ثمار

مقلب

عماد عبدالله

(محمد وِشْك) wishk.. ما كان درويشا أو معتوها، كان به مسٌ من الرب عظيم؛ تسكنه عاليات الأطياف من هناك.. من لدن الكُنه البعيد للعوالم الغامضات.

وكان (يقوم) مع البحر!!

فما إن ترعد في مرتفعات الحبشة، وينتصب عِرقُ النيل هناك، يُنذر قذفاً؛ حتى يمس محمد وشك ما يمسه من ذات حال الدميرة، ويعوده ذاك الطيف الآسرالغريب.

….

ذات شتاء؛ وكلية الفنون تعج وتمور كبحر، والعام الأكاديمي لهثاً تخب أواخره؛ وقد سرقني ما يسرق البني آدم منا في عشرينيات عمره، فما رسمت إلا بالمزاج الذي هو في تلتلة وكرٍ وفرّ.. ولا كنت لونتُ إلا قطع ثلاث زيتية.. ومثلها بألوان الماء، وبعض الشخبطات بالباستيل والقواش. فذاك ما كان من أمر الرسم والاستيفاءات الأكاديمية الجهمة. وقد انقضى العام الدراسي أو يكاد، وما زلت أكابد البحث في مادة الدراسات العامة. ولحظي التعس/ الجميل، كان المشرف على مبحثي أحد العماليق في تاريخ الفنون وعلوم الجمال والفلسفة و و و.. أستاذي الدكتور أحمد الطيب زين العابدين، رحمه الله. فبقيت – رعباً منه – أطارد الطيب محمد الطيب، والدكتور عبد الله الطيب، والمكتبات المحشورة في لفائف الخرطوم بكتبها الصفراء القديمة، ثم لحبوبة ناس فلان وجد ناس علان، علني أظفر بما يعينني على رصد (مفهوم البطولة في الحكاية الشعبية). (ما سوّت فيني خير الزلال بت ود حامد عليها الرحمة. إذ ما تزال بي فنتازياها، من حولي وأمامي، ومن أسفل مني، والأعلى).

ثم ما كان يزيد الأمر استعصاءً على عصيه هو أمر الداخليات و”قعداتها” الصبّاحية بالعود والغناء لذيذ الوجع، ونقرشات الونسة، وكواريك السياسة، ذكريات الحبيبات الأولى والثانية و.. ثم ذياك الحبيب الذي هو أخا البدر سناءً وسنا، والذي – في النهايةِ – قد غدر، والآخر الذي ما يزال في رحم المنى، وذاك الجميل الذي ما سألناه. ذاك وكثير لغطٍ حول الركوكو، وقيم فينوس الجمالية (تسوي شنو قدام سماحة ساندي بت السكرتارية؟ والقيامة الكنيسة، وغوغان الما نصيح الذي شاخ ليرسم، وغويا المعولق، والشمس التي تطلع لعيون الحبيبات ليلاً.. و.. و..).

داخلية المقرن لطلاب الفنون (الكنيسة)، وصرير جنادب الليلة يعلو ويتحد في الشملة الكبيرة لأشجار الحديقة النباتية خلف الداخلية. الكون في الحديقة النباتية عجيبٌ أمره في الليل، وقد كانت تقلقني “الكشكشات” بتاعت الليل، تمرق من بين يوابس الأغصان والشجيرات هناك، وتنسرب صخّابة إلى أذني.. والدنيا ليلٌ هُس أصمَتُ من قبر.

من عجبٍ أن تلك الكائنات تصن لأيّما صوتٍ لا ينتمي لها بوشيجة الدبيب الصامت والظلمة!! فتتوقف الجنادب حين يكشكش شيءٌ ما.. بغتة تكفّ عن الصرير. والضفادع تقطع الحركة، تماريها الأشجار في ذلك فتمسك أغصانها عن الحفيف.. وطيور الليل والخفافيش تربض كما لو أنها نحتت، وتدبغ هكذا في الهواء مترقبة. لا يتبقى من صوتٍ ضال غريب.. إلا تلك الكشكشة المريبة.. فأعرف أنه ثمة ود ابن آدم يأتي بشيء تأباه نواميس الكائنات الآمنة تلك. (شخصٌ يقضي حاجته.. حرامي يتحامى بظلمة شجرة.. عاشقان يذوبان قُبلاً.. شرطيٌ يتلبد). وأنا؛ شحين. بطاحونة رأسي التي لا تكف عن الرحى، وبرائحة زيت التربنتاين والألوان، وبتماويه الظلال النعسَىَ، وبعبق (الحلو مر) ينبعث من درفة الدولاب مكسورة المفاصل.. ثم لا شيء.

غادرني ليلتها سيف اللعوتة.. تحدثنا ودخنّا، قلنا كثيرا عن الرفق بالقوارير، وعن محمود محمد طه، وصلاح محمد عيسى، والسمندل وما هو باين في العيون.. و.. و.. و ما توقفنا كلاماً حتى كسر الليل صندلَهُ.. ثم سكن بعد إذ غادرني سيف.

كنت ألون بمسام جنوني.. قطعة من طبيعةٍ صامتة (ستيل لايف). وقد أغوتني لوحتي من بعد كل ذاك الحديث الطلي مع “سيف”، والذي ندبني حضاً على فتح بوابات الروح على قصوى مشارعها.. فنويتها فتحاً لليلتي تلك. ارتميتُ أرسم.. وعلى الجدار القديم وبلونٍ أزرق لفرشاةٍ عجفاء، بقى وشمٌ قديم خطه أحدهم (مِنْ أين؟.. يا امرأةً بُحّتْ لها حَنجُرة الغناءِ الجميلْ).. فانتصب شيطاني والنوايا، وآليتُ الليلة غزو ترقص على حمى إيقاعه بنات دمي.

رأيتُ برتقالتي تتدحرج – والغرفة الزنزانة تخذت شكل الدماغ الكبير – وما كان ذاك دماغي.. لكنه كونٌ من أدمغةٍ وهواجس وإحَن. وحدي كنت أمام اللوحة الوحش تلك.. يتوجبُني الخلاص منها، وملزمٌ على محاحاتها لساعة متأخرة من ليلتي المسعورة هذي. بابكر دينق كان يلح عليّ أن أكمل مجموعتي لامتحان التخرج في قسم التلوين. وحده كان يفعل ذلك كلما صادفته في طرقات الكلية واستوديوهاتها. وبابكر دينق هذا له مزاجه الذي يميل به – إن مال – إلى أن يقول لك وعن يقين: شُغُل ده سوي ليهو شوية أحمر هني، بوزنو. وهو من هو: العامل الجميل بقسم التلوين. فتنتابك من توك وساوس اللون، لتعيد قراءة توجساته البصرية، عطفاً على قلة الحيلة عندك – فالشوف شوف دينق -.

تلك اللوحة في بهمة ليلتي تلك، والشباك من خلفي بحديقته وهوامه وأصوات مساءه المريبات.. يوسوس فاتحاً كوة في مؤخر رأسي. الشباك الحديدي أب سيخ، الشباك اليطل على الحديقة النباتية في حي المقرن، اليطل على شتاء الدنيا.

….

(محمد وشك) لم يكُ درويشا معتوها..

كنت وإياه نرتاد الخلاء (فوق)، عند أطراف البلد: حفير مشو؛ أو نلوذ بمقابرها والسور القديم للقبة هناك.. مستغرقا يكون هو في تأمل المقابر، أو مطلقا لعينيه المشرتمات عنانها جوساً في الصحراء العميقة، صحراء عتمور بلون يميل إلى الكادميم يللو، وتنسحب بطيئا إلى جوف الأفق. يغمغم: (ياخي ده مقلب كبير خلاص). ثم.. لا يزيد. ظللتُ أصحو في صباحات الشمال الصقيع تلك، لأجده قابعا بطرف فراشي في الديوان الكبير، ساهم في ملكوت الله بوجهٍ خالٍ من التعبير، هو وجهٌ فقط (وأنا مفتونٌ بالأوجه الإنسان). ينظر عيني في مباشرة خاوية، دون أن يطرف يفعل ذلك – وما كنت لحظتُ عيناه تطرفان مُذ عرفته، أبدا – يقول بعدها: الشاي كيف؟

نخرج، نقصد إلى النيل.. يسبح (محمد وشك) إلى الجزيرة البعيدة، في بطء يسبح.. وكأن لا حواس له في جلدة عظمه الكبير التي تتلمس برودة ماء النهر الثلجية تلك؛ النهر الصباحي الساكن في صفو المرآة.

أتامل جسده يمعن سباحةً، قاهر لعرق النهر، يبتعد في أناةٍ؛ فكأنما النهر منه وهو له. وأنا في القيفة الراطبة من أثر نداوة عشبات السعدة الحصيرة من تحتي، أمج اللفافات، ويأكلني قلقٌ لذيذ. يخرج وشك إلى الجزيرة، أرقبه يجوس فيها منحنيا هنا وهناك، ليعود صاحبي بودعاتٍ صغيراتٍ بيض، لا يكف عن تقليبها في يده.. ويردد: (ياخي ده مقلب كبير خلاص). ثم يكوم (طين البحر) عندي.. نزحف تحتاً إلى طمي القيفة طلبا له، طميٌ متماسك طيب الرائحة، لزجٌ ونقي. يقول: كده بالله يا معلم أعمل لي دبتشي بيتشن. ذلك فقط ما يستحضر من أسماء علقت بذاكرته من بعد زياراته الخرطوم، وسينما كلوزيوم.. فقط هذا الكاوبوي الـ(دبتشي بيتشن).. روبرت ميتشوم. فأجيبه إلى ما طلب، وأظل أخلّق له من الطين ما شاء من الدبتشي بتشنات، ونسوة عارياتٍ، وخيل، لواري، وتماسيح.. هو يقلبها ويبتسم لها، وللدميرة الكبيرة داخل دماغه يبتسم: (ياخي ده مقلب كبير خلاص).

….

أتراجع كنت إلى أبعد نقطة من تلك اللوحة، أسحب أنفاسا ثقيلة من أعقاب البرنجي المتناثرة على أرضية الغرفة العارية، وأعود إليها لوحتي.. تلك المتاهة.

يطن كلي؛ موسيقى ترتكبني.. فأرتكب فيها شبقاً يتواطأ واللون البرتقالي الفاحش الحار المندلق على اللوحة، وعلى حامل اللون.. مندغما فيما لا كنه له كنت. تطن دنيا الحديقة النباتية؛ يفغر الشباك مزيدا من الكوى في مؤخر رأسي.. تتصاعد وتيرة حُمايَ.. فأوقن أكثر فأكثر بقدرية غوصي الآتية إلى حيث لا قاع.

برتقالتان كانتا، وزجاجة خضراء (بيرة).. تتماسكان عناقا على قطعة دلقان لا لون لها، ذاك كان كل الفخ اللازم.. وأنا الطريدة. كنت أرسم بسكين اللون.. وطيّعةً كانت، لكأنني ما كنت من يحركها.. لطعات لونية سميكة تتراكم فوق بعضٍ مع كل نصل يقعي على سطح اللوحة.. والحياة تدب في الشرك الذي أهيئ حباله لي. رائحة زيت التربنتاين تزكم خيالاتي، وكهربية دماغي في أطيب أعالي مدها، والاستدعاءات في الذاكرة تطلق صافراتها. ضجيجٌ متجانس من كل ذاك. ما الإنسان حواس خمس ورطتئذٍ.. بل ملايين الحواس الكونية مكتملة العدة للطفرة القادمة قفزاً في الزمان الطليق. متحدٌ كنت وهذا الطوفان الراعف بيني والوجود الذي فتح مغارة سِرّهُ القُدس لي. ثم.. تدحرجَت – البرتقالة الشيطان اللون – أقسم أني رأيتها تتدحرج، البرتقالة تدحرجت أماماً.. والتمع تكور كتلتها وهي تفعل. ساحبة معها ألوانها المبتلة بطيئا.. بطيئا كانت برتقالتي تزمع سقوطاً من اللوحة؛ ارتعشت عضلة يدي بلا إرادتي هاماً لها.. في محاولةٍ لالتقاط برتقالتي، والتقاط ألوانها المندلقات من السقوط.

ثم، في الثانية التي أخذتني فيها شهقة الرعب والدهشة، ومحاولة تحديد المعادلة الحيرى بين التوهم والحقيقة، بين الفكرة والتيقن، في تلك الطرفة من الزمان تماما.. توقفت البرتقالة الشرك / اللون عن الحراك. فاجَأتْها (عقلنتيَ) الخرقاء وهي تتخلق في عُري هويتها الطازجة تلك.. وهي مضغةٌ تقطع المسافة بين الفكرة المحضة، ويقين الكينونة. فاستحَتْ وغضِبَتْ.. وأمسَكَتْ، فسَكَنَتْ.

من يومها.. ساكنةٌ هي الأشياء عندي، من بعد أن أضِعتُ روحها في غيبوبة الظل العيي المنعكس على شرخ مرايايَ العتيمة.. وإعياء روحي الرهِقة.

….

(محمد وشك) لم يكن مجنونا..

كان فقط.. بصيراً بالمقلب الكبير.

* قاص وشاعر وتشكيلي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى