السَّابِلُ وَالطِّفْلُ الْغَرِيبِينَ
أيها الغريب لحظة. نادى الرجل الذي كان يُشيِّد سور المنزل الخارجي، أحد السابلة ذي مظهر رث، ما إذا كان يرغب في العمل معه، بأجرة ينقدها له آخر النهار، في تلك اللحظة كان قد بدأ يشد خيطا في حذاء السور، وطلب منه أن يجيب على سؤاله. توقف السابل عن المشي وظل يحدق في الرجل البنّاء بحيرة، كانت عيناه محمرتان ورموشهما طويلة جداً، بلا لحية أو شارب وشفتاه رقيقتان، تكادان تُسفران عن ابتسامة فاترة، فيما كان البنّاء ذو شارب ضخم ولحية طويلة وعيناه واسعتان وصافيتان تماماً ويحب الموسيقى بشغف، لديه ولدان صغيران من زواجه قبل خمس سنوات، ويبلغ طوله مائة وثمانين سينتمترا ويزن 75 كيلو غراما، ويسكن في حي المدينة القديم، وقد تجاوز الحادية والأربعين قبل عام، ويدعى عوض.
كان أطفال عابرون، قد بدأوا يحدقون في السابل الغريب، من بينهم طفل شديد الغرابة وهو الابن الوحيد لوالديه، يعيش طورا يكبر سنه بكثير، وهو الذي له من السنوات ثمان، يكبرها بعشر أخريات، ويُنعت سرا بالقبيح المرعب، ذلك أنه لا يشبه والديه الجميلين، ويدبر مكائد مخزية ومحزنة تصيب الجميع بالهلع والرغبة الجامحة في البكاء، فهو قادر على إشعار كل من يقع نظره عليه، بألم دفين واستثارة خوفه المستكين في صميمه، ومكائده تصيب كل من يلتقيه، إذ في أنفاسه تعيش الخدع مزفورة في الهواء وصوته جارح للمشاعر فهو يذكِّر الإنسان بنقصه على الفور.
اقترب الطفل الغريب من السابل، وكان هذا الأخير ما يزال يحدق بحيرة في وجه الرجل البناء ولم يجبه، وقد زّم شفتيه، ما غيَّب الابتسامة المحتملة، لكن عيناه التمعتا التماعا مخيفا، واصفر وجهه الباهت إلى أن صار مكحولا بالغرابة والمستحيل والعدم، وقبل أن يحادث السابل، ظهرت جوقة من رجال يشيعون جنازة، تسبقهم أصوات طبول جنائزية، وإنشاد غائر في الحزن المرعب، وترفرف لهم أعلام ورايات حمراء وخضراء وزرقاء، كانت امرأة يطل بيتها قبالة المنزل الذي يشيد سوره البناء، قد بدأت تصيح وتنزع ثيابها وتقول بهتاف مغرِّد بالألم، إن قلبها في طريقه للتوقف، وإن عينيها لم تعودا تبصران كما ينبغي، بل باتتا مغيبتين عما يحدث في الحياة، واشتكت من أن الظلام حالك أشد الحلكة، وأشكالا بائسة من الخيالات تشعل رأسها بالمشيب والانتهاء.
لم ينتبه رجل كان آتيا من الجهة المقابلة للجوقة التي تشيع الجنازة، إلى كل ما يجري حوله، بسبب وعد كان يقطعه على نفسه، بأن لا يدع الصلع يغزو متبقي شعر رأسه، ثم إنه كان يؤدي طقسا ألزم به نفسه، درءا لمغادرة الحياة، وذلك بالغناء والضحك طيلة الساعتين الثامنة والتاسعة صباحاً، إذ يمرِّن بذلك قلبه على أن لا يتوقف طيلة الأبد.
فيما الرجلان السابل والبناء، كانا لا يزالان يحدقان في بعضهما، رغم أن الثاني كان يستجيب لنظرات الأول، وقد توقف الرجل البناء عن شد الخيط، إذ أفلت نفسه كلية استسلاما للسابل الغريب، وشّعت منه ابتسامة حملت خوفا مستترا على ولديه ونزاعا مريرا مع مهنته والحياة. انحدرت دموع كثيفة من عينيه، كأنما أطلق عليه السابل غازا مسيلا للدموع، بينما تقدم الطفل الغريب بحيث أصبح أمام الرجل رث المظهر، في تلك اللحظة احتضن الرجل القادم من الجهة المقابلة، المرأة التي تشكو حلكة الظلام وتوقف قلبها الوشيك، فيما همدت أصوات طبول جوقة المشيعين، إذ صرخ الميت الذي على النعش محذرا من الحياة والطفل والسابل الغريبين.
*كاتب من السودان