ثمار

أبو ذكرى.. هو لا يريد الموت رغماً عنه

أبو ذكرى يتوسط كمال الجزولي وجيلي عبد الرحمن 1971 موسكو
أبو ذكرى يتوسط كمال الجزولي وجيلي عبد الرحمن 1971 موسكو- من كتاب: (أبو ذكرى.. نهاية العالم خلف النافذة) – كمال الجزولي

(سيجيء الموت
وستكون له عيناكِ
هذا الموت الذي يرافقنا
من الصباح إلى المساء،
أرِقاً، أصمّ
كحسرةٍ عتيقة
أو رذيلة بلا جدوى
ستكون عيناك حينئذ
كلمات قيلت سدىً،
صرخةً مكتومةً، صمتاً، ستكونان،
مثلما تراءيان لكِ كل صباح
حين تنحنين على ذاتك
في المرآة.
في ذلك اليوم يا أملاً غالياً، نحن أيضاً سوف نعرف
أن الحياة أنتِ وأنكِ العدم.
 
يرتدي الموت نظرةً
لكل منا:
سيجيء الموت
وستكون له عيناكِ
سيكون له طعم التخلي عن رذيلة،
سوف يشبه رؤية وجهٍ مضى
ينبثق من المرآة،
 كما الإنصات إلى شفة مضمومة سيكون.
آنذاك
سوف ننزل إلى الهاوية بسكون)*

عبد الرحيم أحمد عبد الرحيم الذي عرف في الناس باسمه الأدبي “أبو ذكرى” واشتهر به. لكننا نكون في حسرتيْن كبيرتيْن، إذ نتذكر أبو ذكرى، حسرات الغمام اللطيف، وهو يرحل في البياض الذي راوده عن نفسه وتُوغل في رؤاه حسرتان، إذن: رؤيا الشعر التي صاحبته في كمونها، في حرزه الشخصي فيهدهدها لتهدأ فتكون في دواخله مسّاً خفيفاً وشذراتٍ تبزغ بخجل العذراوات وخفرهن في غفلة منه، أو هو – بالأحرى – يفلتها بغتة من بين يديه ولا حيلة له في انفلاتها وتحليقها في جموحها المجنون، وهي الجموحة عاشقة العنفوان والطلوع. لو لم يوقفها برحيله الذي أجراه بنفسه؛ لكانت لا شك إحدى أميرات شعرنا الجميلات. أما حسرتنا الثانية إليه، فقد وضع حدَّاً مؤلماً لمسار أكاديمي نابه في الترجمة والكتابة الثقافية، أوقف، بيده أيضاً، تلك الشعلة التي أوقد نورها بيديه القادرتين وعقله الذكي، فانطفأ ضوءها برحيله الذي اختار له أن يكون لغزاً غامضاً ومحرقاً في الناس! من المعلوم عن أبو ذكرى ولعه في طلب الحرية، بل والنضال من أجلها، يفعل ذلك في حدود وجوده الذاتي، وإن كان قد سار أحيانا إلى خارجه. والحرية لا تتحقق بالذات وحدها، وإنما يكون تحقيقها بالآخرين؛ فإن لم يكونوا حضوراً مسانداً لأجلها، تصبح حريتنا جدباً وفقداً ومأساةً. لست هنا في مقام أن أبرِّر انتحاره، ولا أن أشجبه، لكنني أسعى لأفسّره على ضوء لحظات الشعر التي كانت دائماً في رفقة ذلك القلب النابه الذكي.
أبو ذكرى ولد العام 1943 بقرية تنقاسي السوق بمركز مروي في الشمالية، لكنه بسبب تنقل أسرته، دَرَسَ الأولية والوسطى في كوستي، والثانوي في خور طقت، ومنها التحق بكلية الآداب جامعة الخرطوم، لكنه تركها ليلتحق بجامعة الصداقة في موسكو أيام الاتحاد السوفيتي العظيم، وتخرج فيها بماجستير في اللغة الروسية وآدابها، وكان قد سبق ونال دبلوم الترجمة بين الروسية والعربية العام 1971. ثم ما لبث أن عاد ليعمل أستاذاً غير متفرِّغ بكلية الآداب جامعة الخرطوم، وعمل – في ذات الوقت – سكرتيراً للتحرير ومشرفاً على “مجلة الثقافة السودانية ” 67 – 1978، وكانت “دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر” قد أصدرت له العام 1973 الطبعة الأولى لديوان شعره الوحيد “الرحيل في الليل”. ومن بعد، في عام 2001 قامت “دار عزة” بإصدار الطبعة الثانية للديوان. نال، من بعد، درجة الدكتوراه في فقه اللغة عام 1987 من أكاديمية العلوم في موسكو، في 5 نوفمبر 1989، ألقى بنفسه من مبنى الأكاديمية في موسكو، ليلقى مصرعه متشظّياً على الرصيف!
يقع ديوان أبو ذكرى في 67 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على 31 قصيدة كلها بلا استثناء كتبت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، خمس فقط من قصائد الديوان غير مؤرخة، أما أحدثها كتابة، بحسب الديوان في طبعته الثانية، فقد كانت في العام 1973. والغريب في أمرها أمران: الأول أنه جعل لها عنوانا صادماً “الرسو في كوكب الظلام”، فمن غرائب أبو ذكرى أن يجعل مرساه في كوكب ليس على الأرض، وأن يكون ذلك الكوكب كوكباً للظلام لا للشروق ولا للضوء؛ أما الثاني فقد جعل القصيدة تُفصح عن هواجسه ولما يراه من حوله، تلك الرؤى التي تقلّبت إليها شتى التأويلات في ما بين “فضائياته” التي قال بها بشرى الفاضل، وتلك التي تقصّاها كمال الجزولي في كتابته البديعة عنه “نهاية العالم خلف النافذة”. يقول كمال: (… لقد ظل أبو ذكرى مشدوداً دائماً، وبقوة روحية هائلة، إلي الأعالي بكل ما فيها وما يحيط بها من مفردات ومعانٍ، إلى السماوات والكواكب والفضاءات اللامحدودة التي كانت تشكل لديه المعادل الموضوعي للانعتاق، أو حلم الوجود المغاير الذي عاش يتحرّق توقاً إليه.) *… وشيء مثل ذلك قال به بشرى وآخرون كثر مستندين في رؤاهم على تلك الإشارات اللوامع في ثنايا قصيدته، في ما قالوه، لا شك، بعض كثير من الحق، لكنه ليس الحق كله في شأن مأساة رحيله وشعره. وللحق، فقد أعجبتني إشارة الجزولي في تقصيه حين ذكر: (…عانى باكراً سلسلة انهيارات عصبية وحالات اكتئاب وإرهاقاً، وكانت صحّته ضعيفة هشة)*، ليت كمالاً سار خطوات في تقصّيه حول حالته الذهنية والصِّحية، لكنّا قد حظينا بأسباب تتعلق بمزاجه الشخصي وذهنيته التي بدأت تختل عنه وتتفكك عراها رويداً رويداً. فقد تراءى لي أن هناك مرحلتيْن، أو قل – إن شئت الدقة – حياتيْن تتجليان في مجموعة شعره التي بين أيدينا: الأولي في الستينيات؛ والأخرى في السبعينيات، وبينهما ذلك التصاعد الحلزوني في تواتره الغريب، وهو يأخذه من عنقه، رويداً رويداً إلى مصيره الفاجع!
يقول، مثلاً، في فترته الأولى في قصيدة “صباحية”* بتفاؤل وحب وإشراق:
(أضاء النور نافذتي صباح اليوم
 ودفق ماءه النوري والبلور تحت الباب
 فلم يلمح بأروقتي سوى تنهيدة الأشواق
 ويبصرني أحدق في الشبابيك التي تصحو
 لأسمع ثرثرات الناس حول موائد الإفطار…
 هنيهتها أحس بلذة الدنيا،
 تغلغل في ضلوعي ثرة حلوة
 ومن فرحي…
 أكاد أعانق البصات والأسفلت
 وأسبح في اخضرار شجيرة تنمو
 أمام البيت،
 وأغرق في ندى عيني
 فتاة حلوة العينين)…

كتبها في يناير 1964، فتأملوا هذا الإشراق النوراني، كيف أضاء إليه نافذته حين اندلق إليه بمائه النوري والبلور. وكان هو في أشواق عظيمة تأخذه إلى حواف شبابيك بسطاء الناس وعتبات منازلهم، وكيف أن لذائذ الدنيا تصبح في مواجده وأحاسيسه، يحس لها فرحاً وحلاوةً، حد يرغب في معانقة البصات والإسفلت، ويسبح في اخضرار الشجيرات في نموها وحياتها المزهرة، يسقط كامل لذته وفرحه أيضاً في الندى الذي يراه في عيني فتاة حلوة، قصيدة رشيقة فرحة تشي ببهجة الحياة، لكأنه كان يطالع قواعد العشق التي قال بها الرومي جلال الدين. كان وقتذاك مقبلاً على الحياة، غامراً عواطفه في مواجدها، يحسها في قلبه وجسده ويعيشها رؤى مشرقة وبهيجة في الشعر، بل نراه – تلك الفترة – يستزيدها ليجعلها وجهاً جميلاً في قصيدته وفي حياته. وفي ظني أنه لم يعرف وقتذاك اضطراباً أو تشظياً في رؤيته، ولا في يوميات حياته المهنية، كان مقبلاً على الحياة، لم يعش ذلك الاحتدام العنيف الذي قال به إيريك فروم موجباً للانتحار: الصراع بين الداخل والخارج، وعدم الالتفات للعوامل الحضارية الاجتماعية. فقد كان أبو ذكرى في تفاؤله من الحياة ورائياً نابهاً لتجلياتها وتداعياتها في ازدهارها، وعينه على المستقبل، على الغد الذي سيأتي بهيّاً جميلاً إن كُنَّا فيه عاملين عليه في نهوضه المأمول. دعونا نقرأ الآن ونتأملها “فتاة المطر”*، تلك الشذرة البديعة في تجليات رؤاه الشعرية، كيف كان قلبه يفيض بعذوبة الحياة وفتنتها، كتبها في الفترة البهيجة من حياته عام 1964:
(لما تحولت إلى المكان
 توهجت فجأة منائر النيون
 وخارج المقهى توقف المطر
 توقف الحديث…
 تجمد البراد في منتصف الطريق للأكواب
 وفي السكون فرقعت زجاجة على البلاط
 فالتفَتَ النادل ثم تسمرت عيونه،
 صبية!
 الله لي…
 الله يحفظ العيون المزهرة
 الله يحفظ الجدائل المنهمرة
 هذا الجمال والشباب،
 بارك الذي خلق!
 وانحدرت في الليل هذه العيون
 تشقق السكون في المكان
 فاندفع الرواد تحت الخصل المسترسلة
 واضَّجعوا على عبير ثوبها المبتل بالمطر.
………
 ما هكذا… ما هكذا!
 تكاد تجرح العيون رمشها المحتار
 وشعرها الذي أتى ليستريح
 من بكاء الريح والأمطار.
 فوجئ أن الريح ها هنا…
 وها هنا الأمطار:
 الريح في المقهى تهبُّ من كل اتجاه
 يحميك رافع السماء يا هذا السنا التياه!
 الله لك!
 هذه العيون عن تحسس الدفء
 تكاد تذهلك!
………
 وانسحبت إلى المطر
 فانهمر السكون
 دقيقة…
 والآن،
 عاد للمقهى الضجيج والغبار
 فمسح النادل حبات من العرق،
 وعاد يجمع الزجاجة المهشمة…
 وانتبه البراد من ذهوله،
 فعاد يسكب الشايات
 في الأكواب
 وخارج المكان،
انهمر المطر!)…

قصدت من وراء إيرادي للقصيدة كاملة، أن نرى ما فيها من ملامح سويَّة جميلة في جسدها، وتلك القلائد التي علقت بلطف رقيق على جيدها فبدت صبية عفية تفيض عذوبة وفتنة، ضفائرها مفكوكة ومشرعة للريح والمطر، وهي تطل على المقهى، وكيف قد غدا بهيَّاً في حضرتها، وهنا بالذات نستطيع أن نرى كيف كان “مؤمناً” بخشوع وتبتل عميق، وهو يبتهل لله أن يحمي ويصون ذلك “السنا التياه”، وهو في انسراحه البهي على الناس والأشياء والمكان، نشوة تفيض فتجلل رؤياه بجمالها. ولاحظوا ذلك الحوار اللطيف بين الريح والمطر وخصلات شعرها، بينها ودفء العيون التي “تكاد تذهلك”، بينه والسكون إذ يغدو ضجيجاً حبيباً بالحياة وهي تتجلى في الناس، بينه والبراد والأكواب، ولفرط انبهارها تتراقص حد تسقط وتتهشم جراء فيوضات مواجدها مثلما الفراشات تتحرق في اللهيب توجداً، وكيف سرعان ما عاد البراد من ذهوله “يسكب الشايات في الأكواب”، و… المطر في انهماره يضفي على المشهد كله نداه وحيويته ويبلله. لحظة عشق مزهرة ولوحة ملونة راقصة تشي بعشق للحياة وجمالياتها، للناس وللمكان وللحبيبة، تلك بعضٌ من ملامح شعره في ذلك الزمان الجميل من حياته الخصبة القصيرة. أرغب جداً، وأظنني أقول بضرورة أن نرى أبو ذكرى إبان حياته، على ضوء شعره الجميل الذي كتب لأجل الحياة وفرحها، لا في تلك العتمات التي شرعت تكسب شعره تهويمات سوداء تنفلت من بين أيدي الحياة ومهادها إلى حيث لا نبلغه ولا نطاله إلا بالموت! اللغة عنده حرة، منطلقة لكنها مطهمة، سهلة القياد، سهلة في سعيها وسهلة في مآلاتها، أعني أنها بسيطة بعيدة عن التركيب والتعقيد والغموض، الذي كان سائداً في قصيدة ذلك الزمان، فعلى الرغم من قدرته اللغوية والشعورية، فقد ابتعد بقصيدته عن تلك المزالق، فظلت رشيقة وراقصة. العام 1966 كانت قد بدأت تطل على الأفق نذر ذلك الذي سيأتي فيذهب بالديمقراطية التي لم تدم إلا أربعة أعوام، ستصبح ستةً حين يغتالها الانقلاب العسكري للسفاح نميري وزمرته… كانت الضوضاء قد شرعت في صليلها وفي طنينها على قول محجوب شريف “صه يا طنين البلبلة” *. أبو ذكرى لم يَفُتْهُ سماع ذلك الطنين، وكان يرى مقدار البلبلة، فكتب مطولته “بكائية في الضوضاء”*؛ لكنه لم يكن بكاءً كما يشي به العنوان المخادع، بل هو نداء وراية ونشيد جميل للنهوض وللمسير، يقول في بعضها:

(لم تعرفي يوماً سوى الحالم والبهيج
 فشاهدي وجهي يستقر في العجز وفي الشجن.
 ولو جلست للراحة فوق صدرك المريح،
 إذن تحركين بالأصابع الحلوة قاع رغبتي
 وتفتحين في كل طريق هُوَّتيْن
 وتُطفئين أينما نظرت شعلتيْن
 عندئذ تحملني الرغبة فوق البحر والخليج
 أبقى هناك عاشقاً أدخِّن الحُبّ…
 وألعن الزمن،
 وتغلقين عينيك فلا يبلغني الضجيج!)…

هكذا، بهذا القدر العالي من الوعي، ومن أعماق الحب الذي يداخله، نجده يكون في ذات ذلك “الحالم والبهيج”، الذي تحبُّه هي ويكون فيه هو أيضاً، ولفرط غبطته يدعوها لتراه كيف استقرّ وجهه منها في الخصر، وفي الشجن الذي غمره، ثم يرتاح على صدرها، ثم راح يصوِّر – بلغة العاشق ومواجده – كيف تتحرك أعماق رغائبه جراء ملامسة أصابعها، تفتح إليه فوهات وثغرات في طريقهما ثم تغلقها وتطفئ ما اشتعل، فلعلّه يكون الحريق هنا فتطفئه ليسري إلى حيث البحر، حيث الماء مطهر في الزمن الرديء، وتكف عنه بعينيها الضجيج فلا يبلغه! أكاد أراه هنا، في هذه البرهة من حياته، منغمساً وخائضاً في بلبال قضايا الوطن، وفي قضايا الحب والنضال، ففي القصيدة تأمل عميق في أحوال الفقراء، في معاشهم الفقير ومصائرهم البائسة، وتحسرات محرقات لحالهم، حد “جلد الذات” وسب الخانعين القاعدين عن نصرتهم، تماماً مثلما فعل الجواهري حين استلّ سياطه يلهب ظهورهم بها ووجوههم. أبو ذكرى كان وقتذاك في قلب ذلك الوهج والعنفوان، يمضي فيقول في ذات القصيدة:

(… في حين يذوي الفقراء
 وتشهر الفاقة غداراتها السوداء
 تسقي الشحم والراحة
 من دماء… ودماء
 في حين في أرواحنا تزدهر المهانة
 عندئذ، فلا…
 سوى البكاء البكاء
 ولو ضحكنا…
 فهنا الخيانة!)…

لكأن مقولة إيريك فروم قد تجلت هنا، فنراه في صف الفقراء، في “صف الجوع الكافر / فالجوع أبو الكفار” علي قول مظفر. ظلّ إبان تلك الفترة قريباً، بفكره وبعواطفه، لنبض أمته وقضايا وطنه، لم يكن هائماً في الأعالي ولم تتلبسه أي تهويمات بعيداً عن القيم التي ظلت في ضميره، لهذا ظل شعره تلك الفترة يلامس ويعايش قضايا الناس البسطاء الذين يحبهم ويُدخلهم إلى حديقة شعره فينادمهم ويسامرهم، يقول في قصيدة “حب الفقراء”*:

(يا أنت!
 إذا يوماً جئت إذن لمضيت
 ففرشت الساحة،
 فرقت البشري
 ورششت الديوان
 ووقفت أطل من الشباك
 تؤرقني عينان
 عينان أحس خلالهما فرح الزراع
إذا طاب الموسم…
وندى الأشجار وفقفقة الأنهار
 لونهما الزيتوني يذكرني بالبيت،
 وأوقات الشاي…
 بصباح العيد
 بشتلات “الزونيا”،
 وخلاوي القرآن.
………
وأفراحي،
لو كانت هذي الدنيا ملك ذراعي
 لو أن جنود سليمان المردة ما زالوا أحياء
 لأمرت كريمة أن تترصدني بتلال (القُنديلة) الرطب
 لجلبت العاج وأخشاب الزان
 وأمرت الكنداكات أن تأتي بأساطير العهد المروي
 وفجرت عيون الماء ليغسلنا تيار الماء
 فأصوغ قلادة شوق…
أنظمها شعراً في الوجه القمري.)…

هل رأيتم كيف كان أبو ذكرى إبان تلك المرحلة الزمنية من حياته وشعره محتشداً بالحياة في تجلياتها التي تسعى بين الناس؟ وكيف كان هو نفسه محتشداً بحياة الناس البسطاء من حوله، يحملهم – بكل تناقضات وصراعاتهم الضارية مع قسوة الحياة – إلى ضفاف قصيدته؟ ذلك المنحي ذو الجدوى النبيلة هو ما جعلني – لأجل أبرازه في وجهه بالذات – كثير الإلحاح في عرض نماذج من قصائد تلك الفترة المُهمَّة من حياته، فهي – في ظني – لم تنلْ اهتماماً نقدياً جادّاً بها بعد، فقد رأيتم جل الكتابات ظلت تهطل تراوح في تلك الدائرة السوداء التي أخذت به إلى الفاجعة، بل غنني أظن أنه لو انتبه إليه الناس في بدء مرحلته الثانية، أي منذ بدايات السبعينيات لربما كان بمقدورهم أن يبعدوه عن ذلك المصير الفاجع.. تماماً مثلما حدث لبهنس، فقد نهضت إليه المراثي والحسرات والندب والبكاء بعد رحيله المؤلم، بينما كانوا لا يبالون به وهو يسير حثيثاً صوب مصيره الفاجع، ترى، هل الفواجع وحدها هي التي تستوجب البكاء والحسرات وجلد الذات؟ عند النظر إلى قصيدته وإلى الشعر، لست أجدني من أولئك الذين يطبقون نهجاً بعينه على جميع النصوص الشعرية ويجعلون لذلك اسماً يروّجونه… لكنني أرى أن النصوص في ذاتها أغنى وأعمق بكثير من المناهج أيّاً كانت وجهتها. فالمنهج “الجديد”، في ظني، لا يولد ولا يوجد أصلاً إلا بسبب من ذلك النص الشعري الجديد نفسه ويحضّنا إليه، إلى نفسه هو بالذات… فكل قصيدة، وفق هذا المنظور، تحتاج منهجاً خاصاً بها وحدها دون سائر النصوص، منهجها هي بالذات لا سواها.
هكذا نظرت إلى قصائد الستينيات لدى أبو ذكرى، وبذات العين إلى مرحلته الثانية “السوداء”، ولكلٍّ منهما وجهها وسماتها وملامحها التي تخصّها هي دون سائر شعره، وأكاد أرى نقيضاً بينهما لا تخطئه تلك العين، أبداً لا يتشابهان، لا في اللغة، ولا في الصور، ولا في دلالة المعني. 15 قصيدة هي جملة أشعاره المزهرة طوال فترة الستينيات، وفي السوداء التي طوال السبعينيات 11 قصيدة. أما قصائده غير المؤرخة فهي خمس فقط، كما ذكرنا، وهي تشي بأنها تحسب في الفترة المزهرة. استناداً إلى هذا الفهم يمكننا القول باطمئنان كثير إن عوالم أبو ذكرى الشعرية، هي عوالم المثقف الذي لديه انتماء فكري لصالح الديمقراطية والتقدم والحرية، لكننا – للأسف العميق – نراه أحياناً كثيرة متردِّداً في المشاركة النضالية بكامل قدراته الذهنية والجسدية والشعرية، فنراه وعلى ما عليه من تلك الحال يكثر من التساؤل… يحلم ويهجس، يحلم ويرتعب ويتأسّى، فيحزن وتعتم منه الرؤى، وسرعان ما يعيش الواقع في صورة كوابيس مفزعات، تلك حالته في مرحلته السوداء. بعضنا قد يقول بحق، إن الواقع نفسه يغدو كابوسيَّ الطبيعة… ولكن المثقف المنعزل عن المشاركة النضالية لا يتبيّن في كثير من الأحيان الحدود الفاصلة بين الكابوس والحلم، بين الاختلاط الأيديولوجي الزائف، والتمايز الطبقي الحاسم، بين التقاعس والمهادنة والمسايرة، وبين النضال الحقيقي، وما هو كائن، وما ينبغي أن يكون، بين القيمة المثالية والواقع الحي المعقد الذي الذي يخالط حياة الناس، بين المثال والضرورة، بين الفكرة وممارسة تحقيقها… قد يحدث أحياناً أن يتمكن في لحظات خاطفة أن يعبر عن وعيه بهذه الحدود، ولكن تعبيره يأتي عاطفياً هشاً، ويفتقد حيوية وتوهج البريق، بريق ضوء المستقبل، فلا يتيح له أن يعبر بحسم هذه الحدود… لهذا نراه متردداً، محلّقاً – محلّقاً عالياً أحياناً – بينهما، فيكون التأرجح عوضاً عن الثبات، فراح يلمنا، في حزمات حزينة، إلى سواده، حتى الأصدقاء رآهم في سواده ذاك*:

(الأصدقاء القدماء
 يدفعوننا للانتحار…
 وأصبحوا لا يلهموننا الرغبة
 والصمود
 وعبثاً نخدعهم بالابتسام
 وبالعيون الضيقات ملؤها
 الشرود…
 صاروا مساكين
 مضيعين دونما أسرار
 نضغط زِرّاً فإذا الضحكة نفسها…
 القصة نفسها
 النظرة نفسها…
والانكسار !)…

لا شكَّ أنه شرع هنا يدخل إلي حيث السواد والعتمات، لا شكّ أنه يخطو منذ الآن صوب مصيره الفاجع! إن الذين نخسرهم جراء رحيلهم هم خسران لنا، وأن يكون الرحيل عن دنيانا انتحاراً، فالخسارة هنا أكبر وأعدها إثماً، إهداراً لما كان له أن يكون للحياة، ولَكَمْ كان أفضّل لو بقي المنتحر على قيد الحياة، فالقضية، أي قضية، لا تستحق إهدار الحياة من أجلها، وأسطع مظاهر الإهدار الآثم عندنا تتجلى في الانتحار الجسور لأبو ذكرى، لأن الانتحار هو عدوان تجاه الدواخل كما يقول فرويد، فالشعراء خاصة هم كائنات حساسة علي درجة عالية جداً منها، تأخذهم رؤاهم المحرقة في جنونها أحياناً إلى فقدانهم الحياة، بمحض إرادتهم، أو لنقل بمحض جنونهم… ولكن السؤال الذي ظل يؤرقني هو: لماذا لم ينتصر الأكاديمي على الشاعر في حالة أبو ذكرى، وقد كان أقوى وأسطع وأكثر ذكاءً ونبوغاً؟! ورغم ذلك كله، فسوف تظل قصيدة أبو ذكرى تتبوأ مكاناً مرموقاً في شعرنا، وستظل أيضاً معنىً جميلاً، وإن بدا حزيناً، للمعاناة من أجل الفن والحرية في ذاكرتنا الشعرية وفي حياتنا الثقافية، وستظل ضميراً حيّاً يُلهب إحساسنا بالمسؤولية كلما واجهنا شعراً جديداً، وما أكثره هذه الأيام! حتى لا تتكرر المأساة، مأساة الموهبة التي يقتلها الجهل أو التنكر أو تخلخل الذهن وتشتته حد الضياع. فيبدو لي أن أبو ذكرى قد قرع الأبواب، قرعها بشدة تلك الأبواب التي لا تفضي إلى شيء على قول مارسيل بروست.
ـــــــــ
هوامش:
* العنوان من قصيدة لدرويش حول خليل حاوي الذي انتحر بالرصاص في6 / يونيو / 1982:
 (الشاعر افتضحت قصيدته تماماً
 هو لا يريد الموت،
 لا… هو لا يريد الموت
 رغماً عنه،
 وثلاثة خانوه:
 تموز
 وإيقاع
 وامرأة
 فناما…
 هو لا يريد الموت،
 لا… لا يريد الموت
 فناما
 الشاعر افتضحت قصيدته تماماً…).
* الشاعر الإيطالي تشيزاري بافيزي (1905 – 1950) ترجمتها جمانة حداد عن الإيطالية واختارت عنوانها للأنطولوجيا حول
 الشعراء المنتحرين في القرن العشرين.
* “أبو ذكرى، نهاية العالم خلف النافذة” كمال الجزولي، دار تراث ودار العلوم بالقاهرة 2005.
* ” الرحيل في الليل”، عبد الرحيم أبو ذكرى، دار عزة للنشر والتوزيع السودان 2001.
* “السنبلاية” محجوب شريف، دار عزة للطباعة والنشر الخرطوم 1998.
** ملحق توضيحي:
– قصائد فترة الستينيات المزهرة: (صباحية / فتاة في المطر / الطريق / موت الغريب علي الخليج، في رثاء السياب / المساكين /
 الحصار / السياج / الهزيمة / حانة على الطريق / بكائية في الضوضاء / مكة في الليل / سهرة في الشارع / أكتوبر 1964 / غربة / حب الفقراء).
– قصائد فترة السبعينيات السوداء: (دفء هذا المساء / القناع / البوابة والدم / الرحيل في الليل / الحزن حزنان / الرسو في كوكب الظلام / الحكماء الثلاثة، صياغة لحكمة صينية / أشياء لا تقال / في الفاجعة / قسوة / دعاء بعد اليقظة من المنام).
– قصائد غير مؤرخة يرجح أنها تنتمي لفترة الستينيات المزهرة: (ليس عن الحب / ليلة شتائية / هدهدة / هدية / كن قبيحاً).
* هذه الكتابة قدمت في احتفالية يوم الشعر العالمي مساء الجمعة 21 مارس 2014 بدار اتحاد الكتاب السودانيين بالخرطوم وهي الفعالية التي نظمها الاتحاد بالتعاون مع منتدى مشافهة النص الشعري ومركز علي الزين الثقافي وجماعة عمل الثقافية واشتملت على فقرات متنوعة في الغناء والموسيقى وقراءات شعرية إضافة لهذه الورقة، وانعقدت الاحتفالية احتفاءً بذكرى الشاعر الراحل عبد الرحيم أبو ذكرى.

 

* ناقد وكاتب من السودان

انظر أيضاً:

أبو ذكرى: التحليق صوب الأرض

عن أبو ذكرى.. قطع من شظايا الذاكرة

الرَّحيلُ فِي الَّليْلِ

زر الذهاب إلى الأعلى