُ كُلٌّ إلى مكمنه حاملاً بندقيّته، ما عدا قائد المجموعة المدعو (تيدروس). شاب بالكاد بلغ الثلاثين من العمر.
أما (برخت) الوحيد بين الثلة الذي لم يبلغ أكثر من عشرينه وبالتالي لم يشترك في حرب التحرير، فقد أُوكِلَت إليه مهمة نسف دماغ هايليه في اللحظة التي يختارها هايليه بنفسه ويؤمّن عليها برخت قبل أن تكون اختيار الجميع ولو بعد مصرع هايليه وشيك الاحتمال.
برخت كمان يقضي فترة خدمته الوطنية لما أظهر نبوغاً فريداً في مهارات قتل كلاب القرى في تمارين الموت، كما كانت تُسمَّى، إذ يهبط المُعلِّمون ومعهم صغار المُتدرِّبين فجأةً إلى القرى ويقعون في كلابها من مسافات يُقصد قصداً أن تكون الأبعد مدىً. لذلك شُبِّه برخت بنفرٍ قليلٍ من مُقاتلي حرب التحرير.
بتلك الصفة تُداعب خيالاته، تسلل في خفةٍ كما قضت الخطة ودخل جباريك الذرة الشامي وانسرب عبرها حتى بلغ الصخرة الاستراتيجيّة التي اختيرت بحصافةٍ ودهاء كي يربض وراءها غير بعيدٍ من النقطة التي افترض الجميع وبقوّة أن هايليه سيتوقّف آمناً عندها ويُطلق النار عليهم في اللحظة المُعيَّنة. كانت نقطة أقرب كثيراً جداً من أيٍّ من الأمداء التي فجَّر الفتى منها رؤوس الكلاب بعيارٍ ناريٍّ وحيد ليس غير.
فالجميع تأكدوا أن هايليه الغافل سيحتمي، في حالة تفجُّر الوضع، بالبيوت وراءَه وبجماعات العيال المارحين بلا عددٍ في فضاء تلك الساعة الرابعة وسط ظلال التلال الواقعة إلى الغرب من ﭭيردا لونا.
في هدوءٍ غريب اجتيزت البوابة وهايليه أبداً ما انتبه لهدوءٍ آخر أكثر غرابة وما كان له أن يكون في تلك اللحظة مع الشجارات الوديّة الصغيرة حول لعبة الدومينو أو الورق، خاصةً مع ورقة (الملكة) التي يُطلق عليها الأهالي لقب (بنت الهوى) أو (بنت الليل) باللغة الإيطالية.
هايليه وكما في كُلِّ يومٍ، اختار صندوق الذخيرة القديم واتكأ بندقيته إلى جانبه وكاد يسأل عن بقية الرفاق الذين تأكد له تقريباً أنهم كانوا يصطادون السمك مباشرةً وراء الحاجز الصخري الذي ألّف وجه الخزان على بعد أقلّ من خمسة أمتار من مدخل المعسكر. كان من المفترض أن يسمع صياحهم أو حديثهم إن كانوا هناك بالفعل ولكن! إلا أنه وقبيل أن يطلق سؤاله رأى تيدروس يتقدّم منه وعلى محياه الكثير. قال بصوتٍ شكيمٍ وآمر: “هايليه.. اخرُج من هنا!”.
هايليه كاد يتبسّم لولا تلك الصرامة التي ازدادت فجأة عقب الكلام، فوجد أن لا حلّ سوى أن يُنفِّذ أوامر قائد المجموعة. وبالفجاءة ذاتها ماتت فكرة دفاعه عن كرامته بأن يسأل، على الأقل، عن سبب ما سمع وأن يجادل حتى ولو بطلقات النار. فقد فهم بغريزة الجندي ومن خلال التدريب القصير جداً والذي ناله كحارس للغابات بأن كُلَّ الغائبين عن نواظره قد اختفوا قريباً منه وتأكد له أنهم ليسوا وراء الخزان يصطادون السمك وإنما كانوا أمام الخزان لاصطياده هو نفسه. لذلك نهض من صندوق الذخيرة القديم فاهماً في تلك اللحظة فقط كيف تأتَّى لتيدروس أن يجابهه وهو خالي اليدين تماماً. بل ليست إلى جانبه أيما بندقيّة.
كان واضحاً من مشيته عندما دلف مرغماً إلى البوابة الخارجية أنه كان يفكّر بسرعةٍ في شيءٍ بعيد. شيء كان أبعد قليلاً مما افترض أفراد المجموعة بسبعتهم. تابعه تيدروس من الداخل حتى وصوله البوابة وخروجه عبرها. وكالطيف تراءَت له المعركة المفترضة خاصةً لمّا يُوازي هايليه صخرة موته حيث سيستدير فجأةً ويُطلق أعيرته الناريّة على تيدروس شخصياً وليكن ما يكون! حتى بندقية برخت كانت تعلم نهاية القصة، حتى فاجأها هايليه بأن انعطف يميناً عوض اليسار واعتلى حاجز الخزان وعبره بثلاث خطوات فقط وهذه هي الحافة تحته مباشرةً وكذا البحيرة. من هناك رفَع بندقيّته وأطلق النار على من صار عدوّه في أقصر الأزمنة.
وللحال وكالفهد المُحاصر هَبَط منحدر الحاجز الصخري وجرى مع حافة الماء صوب التلال مارّاً بالطريق الضيّق ما بين الماء ومسكني.
“تا أُوسْتاس!”
ليس في قرية ﭭيردا لونا من لم يسمع تلك الصيحة وكان من بينهم أمهر الرماة طراً، برخت الصغير والذي في غمضةِ عينٍ أمسى خارج المعركة ويا لكِ من خسارة! لأنها الحرب ولا شيء آخر!
الجنود الخمسة الآخرون تأكدوا أن قتل هايليه لن يكون سهلاً قبل أن يمرَّ أمام بابي ويرشقني بحقده الذي ما ادَّخره يوماً في كُلِّ حلقات الأنس في ليالي أو نهارات ﭭيردا لونا. اليوم سيُصفِّي حسابه معي واثقاً أن له شركاء يمكن أن يُلقي عليهم التهمة ويُجادل ويُجادل ويُجادل حتّى الموت أو.
وراءَه توالت الصيحات التي صُبَّت في معنىً واحد: لا تتركوه يصل غرفة السوداني حيّاً! كانت بقية الكلام معلومة للبنادق، الأشجار، الأوز، البحيرة، التلال، الصخور وجباريك الذرة الشامي. من جانبه شاغبهم هو أيضاً، بين كُلِّ ثانيتَيْن أو ثلاث، بطلقٍ ناري من فوق كتفه بالطريقة التي يحذقها رجال حرب العصابات. بدورهم صبُّوا عليه جحيماً غاضباً وشبه يائس حتى انتهى الميل وهم يتضرَّعون إلى الحظِّ بأن أكون ضدَّ حظِّي أنا؛ بأن أكون عاقلاً وأسدَّ باب غُرفتي بالمِزلاج حال سماعي صوت النار وألا أخرج لأستفسر كدأب البلهاء الذين كنت في عدادهم وقتها.
آه… هذا هو باب غرفتي مغلقٌ بالكامل.
كان الجنود الخمسة غير قادرين حتى على النظر في وجوه بعضهم البعض فيما خارت ركبهم تحتهم وتهاوت إلى جوارها بنادقهم عاجزةً هي الأخرى عن فعل أي شيء فأغمضوا أجفانهم وسدوا الآذان وراحوا في نوبة ارتياحٍ لم تأبه للطلقات المتباعدة بكل معنى الكلمة، والتي ما زال هايليه يطلقها وهو راكض في طريقه نحو الخلاص تحت غابات الصنوبر الماضية في انحدارها حتى البحر البعيد بعشرات الأميال. أخيراً عادوا إلى مقرّهم وليس من بينهم من هو قادرٌ على فعل شيءٍ سوى السكوت والسكوت وحده.
علم ملاّكيه بعودتي بعد يومين من المدينة فجاءني وفاجأني بحكاية المعركة التي كانت غرفتي بعضاً من ساحتها. كما أخبرني، والحيرة تكاد تمزّقه، أن هايليه التقاه صدفةً قبل أقل من أسبوع، في واحدٍ من بيوت الجعة. كان ضاحكاً لمّا أطلعه على حلمٍ وصفَه بالطريف، رأى فيه رفيقه الفورستاليه الآخر محاصراً وسط خمس أوزّات هاجمته بعنفٍ وتخبط على وجهه بأجنحتها وتنقر رأسه بمناقيرها الضخمة. وعندما هبَّ لنجدته اضطر لأن يطلق ناراً يخيف بها الأوز، إلا أن الطلقة غيّرت دربها وأردت الرفيق قتيلاً. هايليه أقسمَ أنه ما انتوى أن يخبر أحداً بذلك الحلم إلا بعد سنوات.
وبالمزيد من حيرته واصلَ ملاّكيه حديثه لي بأن مجموعة من الجنود جاءت على عجلٍ في سيارتَيْن من أحد معسكراتهم القريبة ليستطلعوا الأمر لدى سماعهم أصوات أعيرةٍ نارية. وللتو فرزوا مجموعةً تعقّبت هايليه منذ عصاراه تلك حتى ضحى اليوم التالي، وعندما عثروا عليه جائلاً في البريّة المظلمة أعدموه على الفور، وجروا جثّته إلى رحبةٍ صغيرةٍ بعيداً حتى عن ظلال أشجار الصنوبر، تماماً كما كانوا يفعلون تبادلاً مع جنود الإمبراطور ومن أعقبوه.
* كاتب من السودان
* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني .