غوايات

طيرٌ غيرُ مُجَنًّح

 

(1)

كل ُّ ليلةٍ أتربّصُ باسمي

أكشُطُه من صفحةِ السّماء،

وأرمي أصدقائي بالكلماتِ النحيفة،

من خلفِ أكمةِ الزِّجاج.

في الكأسِ الخامسةِ

كِدتُ أجدُك يا الله

تشرب اليانسون مع حبيبتي

في الحديقةِ العامة،

وتحددان مصير عاملِ السيراميك.

كلُّ ليلةٍ أروٍّضُ

ثوراً برِّيَّاً ليركبه أبِي

أصنعُ عشاءً من فطرِ الجبلِ

لأُمي

وأدلِقُ النّبيذَ

على ثيابي الممزّقة.

(2)

أنا ميتٌ فوق درابزون أخضر،

منذُ البارحة عبرتني طيورٌ

غيرُ مُجنّحة

وأسماءٌ لجبالٍ بعيدة

لم تنجُ من القطف.

الحيُّ لم يكن أنا،

كان ظلّي الرّاكضُ مع الأشباحِ البرّية.

(3)

حبيبي،

يمشي ويجيء

كقوسٍ مضطرب

على أوتارِ كمنجة.

هكذا،

ميلادُك قربَ جُثةٍ مُلونة

تحت حائط الخرابةِ النّيئ

تُمسكُ كنزاً من الكلمات الرّخيصة

كحِوار فقيرين حول خُبزةٍ يابسة.

الخرابةُ التي هجرتها الأشباحُ إلى المدينة،

ستكون بيتك في الغد منضدة،

نافذة مقلُوعة، عناكبُ تحتفِلُ بالعتمة،

مكتبةٌ ممزّقة كجِبةِ شحاذٍ طيّب

سهمٌ مُتآكلٌ لا يفضي لاتجاه .

(4)

أجلسُ مرعُوباً،

كحقيقةٍ نفقتْ توَّاً

أُعلِّقُ حُزني في مشاجِبِ الرّيح

التي تدفع صمتي بعيداً

حيثُ الموتى يُدبّرون مكيدة أُخرى

لوردتي الوحيدة.

أيّها العالم،

ستدخلُ في ثُقبِ المغامرةِ

وأنت أعمى

ستتسلق شمعتي لتعبر.

سأنجو من قصفِ العصافيرِ الطائشة من الرّيح

والحبيبات

وأنامُ وحيداً

في لِحافِ العشبِ تحت غيمة.

(5)

أنا رِئتُكِ المعطوبة

أشياؤكِ المُهملةُ خلف الباب
جزيرتُكِ النّائية

وسواسُكِ الّليليُّ المُرْعب

سُقُوطُك.

أنا سُقوطُكِ الجائح في عتمةِ البئر.

تعالين نلعبُ لُعبةِ الموتِ الأخيرة

نتقاتلُ أمام وردة

تنتِفين يدي وأثقبُ ظِلّك

ترمينني بالشّك

وأهدِمُ فيكِ حائطَ الليل

تسحبين من تحتي النهر

وأعلِّقُ مجدَكِ في الرّيح

تلعنينَني، ونركضُ معاً بلا جهة.

(6)

لستُ صيدكِ

يا وعُول الطريق

كل ُّ ليلةٍ أرمي خطوة أخرى

لأمضي

بعيداً أملُصُ خديعتُك المُربكة

وأطيافُكِ المُدوِّيةُ في ذهني الطفولي.

كدتُ أفتحُ خِزانة الموت أمسكُ بتلابيبِ الجماجم،

وهي تعوى عائدة إلى المدينة

كِدتُ أشربُ كأس الحرية.

(7 )

سأمُرُ فوق جُثتي

وأنا أقصِفُ الموتى بالفاكهة

وأنا أحدِجُ الحياة بأغنيةٍ قديمة

وأنا أحمِلُ جُثتي،

لنعبر هذا الألم.

كأن العالم بياضٌ،

كأنه خيالُ وردةٍ نائمة

كأن جُثتي تزدهِرُ في تابوتها الصغير

 (8)

نحن فجائعُ الدّغل

مواءُ الموتى،

والجثثُ العالقةُ في سراط الإياب

نحن عصفورةُ الحلم (تحولت لمحضِ بنت)

والذي في جبةِ (الحلاج)

من على صدره آية الصليب

(عِيالُ الشجر

حنوطُ الخُلْدِ النافد

الذكرياتُ الخامِلة

دِروةُ العُصاة،

نحنُ العصاة معاولُ الحياة.

(9)

إذ أمُوتُ

لا تدفِنوني في جِبانةِ الحي الباردة

لا تبكوا عليَّ

ادفنوني بعيداً

احفِروا عميقاً

قُرب سيّالةٍ ظامِئة

أو اتركوني بلا قبر.

(10)

في الخيرانِ العابرة

سنرمي جماجم الكلماتِ

يا حبيبي ونفتحُ قناني الأصدقاء

والنوافذ

من أين يهِبُّ الشِّعْر؟

أين يصُب؟

هل نترك النّهرَ يأكل المركبات الصغيرة

ولا نقفِزُ من صراطِ الرّيح؟

(11)

ها نحن يا حبيبة

لم نزل نصطادُ هذا الليل،

نكْمُنُ خلف كومةِ الشعرِ والجبل

نستلُّ رمح الكنايةِ البعيد

منذ كان النّهرُ قبلةً صغيرة

منذ كان القمرُ طفلاً مشرداً

في دمِ السديم

منذ لم تكوني شيئا يا حبيبتي.

(12)

على مركباتِ القيامة

سندخُلُ الليلةَ مدينةَ الموتى

الطيبين

ننزعُ عن وجهِهم جِلدةَ الهلاكِ اليابسة

نُعيدُ لِأعينِهم ومِيضَها القديم

ولِشفاهِهم مياه الكلام

نُعيدُهم لِسيرة الحياة

لا صُوْرَ لنا

ستمخرُ المركباتُ المضيئة في عبابِ الظلام

تكسرُ الدخانَ

وحائطَ الغياب

تمنح الهياكل دمها

أُغنياتها الصّاخبة

تمنحها قلباً أخضرَ

وصباحاً لا يموت.

 (13)

البداياتُ خانِقة

مثل سُلّمٍ ميْتٍ في بئرٍ مهجورة

مثل جناحٍ مكشوطٍ ببلطة

مثل حبيبة لا تحُطُّ سوى على شاهد القبر

مثل خمرٍ رديئة شرِبها صديقٌ ومات.

يتها الهاوية لا تمدي يدك لتكشفي سوءة السقوط الوشيك فلم تزل المدينة تأكُلُ شوارعها الملونة

وأطفالَها الحالمين ببعضِ خُبز

ولم تزل تُحيكُ في السر بداياتٍ خانقةٍ أخرى.

(14)

بِملائكةٍ يحمِلون نعشاً بظلٍ

يشربُ من مياهٍ هائجة

بنافِذةٍ توصد المسير المحطم

بعينٍ تُبصٍر أصفر يُحلِّق بشهوَةٍ

تصعدُ عتبة بوردةٍ تنوس.

(15)

الفرنُ رخو

ولا صُلْب َ لك لتجلس على الخازوق أطول

تعلمتْ يدُك المناولة في الجسر

تعلمت صَنانة الدم

الريشُ نَتْف الزنزانة في ضميرِ العصفور

الريشُ محْق

ثم إن الإله مُنزويا خلف صهادة الحرائق ما وراء السُّخام الغوايةُ:

أن تجِف في الصّلْب تقولُ الحبيبة :

خذني أكثر صوب المباغتة،

طنين الندم

شِواء الرّيبة

تقول:الغواية، أن تملص جلدك في مِسمار الصّلبِ وتأتي .

 

*شاعر من السودان

المغيرة حسين

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى