ثمار

الرحمانيات المُلتبِسَة

ثمَّة أفكار تنمو في الضنك، وتكون شفَّافة ولزجة، تَصِفُ وتُلِحُّ، فتصبحُ الساعات والأيام صدىً لتلك الأفكار، ثمَّ تصبح قوى استشعار جديدة تُلهبُ الحماس، وذات يوم حينما تنهضُ في الصباح، وتقول: (هُنا انسدادات لانهائية)، ثم تقرر الخروج على دورية الزمن، فتطوي صفحة الأمس والحاضر، وتنطلقٌ في الأرض بأملٍ واسع، خفيفاً كنسمة الصباح، تحملك افتراضات لطيفة، وتهيؤات واعدة. وهكذا تتحول أفكار الضنك إلى وقود مثالي يكفي لإطلاق مركبة فضائية باتجاه كوكبٍ جديد.

آخرون لم يمرُّوا عبر هذا الثقب، قد تدور بهم ديناميكية سوق العمل، أو يذهبون للاستزادة في العلم والتحصيل، أو قد يكونوا من تلك الطبقة، فليس للبرجوازية وطن، هؤلاء لا يسرفون في الوداع، لا دموع ولا غبينة، يكتفون فقط بذلك الجزء الأصلي من الحزن المُرتبط بفراق الأحبة دون أي زيادات أو إضافات جانبية.

تبدأ قاطرة الزمن في نزيفها اليومي، تحزُّ بعجلاتها براءة الأرض، تشكو حيرتها للشجر والرمل والجبال والغيوم والوديان والسحب والمسافرين، تحاول أن تجد معنىً ثانياً للأشياء، تدهسُ أبناء الانتظار ولا يعنيها سوى أن تستمر. باختصار تمارس جنونها المثابر بشيءٍ من الطيش النبيل.

يحملُ المُسافر حقيبته المُستفة بالإحباط، يتظاهرُ بالتماسك والانشغال بماهو آتٍ، يحاوٍلُ أن يخُطَّ بقلم الرُصاص بعضاً من آلامهِ وأوجاعه التي تتسربُ من حقيبتهِ الحزينة، وفي تلك الأثناء، يغفو وينام، يرى في أحلامهِ العالم وقد صار أكثر سخاءً وكرماً، ثمَّ يصحوْ وقد تملكتهُ التوقعات.

أولُ ما يواجههُ في تلك الديار البعيدة هو (مشكلة الشرعية)، وكم قضى بعضهم أعماراً كانت تكفي لإنبات القمح على الإسفلت، وكم  أُرهقت الأبدان والأرواح في سبيل الحصول على ورقة تافهة تساوي اعترافا ضئيلاً بأنه (كائن حي)، في كثيرٍ من الأحيان يحتاج المهاجر إلى شيء يميزهُ عن تلك الصناديق التي تأتي عبر البِحار والطائرات.

وبعد ذلك تأتي (مُشكلة التكيُّف) وهي المرحلة التي ينمازُ فيها الأقوياء المصممين أو الهاربين بجدارة، بينما يسقطُ الضعفاء والمترددين، يقول عالم البيولوجيا البريطاني تشارلز دارون (1809-1889)، (أن الأنواع التي تستطيع التكيُّف والتلاؤم مع البيئة والظروف المُتغيرة هي الأجدر على البقاء).  هذه المُرشحات قاسية، لا ترحمُ أحداً.

إضافة تعريفية مُوجزة: هذه المرحلة فردية تماماً، سوف تجد نفسك إزاء حزمة من قوانين، بيئة اجتماعية جديدة، أوضاع أخرى، مجال ثقافي مُختلف إلخ. وعليك أن تبدأ من اللاشيء لتصل إلى مرحلة (الصفر الوجودي)، وقد لا تجد أي شكل من أشكال الدعم والإسناد فيما يختص بعملية الوصول للخطوة التالية. أنت هناك، وظهرك إلى الجدار، وعليك أن تنظر فقط إلى الامام.

في مُجتمعاتنا المحلية قد نواجه أوضاع مُشابهة، ولكن الثقافة اليومية التي نعيشها تكون إيجابية جداً في مثل هذه الحالة، وذلك هو الفرق الجوهري بين حياتنا ( حياة القطيع النبيل) والحياة في المُجتمعات الأخرى.

من المُمكن أن نجد مدنيات ودول مُتحضرة يُشار إليها في الرُقي والتقدم، نشأت بفضل القوى المُهاجرة.  كيف نتخيّل أن تكون أمريكا لولا المُهاجرين؟ وماذا ستكون الأرجنتين لولا الهجرات الكثيفة للشباب الأوربي الذي هاجر إلى تلك الأرض لأجل حياة أفضل؟ في زمنٍ مضى حملت السُفن آلاف الشبان الحالمين وألقت بهم في تلك البلاد، فوجدوا أنفسهم في مواجهة الجدار ومن خلفهم بحر لانهائي فتسلقوا الجدار وبنوا تلك المدنيات العظيمة، وشيدوا أحلامهم.

ولكن الأمر لم يكن بهذه الروعة في كثيرٍ من الأحيان، في العام 1505م، حملت السُفن أيضاً آلاف الأفارقة، جيء بهم من قلب الأرض الأم، وودعوا حياتهم في (باب اللاعودة) في سواحل السنغال، وفي (ستون تاون) في زنجبار، حملتهم سفن التجارة القذرة وجيء بهم إلى جزر الكاريبي ليعملوا في المزارع حتى تتذوق أوربا طعم السُكَّر، يُصادف هذا التاريخ تدمير (سوبا) حاضرة النوبة بواسطة البدو المُسلمين وتأسيس سلطنة سنار التي كان جيشها من العبيد.

لاحظتُ أن بعض الكُتاب والموظفين الدوليين يعتمدون هذه الروايات في كتابة تاريخ الهجرة.

لماذا نُهاجر؟ ماذا نُريدُ من الهجرة؟

أسئلة عادية وبريئة تماماً، أسئلة استفسارية ولا تحمل أي شبهة استنكار، وقبل أن نحاول أن نرسم صورة توضيحية لهذه المسألة، لننتبه قليلاً لتلك الإمتعاضات السافرة التي نراها على وجوه قادة أوربا حينما يكون الحديث عن الهجرة.  نقول: لأنها حق إنساني.

وبإمكاننا أيضاً أن نضيف من الأسباب: الفقر، اليأس، الرُصاص، الحُلم، الأمل، الخيبة، الهرب، الحياة الكريمة، حُب المغامرة، الطموح.

في أوربا والعالم المتقدم يُمثل الإيمان بحقوق المٌهاجرين واحترام رغبتهم في الحياة ركناً أساسياً من أركان القانون، حتى وإن تقاصرت الجهود الرسمية وتناثر الاستياء الشعبي على وجوه المٌهاجرين الحزينة.  في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م، نجد ما يلي: (كفالة حرية التنقل والإقامة والعودة، وهي حق لكل إنسان).

العديد من المُهجَّرين يعبرون البحار ومكاتب العمل الرسمية، ثم بعد ذلك تبدأ المُشكلات، قد تكون المسألة بسيطة أو كما يلي: طالما كُنتُ أحترم قوانين البلاد، وأسعى لتحقيق ذاتي وأعيش في سلام مع الآخرين، فسأكون مٌغامراً ناجحاً.

هنَّا تبدأ تعقيدات جديدة مُتعلقة بالاندماج والانحصار. هذا التعالي الأنيق والرحمانية المُلتبسة من جهة المُستضيف، والانشطار النفسي والثقافي ومتاعب الإيمانيات العنيفة من جهة المهاجرين، لتظل هنالك مساحات عريضة من الشك وسوء التفاهم.

في الآونة الخيرة انتقلت المسألة إلى مربع جديد، الاعتراض السافر  والتذمُّر العلني أمام الشاشات، مضافاً إليه ما يُحاك  على طاولات الاجتماعات الرسمية من تدابير وإجراءات، جميعها تقف شاهداً على أن هذا الإنسان الذي يسيطر على كوكبه باقتداره العلمي المُذهل  و إبداعه الرائع، لازال حتى الآن بعيداً تماماً عن القوانين التي كتبها،  بل يفتقدُ لذلك الشيء الأساسي الذي يُميز بين الروبوت والإنسان : التعاطُفْ.

 

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى