فيما هي تعيدُ ترتيب (دولاب حياتها) بحثا، بكل ما أوتيت من صبر، عن وشاح ذي ذكرى خاصة، لم تعثر عليه مثل كل شيء جميل فقدته دون سبب ظاهر جاءها النبأ، أطرقت هنيهة، تأوهت في حسرة، ثم حمدت الله على نعمه فهي لا زالت تؤمن بأنها ذات يوم ستجد وشاحها.
جاءها النبأ، إذن، وستضطر إلى ارتداء قناع الاهتمام، فقد وضعت إحدى معارفها؛ تلك التي كانت يوما ما، أعز صديقاتها.. هل سيحدث النبأ فرقا، إذا لم تتمكن من تحديد ما إذا كانت صديقتها السابقة قد وضعت ولدا أم بنتا؟
في طريقها إلى المستشفى، تساءلت، مرات؛ عما إذا كانت الهدية التي تحملها مناسبة للمناسبة أم لا؟
تشاغلت عن أسئلتها بالسفر بعيدا، وهي تعيد رياضتها الروتينية المفضلة: الخروج من الجسد.. رأت نفسها في ذلك السرير شاهدةً على تجربة الخلق، متخيلةً إعادة تعريف لكينونتها كامرأة ضامنة لاستمرار النسل، هي التي طالما حافظت على نصف دينها في انتظار نصفها الآخر!
أعادتها ابتسامة خجولة لتنتبه إلى الواقع عند دخولها المستشفى. تنقلت بين ردهاته في طريقها إلى (عنبر الولادة) وصولا إلى الغرفة الأربعين على اليمين.
لا شيء في خنصرها الأيسر.. دخلت وفي عينيها تعاطف غريزي، هنأت صديقتها بالسلامة ودعت للمولود وأثنت على جمال ملامحه.
عندما وضعت الهدية في المكان المخصص؛ ساءها أن تتذكر: أن الهدية لا تحمل بين طياتها تحايا شخص آخر أخّرته مشاغله عن الحضور!
لا أحد هناك ستختلق أعذارا من أجله.. أو تقدِّر أنه سيترك كل شيء من أجل مشاركتها في هذا الواجب الإنساني.. أطرقت، مرة أخرى، متأسفة على اضطرارها للعودة مع سائق تاكسي لا يفكر مطلقا في مدى احتياجها لشخص ينتظرها في موقف عبور رحلات أيامها، متأففا من بطء حضورها ولا نهائية مناسباتها.
تتبادل حديثا عابرا مع أحدث المنضمات إلى مدرسة (الرباط المقدس)، فيما ترى نفسها تدور بـ(مريول) حول جدار.. وحدهُ الغيب يخفي بوصلة الوصول إلى نقطة كشف السور لأسراره؛ فما بين ذاك الباب، وحلم الوصول إلى مفتاحه، تتناهى إلى مسامعها إعادة لنشرة أحوال الولادة: (طلق صناعي).. (قيصرية).. (حسيت إني بموت)..!!
ترتبك، هي، في حضرة الموت وتفكر: هل من الممكن أن تموت دون أن تلتقط صورة واحدة لبطنها الممتلئ؟ من سيمشي عنها، حوالي الساعة التاسعة مساءً في ممشى الحوامل؟ من سيُقلِّب صفحات كتاب أجمل الأسماء غير المتداولة؟ ثم من سيختبر عنها تجربة انقلاب مقاييس التذوق لدى جزيئات لسانها حين تشتهي مرَّ المذاق فتطلب حلوه؟
(إيش رأيك في الاسم؟).. يأتيها صوت صديقتها ليخرجها من تجربة الوحم المتوهم، هي التي كادت تضع يديها خلف ظهرها كي تسند إجابة ليست جديرة بالاهتمام؟! فاسم المولود قد حُسم منذ رابع جلسة رنين مغناطيسي، أو لعلها جلسة سونار أو ربما أشعة مقطعية. أو أو أو.. لتتحسر مرة أخرى على عدم إلمامها سوى بجلسة دورية لسكب الشمع احتفاظا بنعومة جسد تعبت من طول ادخاره.
بالفعل، لم يكن رأيها مهما، خصوصا أنها احتفظت بأجمل الصفات؛ فالأسماء في احتكار تتمنى ألا يخضع لإكراهات العرض والطلب أو لتاريخ الصلاحية، بفعل تغير مناخ حياتها من ربيع شبابها إلى ما لا تُحبِّذ مجرد التفكير فيه، فيما ترجو أحداً يحترم نظرته في الحكم وفقا لمبدأ النوعية وليس الكمية.
تأخذ حقيبتها، وتتفقد شاشة هاتفها الخالية من آخر عشرة (مس كولات) خلال دقيقتين.. تبتسم عندما تفكر في استهلاكها وقتا أقصر من المعتاد منصاعةً للرسالة الغاضبة: (يلاّ بسرعة).. تتخيل ملامح الغضب وتستعد باستحضار السطر الأول من الصفحة الأولى في الفصل الأول من كتاب حياتها المعنون بــ(سعادتك في سعادته)!
في طريق عودتها، تتذكر وشاحها الأثير إلى نفسها، تبتسم متيقنة بحتمية عثورها على وشاح خلق من أجلها؛ وشاح يعيد إبراز سحر عينيها، صفاء ابتسامتها، اكتمال أنوثتها: وعندما تفعل فلن يكون من الصعب عليها إعادة طلاء كل حياتها كي تليق بوشاحها.. أو ربما تقوم بتغيير درجة لون الوشاح ؛ليس لعيب فيه وإنما لكونه يستحق أفضل ما فيها ولها وعندها.. أوَ ليس هو وشاحها الذي يليق بها؟
تسافر في قطار أحلامها، لا تهمها درجة تذاكر السفر ولا الحقائب المفقودة ولا تكترث بمن قفز من القطار أو من فاته القطار، قطارها سيقف في محطتين، لاستراحتين.. ستتناول طعام العشاء على ضوء الشموع في الساعة السادسة صباحا بفستانها الأبيض أو بدونه، على أن تشرب من السوائل أدفأها في سريرها الأبيض ومسامعها تستعيد للمرة الأربعين: نشرة أحوال الولادة: (طلق.. طلق.. ولادة طبيعية.. حسيت إني اتولدت من جديد).
* قاص من إرتريا مقيم في الرياض
** القصة الحائزة على المركز الثالث في مسابقة جائزة (محمد سعيد ناود) للقصة القصيرة في دورتها الثانية 2015م التي تنظمها سنويا (مكتبة أغردات العامة) على الإنترنت.