ثمار

نيوكس

فيكتور

جلست نيوكس، وهي تخلف رجلها اليمنى علي رجلها اليسرى ، قرب باب مكتب المحدد المسئول في صحيفة “كونيو كونيو كسونيان” اليومية ، كانت تتثاءب في خمول وتحط يداها إلى أعلي وتدفع صدرها إلى الأمام، لم تكن مريضة أو خائفة، كانت تشعر ببعض التعب والخمول، ربما لأنها لم تنعم بنوم مريح في الليلة الفائتة، ففي كل مساء أو ليلة كانت في الغالب، تسامر زائراً أو زائرين على الأقل، منزلها يحتوي غرفة نوم، وغرفة أخرى تستخدمها كبارٍ لبيع الخمور الممنوعة ، الخمور البلدية ، وفي هذا الصباح ، وصلت إلى مكان عملها متأخرةً كثيراً ، وعندما تكون في مثل هذه الحالة كانت، في العادة، تستجيب ببطء لجرس المكتب، متصنعة عدم سماعه.

نيوكس تعمل مراسلة في صحيفة “كونيو كونيو كسونيان” وهي تعمل كمراسلة لأنها ليست متعلمة، أمّية لا تعرف الكتابة والقراءة، ويشمل عملها استقبال تلِفونات المكتب، ترفع سماعة تلِفون كلما يرن جرسه وتحييه حسب الحالة وفي الوقت نفسه تقوم بخدمة المحرر المسئول ، يرسلها علي المكاتب الأخرى ومعها بعض الأوراق ، أو لإحضار ساندوتشات الفطور، السجائر، الشاي، أو القهوة ، وغيرها ، وتقوم أيضاً بمساعدة مكتب الأخبار بحمل أوراقه للجهات المسئولة وتنظيف الكراسي والطاولات والتخلص من بقايا الورق والأوساخ داخل المكاتب.

نيوكس كانت امرأة جميلة، كانت جميلة جداً لدرجة أنها إذا غسلت جسمها وأفرغت غسيلها في ماعون مناسب سيتسابق الرجال للشرب منه، ولذلك كانت تكذب على الناس وتدعي أنها تعمل تايبست في الصحيفة، وإذا أعدت النظر في طريقة لبسها وسلوكها المهذب ، وطريقة حديثها ، التي تحافظ عليها في العادة مع الشخصيات العامة ، ستجعلك تصدق أنها تعمل في وظيفة تايبست، لكن، مع ذلك، هي مجرد مراسلة، أمّية، غير متعلمة.

نبوكس تدَّعي أن عمرها واحد وعشرون عاماً ، لكنها في سلوكها تبدو أكبر من ذلك وبعيدة عن سذاجة الفتيات، في مثل هذا العمر، هي في الواقع امرأة مدنيه ناضجة ومتمرسة، وأسمها الحقيقي هو “نيوكانا  ليوبزي” ، غيرته إلى “نيوكس” بعد عملها في الصحيفة، لان هذا الاسم له رنين وقريب للنطق الانجليزي.

نيوكس اسم جميل يفيض حلاوة ، كالقهوة ، قلت لكم أن نيوكس أمّية ، غير متعلمة ، وجميلة ، أليس كذلك؟ لذلك لا تسألوني لماذا تستخدم صحيفة محترمة ، مثل هذه الصحيفة ، مراسلة أمّية مثل نيوكس؟ مثل هذا السؤال قد يبدو استدلالياً ومفهوماً في مكان آخر في بعض الأوقات ، لكن ليس في مجتمعنا الحالي، مجتمعنا الحالي شعاره (ليس هناك مستحيل تحت الشمس) كل شيء ممكن فيه المهم الشباب في غرفة الأخبار يهمسون بأن نيوكس دخلت مكاتب الصحيفة عن طريق المحرر المسئول ، البوص ، بعد أن استضافته في منزلها في إحدى الأمسيات ، وأقنعته بكل ما لذ وطاب ، ويقولون أن البوص ، أقصد المحرر المسئول ، أعدت له مائدة دسمة تكفي خمسة أشخاص ، مع زجاجتين من الجن أتلابارا،نيوكس تلبس فستاناً أسود ومنديلاً أسود تلفه حول رقبتها، تعبيراً عن الحداد على زوجها الذي توفي العام الماضي نتيجة مرض غامض، وترك لها ثروة معقولة ، بما في ذلك ثلاثة أبقار، لكن دون أطفال.

قبل وفاة زوجها كانت تتعطر بروائح قوية ونفاذة ، تشع رائحتها لمدى أكثر من ألف متر، لكنها الآن تلف جسمها بالملابس السوداء ولا تستخدم العطور، حداداً على زوجها العزيز.

هذه المرأة تزوجت ثلاث مرات خلال أربع سنوات فقط ، وكل أزواجها خطفهم الموت بعد وقت قصير من الزواج ، وهذا ما جعل الناس يشيعون أن عندها اللومونق. واللوموقون هذا يعني الشؤم ، سوء الحظ ، حسب معتقدات قبيلة البوجولو، وقد يُصيب الرجل أو المرأة. بالنسبة للرجل يظهر في وفاة أي امرأة يتزوجها، وبالنسبة للمرأة يظهر في وفاة أي رجل تتزوجه.

لذلك يرتبط بالشؤم والمصائب والبلاء ، وميزته الوحيدة أن الشخص الذي يتملكه هذا السحر لا يموت بسببه، بل يصيب شريكه الآخر وحرمانه منه بعد الزواج.

إذن صاحبتنا الجميلة مصابة باللونومق، لكن صديقي أوقويتا سام لا يعلم ذلك، ومن جانبي لم أخبره، ليس لأنني أريد أن أوقعه في المصيدة، بل بسبب عجرفته، واستبداده، فهو لا يحترم نصائح أصدقائه، وفي بعض الأحيان يقول أن هؤلاء الأصدقاء يحسدونه في علاقته بتلك الحسناء، نيوكس.

في اليوم الفائت جاء أوقوينا للمكتب في حالة سكر خفيف وهمس في أذني، بتباهي واعتزاز، أنه قضي الليلة الماضية في منزل نيوكس، ولم أحسده على ذلك، قال لي أنها أكرمته بفطور دسم وكوباً من الجن اتلابارا، وعندما ضحك ضحكة مريحة ، فاحت من فمه رائحة بصل كريهة وبيرة تافهة.

قلت له: ‘أخي أوقويتا عليك أن تأخذ حذرك قبل فوات الأوان ، لأنك الآن تلعب بالنار، لكنه أجابني ’’صديقي أنا أريد مصارعة الرجل الذي لا يُقاوم، المحرر المسئول ، أدهشني تهوره’’ ، فقلت له: لكن ذلك قد يكلفك وظيفتك وربما حتى حياتك، فأجابني بسخرية واستفزاز ’’جبناء أنتم جبناء’’.

ومرت أسابيع وأسابيع، وعلاقة أوقيتا تتوطد أكثر وأكثر مع نيوكس. أصبح يكثر من التدخين والشرب وبدأ وضعه يتدهور، بسرعة كبيرة ، وفي يومٍ ما جمعته الصدفة مع البوص ، المحرر المسئول ، في منزل نيوكس، وبعد ذلك مباشرة بدأت علاقتهما تتدهور بشكل متسارع حتى وصلت إلى إيقاف أوقيتا من العمل دون مرتب.

اشتدت مصاعب الحياة على صديقنا أوقيتا ، أوقف عن العمل ولم يستطع الحصول علي وظيفة مؤقتة أخرى تمكنه من إدارة شئونه لذلك أصبح شديد التوتر والانفعال ، كل ما استطاع فعله أنه قام بنسيان كرامته كصحفي، وحمل مراراته والبدء في قطع حطب الوقود وبيعه في السوق حتى يتمكن من توفير ضروريات الحياة ، وفي الجانب الآخر استمرت علاقته مع نيوكس ، لكن بدرجة أقل من الفترة السابقة.

في إحدى الأيام حدث شيء غريب في مباني الصحيفة ، هذا الحدث جعلنا ، المحررون والعمال على السواء، نمسك أنفاسنا ، ونكذب أعيننا ، كان ذلك في منتصف النهار، كنا نقوم بالتشطيبات الأخيرة في طبعة خاصة بعيد الكريسماس، فجأة وصلنا صوت صرخات حادة ومتواصلة دفعتنا للخروج من المكتب لنتحاشى خطر محدق لا نعلمه ، كان الصراخ ينذر بخطر كبير، كأن هناك قنبلة زمنية في مكاتب الصحيفة ستنفجر بعد لحظات ، وعندما اندفعنا للخارج رأينا نيوكس حافية القدمين تجري بعيداً وخلفها رجل مجنون ، يلاحقها بعنف وشراسة، وفي يده سكين حادة جاهزة لغرسها في جسمها ، الرجل المجنون كان يرتدي سويتر أسود وبنطلوناً أبيض.

أخبريني ما هذا؟ ماذا يجري ؟ سالت إحدى البنات المراسلات ، فضحكت ، ثم حاولت ضبط انفعالاتها وقالت: أوقيتا وصديقته نيوكس، أعتقد أن هناك مشكلة بينهما ، مشكلة أسرية ، لكني سألتها: ذلك المجنون هل هو أوقيتا نفسه ؟ سألتها وأنا مذهول ، لا أصدق ما يجري أمامي.. أجابتني ، هو نفسه ليس مجنوناً بل مخموراً.

وفي أثناء حديثنا هذا رأينا نيوكس تجري في طريقها للمكتب ، كانت تبكي ، وجهها امتلأ بالدموع ، والعرق ، كانت تصرخ ، تطلب المساعدة. لكن أوقتيا كان أسرع منها ، وكان يرفع السكين في اليمين استعداداً، لطعنها، كان الأمر بالنسبة لها مسألة حياة أو موت، لا أحد تقدم لمساعدتها العناية الإلهية وحدها هي التي أنقذتها فقد اصطدم أوقتيا بجذع شجرة كبيرة في الطريق ثم خر واقعاً على الأرض. وهنا وجدت نيوكس وقتاً كافياً للوصول لمبني الصحيفة ودخول مكتب المحرر المسئول ، وقفل الباب خلفها مباشرة.

وفي وقت وجيز امتلأ المكان بالناس ، ثم جاء رجال الشرطة ، فقبضوا على أوقيتا وصادروا السكين التي كان يحملها ، نظرت إلى أوقتيا سام بحزن وشفقة وقلت له: صديقي أوقيتا، ماذا حدث؟ كان في حالة يرثي لها ، عيونه تتطاير شرراً ، ووجه وجسمه مبلل بالعرق، بعد برهة أجابني، أريد نيوكس هذه الساحرة نيوكس، فسأله أحد الشرطة: ماذا فعلت لك .. فبدأ صاحبنا يصرخ ويقول: نيوكس أخرجي من مخبأك ، وأعيدي لي شعري إذا كانت ساحرة فمن الذي نصحها بفعل هذا الفعل؟ اليوم وليس غداً سأحطمك.

سألته : أخي أي شعر أخذته منك ؟ لكنه أستمر في صراخه وزعيقه ، نيوكس ساحرة فعلاً الآن فهمت، أنها تقتل الأزواج لا سأقتلها قبل أن تقتلني، هنا انفعل الشرطي وسأله بغضب ’’ماذا حدث بالضبط’’ قال أوقيتا ‘نيوكس حبيبتي أليس كذلك ؟ عاشرتها لأكثر من ستة شهور ، أليس كذلك ؟ كانت علاقتنا طيبة حتى يوم أمس، كنت مخموراً، فنمت في السرير كالجنازة ، أوكي ؟ وعندما استيقظت من النوم في الصباح لم أجد شعر ’’شعري’’ اقسم بالمسيح أزيل كله ، أصبحت شعرتي عارية تماماً… أي امرأة في الأرض تستطيع فعل ذلك إذا لم تكن ساحرة ؟ نيوكس تريد أن تسحرني وعندما سمع الناس، بما في ذلك الشرطة والمحرر المسئول ، البوص ، هذا الكلام صمتوا، كأنما علي رؤوسهم الطير، واحنوا رؤوسهم.. كأنهم أرادوا الصمت دقيقة حزناً علي شعر أوقيتا المفقود.

* كاتب من جنوب السودان

* نُشرت هذه المادة تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تصدره صحيفة الموقف بجنوب السودان.

زر الذهاب إلى الأعلى