ثمارشهادات

ابنٌ شرعي للرمل: مقابلة مع يوسف الماهري

بورتريه/ صلاح أبو الدو
بورتريه/ صلاح أبو الدو

بين الرمل والثلج، بين ذاكرة البدوي وذاكرة المدينة التي سكنته، بمعنى ما، بين رائحة البوادي، بين تشابه الفراغات هنا وهناك، بين الشعر والسرد، نمسك في قبضة واحدة بحنين يوسف عزت الماهري، وهو يسكب اختلاجاته البعيدة بين دفتي كتابه (جقلا/ نشيد الرمل). هكذا يتحدث الماهري:
(فاللغة التي كتبت بها (جقلا) هي من حبر لساني الذي تكوّن من محبرتين المدينة بأم درامينها وفاشرها والرّمل الذي مشت عليه طفولتي، ولدي اعتقاد جازم بأن غالبية المدن التي في ظاهرها نمط لغوي واحد ولكنها في الأصل تجمع بين لغات عدّة لها أصولها في البوادي والقرى).
يوسف عزت الماهري كاتب سوداني مقيم بكندا له العديد من الأنشطة والمشاركات في المنابر الإلكترونية، صدر له عن الدار العالمية كتاب (جقلا/نشيد الرمل) وله كتب أخرى تنتظر دورها في النشر.

*منذ فاتحة النشيد والقارئ مورّط في معاملة نص تتمازج فيه لغة البوادي والحضر بشكل يذيب كل واحدة منهما في الأخرى، إذاً ماذا تتوقع من متلقٍ أدمن الانحباس في نمط لغوي واحد؟
من الصعب بالنسبة لي، التكهن بالكيفية التي يستقبل بها القراء هذه الكتابة. وحسب الاختبارات الأوَّلية، التي قمت بها من خلال إنزالي بعض الفصول في المواقع الإلكترونية؛ أستطيع أن أقول إن المتلقي يحتاج لتوغل مَرِن يشق الدروب بين لغة الرمل والطين، فاللغة التي كتبت بها (جقلا) هي من حبر لساني، الذي تكوّن من محبرتين: المدينة بأم درامينها وفاشرها، والرّمل الذي مشت عليه طفولتي، ولديَّ اعتقاد جازم بأن غالبية المدن التي في ظاهرها نمط لغوي واحد، ولكنها في الأصل تجمع بين لغات عدّة، لها أصولها في البوادي والقرى؛ فمثلاً حين أستمع لأغاني حقيبة أم درمان، أجد الدوبيت، وحتى في أغاني البنات تجد اللغة البدوية، ولكن لا أحد يرد تلك اللغة لأصلها، فالمدن بطبعها تأخذ من الآخرين، ولا تنسب إلا إلى نفسها، فمثلاً أغنية (يا أم روبة)، هي في وصف الناقة، فالبدو يوصفن الناقة بأم روبة، والروبة هي ريش النعام، الذي يوضع في أعلى الهودج “الجُحفَة”. و(جقلا) محاولة للمزواجة بين لغة الرمل والطين، جاءت لتضع لغتها بين الأسوار وتمشي.

*وفق رؤية حاضرة، فإن هناك من يتحدث عن موت الشاعر على غرار موت المؤلف، ثم موت الجمهور, وهناك من يتحدث عن موت الشعر مقابل الحياة المتعافية للرواية, وخفوت صوت الشعر.. فهل يرى الماهري أن الشعر يمكن أن يكون هو بؤرة العالم.. هو خلاص العالم؟
هذا سؤال مركَّب، فمن ناحية موت المؤلف أرى أن النص كائن حي يمشي بمعزل عن إرادة الكاتب، ولكن رغم هذا المشي الذي يبدو طليقاً، فثمة علاقة حبر تربط بين الكاتب ونصه، وقد اختبرنا هذا في حياتنا القارئة، فهنالك نصوص مقطوعة من أشجار كثيرة نقرأها ونتعرف على تفاصيلها دون أن نشعر بنقص معرفتنا بمؤلفها. أما موت الشعر مقابل الحياة المتعافية للرواية، فهذا قول يبدو لي يتآمر لصالح الرواية، ولكن هل هنالك حياة متعافية للرواية من دون شعر؟ الشعر هو العميق في كل الكلام، وهو النواة متى ما أردنا بذر كلام جديد، ليس لنا من تقاوي غير المفردة الشعرية. ذلك ينسحب على كل الفلوات الإبداعية: الرواية، والموسيقى، وحتى الحكي العادي، فبيْن كل كلمتين ثمة تركيب شعري، ويمكنك أن تلمح هذا التركيب حتى في صياغة السؤال الذي أجاوبه لك الآن، فصوت الشعر ليس خافتاً بقدر ما انسرب الشعر إلى حيث موقعه في الحياة، ليكون ملموساً في كل شيء وعصيّاً على المَسِّ، وإذا لم تكن متيقناً من صحة إجابتي، فعليك أن تسحب قصيدة لعاطف خيري مثلاً ،وتقرأها في أواخر ليلك، لتعرف هل بالإمكان تجاوز الشعر أو أن تقرأ كتاب عادل القصاص (لهذا الصمت صليل غيابك)، لترى موقع الشعر داخله، فليس من الممكن تجاوز الشعر بخيار جمالي آخر، إلا أن يكون ذات الخيار، لأن كل الخيارات تستبطن المفردة الشعرية وتذهب بها في مجاهيل إبداعية أخرى سواء كانت رواية أو قصة قصيرة أو أي جنس آخر؛ فالقول بخفوت صوت الشعر مقابل الرواية هو ناتج انتقال مفصلي في الحياة التي نحياها اليوم، مما جعل الشعر ينسرب في السرد أو يتلبس السرد الشعر، فالعصر الذي نعيشه الآن ليس فيه سوق عكاظ واختفى فيه التمجيد الشعري للأشخاص أو العشيرة أو حتى الدولة أو الحزب، أصبح الشعر في مكانه الطبيعي يلملم بعثرتنا ويمنحنا القدرة على السير في فيافي الوجود البعيدة ويلامس الأسئلة الكبيرة، فمنذ بدء الخليقة ظلَّ الشعر هناك. أما فكرة الخلاص، فليس ثمة خلاص لهذا العالم، إلا إذا كنت تقصد، تقْصيد العالم، وهذا حبل سيفتل فيه المبدعون، ولكن ليست له عقدة نهائية.

*الحنين ربما هو ما أحاط بأجواء (جقلا) منذ بدء النشيد، وحتى آخر حرف فيه فهل لنا أن نقول إن (جقلا /نشيد الرمل) كتابٌ للحنين؟
في المقدمة القصيرة التي كتبتها قلت إنني كتبت هذا الكتاب بقلبي، وبذاكرة الرمل البعيد، وكابن شرعي للرمل والدروب البعيدة، أقول ليس للبدويِّ غير الحنين، هذا الحنين للذي لن يكون وليس للماضي الذي كان وليس فيه غير الحنين ذاته، فـ(جقلا.. نشيد الرمل)، هي ليست سيرة ذاتية ولكني كتبتها وأنا غارق في دروب الذاكرة، كتبتها وأنا أرى وأسمع حنين (ألبل)، وأشمُّ رائحة عبثهن، وأسمع أناشيد الخيام البعيدة، تلك التي في مرأى بصري، وربما انسرب حنيني الخاص ليعطي النشيد نكهة الحنين التي أشرت إليها. سمِّه كتاب الحنين، وهل من كتابة سردية لا يخالطها الحنين؟

*في السابق مثلاً كانت للشعر وظيفته، وكونه كلاً منحه الحق في أن يستأثر بتلكم الوظيفة لنفسه، ولكن في ظل التغيرات الكبيرة التي يشهدها العالم حالياً، وفي ظل الانفتاح على الرواية مثلاً، فهل ترى أن الشعر بمقدوره الحفاظ على ذات الوظيفة أم أن هنالك وظائف محتملة؟
لقد أسهبت في إجابتي للسؤال السابق في الحديث عن الشعر، وأنا لا أُقرُّ بأن للشعر في السابق وظيفةً غير أنه شعر، حتى في العصور التي كان فيها الشاعر ناطقاً رسمياً لقبيلته أو مجتمعه كان للشعر استقلاله عن تلك الوظيفة، فالشاعر ينتفع بشعره وربما يتخذ منه وظيفة في المدح أو الهجاء أو التعبير عن وضع اجتماعي محدد، ولكن تلك ليست وظيفة الشعر، فالشعر في كل المجتمعات حتى في الغرب الذي أعيش فيه الآن له وجوده، وهذا الوجود لن ينمحي بظهور الرواية؛ فالناس أينما وُجدوا يوجد معهم شعر، ولذلك تجدني لا أستطيع أن أتحدث عن وظائف محتملة للشعر غير أنه شعر، وكونه شعراً فسيجعله موجوداً بشكل أو آخر، قد يكون داخل السرد كما في كتاب (جقلا)، أو في الغناء ورغم وجود التشكيلي والروائي والقاص والمغني سيكون الشاعر موجوداً ومحتلاً لمكانه وربما يتوسع ذلك المكان، وطالما هنالك ضرورة للحلم والأمل فسيكون للشعر مكانه.

*عوداً على لغة (جقلا) من جديد فهل ترى الماهري أراد من خلالها إعادة إنتاج فكرة الهامش والمركز لتحتمل مضامين جديدة؟
سؤال الهامش والمركز دخل لُجّة غريبة، ومع حدة صراع الهويات في بلادنا وتعقُّد هذا الصراع أصبح من العسير تصنيف من هو المهمش، ومن هو المنتمي للمركز، وهنالك أسئلة كثيرة لم يُجب عليها بعد، على الرغم من المساهمات الجريئة التي تناولت المسألة مثل مساهمة أبكر آدم إسماعيل ومحاولات آخرين غيره، ومن جانبي لم أسعَ لإجابة هذا السؤال من خلال (جقلا)، ولكن كونها كتابة، فلن تخرج من واقعها، وهذا الكتاب هو سليل واقع موجود حتى الآن، وكون الإنسان بدوياً يشرب من السعن ويسكن الخيمة ويستخدم الأدوات البدائية في القرن الحادي والعشرين، ويستخدم لغة غير مدرجة في الوسائل الإعلامية للدولة وغير مفهومة وتزحف عليه المدينة كل يوم بدلوكتها، ولغتها الأمدرمانية؛ هذا وحده يستدعي أن نعيد تعريف الهامش والمركز، وأن نوسع فهمنا للمهمشين تاريخياً وراهناً و(جقلا – نشيد الرمل) ككتاب لا يذهب أبعد، من هذا وربما يتناول الكتاب مسألة الفقر كقدر رباني، ويعالج تحدياتها من خلال أسطورة البادية التي ترى في الفقير (جِلِّيد) بمعنى مصاب بلعنة، ولكن الكتاب يلمس هذه الأشياء من بعيد دون أن يتورط في احتمالاتها، وهذا متروك للقراءة، ولغة (جقلا) قد تنسب للمركز أو الهامش حسب موقع الملتقي من هذا الصراع.

*النوق – الإبل – حظيت في النص بما يكفيها من غزل، ليس كما بقية العناصر الأخرى والتي هي ربما معينات ليس إلا؛ تُرى لماذا الغزل في الناقة / جقلا؟ أو لم يكُ ممكناً للنص أن يحاور الطبيعة في براءتها دون خصوصية لفرد فيها؟
يا صديقي، أنت من بيئة مشابهة، فالناقة ليست فرداً في تلك الطبيعة، وتخيَّل معي أن نقوم بسحب الناقة من دنيا البدوي، هل سيبقى في ذلك العالم أيُّ شيء آخر بما في ذلك الطبيعة؟ والطبيعة دون الناقة لن تُعاش، وسينهار ذلك العالم كله بمجرد اختفاء الناقة – جقلا، فأمامك الانهيار الرهيب لبادية شمال كردفان في الثمانينيات، وأنا رأيت هؤلاء الناس قبل الجفاف، وأعرف تفاصيل حياتهم، وكيف حوَّلهم فقد الناقة بين خريفيْن إلى مهمشين في أطراف أم درمان ونازحين يعانون مذلة الفقر، وتلك مذلّة لا يعرف طعمها إلا من عايشها، وإذا رأيت هؤلاء الناس قبل الجفاف وبعده لعرفت أن عالم البدوي ليس فيه شيء غير الناقة. والغناء الذي كسى النص من أوله لآخره يؤكد على مركزية الناقة في هذا العالم، الذي يدور فيه السرد. وكان بالإمكان أن يحاور النص آي الطبيعة، ولكن ذلك سيكون نصاً آخرَ يحاور طبيعة أخرى، غير عالم الحردال والريلة، فالناقة ليست ناقة فقط، هي المال بشكل عام، هي العربية والبيت، هي الخزنة لدى التاجر والحبر لدى الكاتب، هي كل شيء.. في الدنيا، وكما ترى فدنيا البدوي ناقة ولا يوجد شيء غيرها، ولولاها لما استطعت أن أذهب مع الحردال لبحور الصعيد ولا لدار الريح، ولما التقيت معه بنات الشنابلة ورّادات بير الغريب، فالناقة هي سبب الحياة في هذه الدنيا، وكما ستقرأ قول عم الحردال “الدنيا بدون الناقة والنسوان عطش وجوع ساكت!”، فدنيا البدوي كلها تدور في خُفِّ الناقة وهذا قدر لا فكاك منه.

*الماهري سارداً، يبدو ذلك بوضوح حتى من خلال النشيد( جقلا/نشيد الرمل) فإلى أي مدىً استطاع الشعر والسرد عند الماهري العبور معاً؟
لقد قلت في تصنيفي لهذا الكتاب إنه نص سردي، وأنا غير غافل عن المساحة التي يحتلها الشعر فيه، ولكن أنا أسرد وكأني جالس أمام البيوت – الخيام، وحولي مجموعة من أهل البيوت والأطفال في جلسة الضحوية (أم زِهْرَيِّيه) أو في جلسة العلاّلة المسائية، مثلما جلست في بدايات السّمع لشيوخ وجدّات في البوادي البعيدة، وحين أجلس تلك الجلسة الحاكية الآن لا يمكنني أن لا أزاوج بين السرد والشعر، فتلك شيمة أهل الرمل، لا يخرج الحكي عن قوالب الشعر ولا يخرج الشعر من قالب السرد، ولذلك هذا النشيد هو ابن الرمل بكل ما فيه من سرد وغناء، ولا يمكن أن يتخلَّف أحدهما عن الآخر وإلا لأصبح العبور مستحيلاً، فالناس هناك (حكَّايين وغنَّايين)، فبيئة هذا النص لا يمكن احتمال الحكي الجاف فيها، فالسرد في البيئة البدوية التي أنتمي إليها دائماً مختلط بالشعر، فنحن حين كنا صغاراً نجلس لنستمع لحكاوي الكبار وهم يربطون حكيهم بالشعر، وصاياهم توصل إلينا محمّلة في قلب نشيد، سلامهم للبوادي البعيدة يكون شعراً، أمثالهم في الجوديات الكبيرة تكون بالشعر، ويدونون تاريخهم شعراً، وأنا ابن بيئتي سرداً وشعراً وهذا كتابي.

*ربما نعتقد جميعنا، بأن النص يكتسب حياته كلية من علاقته بالمتلقي وليست مجرد الكتابة تكفي لأن يكون النص قادراً على الصمود، بذا ماذا تتوقع لـ(جقلا) بعد تحوله لنص لأيدي قارئيه؟ أعنى ما درجة الصمود التي تتوقعها لـ(جقلا)؟
هذا سؤال عويص، لأنه يستنهض مخاوف مشروعة، فهو كتابي الأول وترددت كثيراً في نشره ككتاب أول في تجربتي، ولكن لعلاقة خاصة بهذا النص أغمضت عينيَّ ورميته ليذهب بعيداً عني، ويدي تحاول أن تعيده مرّة أخرى بلا جدوى، ويذكرني موقفي هذا بموقف ذلك الشخص من دارفور في زمن السلطنة الذي رأى أرنباً في الخلاء وحاول اصطيادها بـ(السفروق) وحين أطلق السفروق من يده قاصداً الأرنب فإذا به يرى موكب السلطان علي دينار أمامه وقد خرج السفروق تجاهه، وتستطيع أن تعرف احتمالات تلك اللحظة المتعددة، وتعرف مصير الصائد إذا استقرَّ السفروق في رأس السلطان، وهذا حالي الآن، وأتوقع أن تستقر (جقلا) وتجد مكاناً وسط كم الكتابة الإبداعية وخصوصاً السرد السوداني، الذي وصل مرحلة متقدمة وهو مرتكز على أساس متين. ومهما كان مردود هذا الكتاب؛ فلن يؤثر على التجربة، وسأدفع للمكتبة بمجموعتي القصصية الأولى قريباً، ولا توجد ضمانات، والرهان على السير في دروب (جقلا) وتطويلها وليس في الاهتمام بأين ستقف وماذا تحقق، فالسفروق قد خرج من اليد ولا سبيل للإمساك به حتى وإن خلع عِمَامة السلطان أو رأسه.

*كتابة المكان في غيبته، أعني إنتاج كتابة تعبِّر عن مكان ما أو حالة موجودة في مكان، هو ليس ذات الذي أنتجت فيه كما حدث لـ(جقلا) مثلاً؛ فهي كتابة صحراء دارفور في كندا، هل يمكن أن نقول إن الغُربة هي التي أهدتك قدرة النظر إلى مكانك المألوف بعين الاكتشاف الجديد؟
كما قلت في إجابتي على سؤال الحنين، إن الدخول في عوالم (جقلا) تم بحبر القلب، ولكن أنا عِشْتُ الغربة كحالة ملازمة لي منذ الصغر، عشت الانتظار الذي لا رجاء فيه، ولذلك حملت صحرائي في كل المدن قبل الوصول لكندا، وقد كتبت في المقدمة القصيرة إنني أعود لباديتي من خلال الورق، بعد أن أدركت أنْ لا عودة أخرى لأن المكان ذاته احترق، ولم تعد ملامحه كما كانت في الحكي ولا في الحقيقة، فقد فارقت البادية صغيراً لظروف الجفاف وهجرة الإبل إلى جنوب دارفور في عام 1982، واستقرَّت أُسرتي بشكل مؤقت في مدينة كتم بشمال دارفور، ريثما تنتهي سنين الجفاف ونعود للسافل، وكلما مرَّ عام نتقدم نحن في الدراسة، وكلما تقدمنا في الدراسة تتمسك بنا المدينة أكثر، حتى أصبحت البادية بعيدةً، ورغم ذلك ظللنا نعيش على حافة المدينة وفي حالة انتظار لأن تغشانا باديتنا ونرحل، وحتى هذه اللحظة نحن بدو نحلم بتلك العودة! وفي عزِّ ثلوج المكان الجديد ظل القلب برمله وحنينه. تفتق ذلك الحنين ذات يوم وأنا أتمشى في تلال الأمكنة، رأيت الناقة ورأيت الحردال، وأستطيع أن أقول إن الغربة أهدتني الحنين الذي يكفي لإكمال الكتاب وأجزائه الأخرى، وأهدتني فرصة الخروج من أسوار المدن التي كادت أن تمحو الندوة البدوية من جبهتي.

*هل للكاتب أن يعمل خارج منظومة الكتابة، أعني هل يمكن للكتابة أن تكون مهنة للمعيش تكفي الكاتبين محنة البحث عن مصدر للعيش خارج الكتابة؟
في بلاد كالسودان هذا غير ممكن، فالكاتب في السودان يعيش على الكفاف ولا تعرف بلادنا تفريغ الكاتب للكتابة، بل تتوجس من ذلك الزمن المسروق الذي يتاح له لإنتاج كتابة ما أو إبداع ما، وأمامنا تجارب عدّة للإهمال الذي يجده الكاتب وحتى إمكانية الحصول على مهنة خارج الكتابة غير متوفرة، إلا بشروط مذلّة للكاتب وعلى حساب إنتاجه، وقد عايشنا تجارب الكتاب الذين اختاروا خيار التعايش مع الأذى، والذي أدى لنتيجتين: إما فقدان الكاتب لذاته؛ أو إقلاع البعض من أول الطريق، وبحثوا عن خيارات أخرى المنفى أولها. فمثلاً في بلاد مثل كندا تتبنَّى بعض المؤسسات الكاتب وترعاه وتحفظ له الدولة حقوقه الأدبية والمادية، ويعيش في ظروف تسمح له بممارسة إبداعه وتشجعه. وقبل كل ذلك الكاتب له احترامه وحصانته، وهي حصانة ليست للكاتب، ولكن للإبداع. ودولة لا تمنح مبدعيها الحصانة والعيش الكريم (حينشف عودها).

*ربما نتفق في أن الكاتب ليس مطالباً بتفسير النص ذلك كون الشرح ربما لأفسد النص وأضر به، ولكن في حال (جقلا) أليس الشرح أو الحاشية التي يمكن أن تضع تفسيراً لهذا النص ضرورية؟
اللغة تحدتني في (جقلا)، وهذا السؤال طرح من عدة أشخاص، وحاولت أن أضيف بعض الهوامش، ولكني وجدت أنني بحاجة لكتاب آخر لشرح هذا الكتاب، وصرفت النظر عن مسألة الشرح لأنها غير ممكنة في حالة (جقلا)، وأعطيت القارئ خيارات كلها ممكنة في المقدمة، وأعتقد أن كتاب (جقلا) كتبته بطريقة يشرح فيها كل فصل الفصل الذي قبله. ولذلك إذا صبر القارئ حتى الفصل الثالث، فلن يحتاج لأي هامش لاستيعاب النص. كانت هنالك اقتراحات بإنتاج هذا العمل في قرص مدمج “سي دي”، ولكن نسبة لظروف كثيرة منها الغياب والإمكانيات لم تُنفَّذ الفكرة، ولا أرى أن مسألة الشرح مزعجة لتلك الدرجة، فأنا قرأت وسمعت شعر لحميّد مثلاً قبل أن أتعرَّف على لهجة الشايقية، واستوعبت معظم الكلمات بدون شروح ومن خلال المعني الكلي للنص، وأعتقد أن (جقلا) لم تكتب بتلك اللغة العويصة في العربية السودانية، وقد لا تقرأ الكلمات كما تنطق ولكن لن يضيع المعنى، ولذلك أرى أن التخوف ربما يكون أن اللغة قد تكون غير سلسلة في القراءة مما يضع احتمالاً بأن يتوقف القارئ عن إكمال الكتاب.

*من هو القارئ؟ أهو المتلقي أم المبدع نفسه؟
كلنا قراء بشكل أو آخر، والقارئ مبدع النص الحقيقي، نتبادل الأدوار حسب الحالة، فأنا شخصياً لم أصنِّف نفسي في زمرة الكتّاب، وفي كثير من الأحيان أشعر بأني أكتب لي أوَّلاً، ولذلك كنت غير ميالٍ لمسألة النشر إلا بعد أن أخذت النصوص حيزاً في المكان، أعتقد أن القارئ متلقٍّ ومبدعٌ بشكل أو آخر لكتابتنا. ففي حالة تكلُّف عناء النشر والاهتمام بالتجويد وما يرافق العملية كلها لتقديم الكتاب للمكتبات، يكون القارئ فاعل بشكل أو آخر ومساهم في المسألة، لأنه دوماً في بال الكاتب، وقد يبدو الكاتب في هذه الحالة مجرد مهيِّئ لمسرح القراءة. والمبدع الحقيقي هو المتلقي. فقط فكر معي في السؤال لماذا ننشر ما نكتب أو نقيم معرضاً للوحات فنية أو نقيم منتدى لقراءة الشعر؟ كل هذا لأن هنالك هذا المدعو بالمتلقي، نحن نعمل له ولكننا قد نرى في المتلقي شخصاً نتميز عليه بصفة الإبداع، ولكن إذا نظرت للمسألة من جانب آخر تجد أن المتلقي هو مبدع المُبدع.

*النقد لماذا؟ هل لمحاكمة النص أم لإضاءة النص؟ أم أنه إعادة لكتابة النص؟
النقد لإضاءة الجوانب المعتمة في النص، قراءة متمكنة لمكنون النص، وليس للمحاكمة، فالنص ليس مُتَّهماً من قِبَل أي أحد، وغالباً بعض النُقّاد الذين يجنحون لمحاكمة النصوص تجدهم يضمرون شيئاً للكاتب، ولا يقرأون النص بمعزل عن أغراض أخرى، وهنالك نقاد آخرون يدخل عوالم النص لينتج نصاً ينهض من بين المنتج المراد نقده ويؤسس وجوده المستقل، هنالك كتابات نقدية تحقق متعة أكبر من تلك التي يحققها النص، ذلك نص قائم بذاته ربما يربطه بالنص الأصلي الغرض، ولكن دعني في هذه الفرصة أن أشير إلى مشهد النقد في الساحة الثقافية اليوم: هنالك غياب للنقد ومعظم الكتابات تنشر دون أن تجد حظها في النقد ويطويها النسيان، هنالك حلول لهذه المسألة.

ــــــــ
نشرت بالملف الثقافي لصحيفة الأحداث (تخوم) – 2008

 

* شاعر ومترجم من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى