قميص أفريقاني مزركش وبنطلون من الجينز
يمتلك المغني المخضرم، أبو عركي البخيت، رصيداً نوعياً وافراً من الجماهير، يحفظون أغنياته وموسيقاها المعقدة بشغف.. يرددونها باستظهار بائن أثناء حفلاته. يحدث ذلك باستمرار، مثلما حدث في حفله الأخير بالمسرح القومي بمدينة أم درمان. وعادة ما يحصل أبو عركي من معجبيه على قبلات على الجبين، وينال مسحات للعرق بالمناديل الورقية، حين يقتحمون عليه علو المسرح.وبالطبع، لا يتدخل شرطي الحراسة إلا في حدود ضيقة، بل يكتفي بالدهشة لاقترابه من فنان محبوب، ويتماهى مع جمهور متعصب، ومشحون إلى درجة عالية من الكثافة.
قال أبو عركي في كلمة مقتضبة موجهة لحضور الحفل: “كل ما تبقى لي وفاؤك أنت يا شعبي، سأردُّ جميلك مقطوعاً من كبدي”. ثم دخل في أغنية ذات كلمات مباشرة، أقرب ما تكون إلى الكلام العادي منه إلى الشعر الغنائي: “يا شعبي المعطاء، بحس بي حسسك لما تئن، ولو حد ظلمك، بتجنن.. دايرك فوق لشعوب العالم طولاً وعرضاً، عرضاً وطولاً.. دايرك تعرف حقك وين.. وبي روحك ما تفرط في حاجاتك أبداً، يا شعبي المعطاء”.كان الحفل أقرب إلى ندوة سياسية، منه إلى حفل غنائي، من حيث كلمات الأغاني المختارة، ومن حيث الحضور النوعي الذي أَمَّ الحفل، إذ حضره، مثلاً، القيادي الإسلامي المحبوب عبد السلام، إلى جانب ناشطين سياسيين، وعدد من الصحافيين ذوي الاهتمامات السياسية. وربما كان متسقاً أن يغني لهم: “كتلوا الولد، نهبوا الدهب، وسرقوا الأمل من أعين الناس الحيارى..وكل معانا وهذا البلد منسوبة ليهم وأصلو ما بتغيرو.. ديل أصلو ما بتغيرو، إلا إنتو تغيروهم.. شدوا حيلكم وغيروهم”.ثم طُمِسَتْ كلماته بالهتافات والصفير الصادر من الحضور، فيضطر إلى تهدئتهم بإشارة من يديه، حتى يكمل. وبالطبع، هذا ما يعيد إلى الأذهان جدلية دور المثقف والمغني، وملامسته للسياسة بتعريفها السطحي، لكن لا يبدو أن أبو عركي مشغول بالتبرير لمشروعه الغنائي، إذ ما يبلث أن يترك الغناء السياسي كلياً، ويهيم بالجمهور:”ﻣﺎ ﻛنت ﻗﺎﻳل ﻳﻮﻡ ﺑﻼﻗﻲ ﺍلحب ﻭﻻ بكشف ﺩﺭﻭﺑو..وﻗﻠﺒﻲ ﻣﻦ شدة إﺒﺎﻫو ﺑﺘﻘدر ﺍلأشوﺍﻕ ﺗذﻳﺒﻮ!!..ﻟكن ﻏﺮﺍمك ﺣبة حبة ﺻﻼﻧﻲ ﺑﻲ ﻧﺎﺭﻭ ﻭﻟﻬﻴﺒﻮ..ﻭﺳﺮقت ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ ﺗﺎﻧﻲ ﻛيف ﻣنك أﺟبيو”.ومقارنة بين حفل يوم الأحد الماضي وآخر حفل لـ(أبو عركي)، فقد زاد عدد الحضور بنحو مقدر، وذلك قياساً إلى عدد التذاكر التي بيعت مباشرة من نافذة المسرح القومي بأم درمان، إلى جانب امتلاء مقاعد المسرح حتى فاضت الجنبات بالواقفين. وهو حضور لا يقاس إلى أيٍّ من حضور الفعاليات الجماهيرية والندوات السياسية المتقطعة التي تشهدها ليالي الخرطوم هذه الأيام.وبالطبع، ستخسر الأحزاب وبقية المنظمات الجماهيرية كثيراً، لو جدت في المقارنة.لم يكن خافياً استدعاء أبو عركي لحالة البلاد السياسية عبر أغنياته في الحفل، إذ ينغمس في الغناء بقميص أفريقاني مزركش، يسمى “مانديلا” في لغة الموضة، وبنطلون من الجينز، بديا كما لو أنهما مُختاران بعناية… وشرع أبو عركي بملامح جدية في غناء نصوص ذات مفردات وعبارات مثل: “الديمقراطية.. وتعالوا نفكر إيه البحصل في السودان.. الظلم، الجهل، الخوف، الجوع، المرض”.لكنه مع ذلك، منع كاميرات تصوير الفيديو من توثيق الحفل، وبَتَّ في ذلك بحركات حاسمة من يديه وأصابعه. وكان أبو عركي يغني، بالتتابع، أغنية للعشاق والمحبين، وأخرى ذات مضامين سياسية واضحة، يتجاوب معها، بالتصفيق والصفير، طيف واسع من الحضور. مثلاً غنى:”يا شمس إنتي لازم لازم تشرقي الشعب متضايق، الحقي كيف حيصبر أكتر من كدي يا حريتو هسع.. يا كمان أصليهو وأحرقي يا شمس لازم.. الظرف حاسم الجو قاتم.. والشعب كاتم حريتو عندو أهم شيء”. ثم ردد بعدها، دون فاصل في الموسيقى: “عن حبيبتي بقول لكم، يلا صفقوا كلكم”، وهي من كلمات الشاعر سعد الدين إبراهيم.كان صبي الجزيرة الحداد قاد فرقته الموسيقية ناقصة العدد، ودشن حفله بـ”لو كنت ناكر للهوى زيك، كنت غفرت ليك”؛ من كلمات عوض أحمد خليفة، فظن الجميع أنهم أشقياء بالحب، ومشردون في بلاطه وسلطته التي لا تجامل أصحاب القلوب الضعيفة، ثم مضى أبو عركي، المولود في الخمسينيات، ليغني. وأظهر براعة نادرة في ضبط إيقاع موسيقى الأغنيات بحركات رشيقة راقصة، يحرك فيها يديه ورجليه، فيقلده غالبية الجمهور، إلى أن يبلغ بهم أغنية: “سهرنا الليل وكملناه، في ظلال عينيك النعسانة”. ويكون ذلك إيذاناً بانتهاء الحفل وبداية حياة وسيرة جديدتين لأبوعركي.
(عن حفل أبو عركي 1 يونيو 2014 بالمسرح القومي)
* كاتب وصحفي من السودان