قـراءة في قصة “فنتازيا المهرج” لـ طلال الطيب
تعدّ هذه القصة ـ كما يعرف ـ من قبيل العمل القصصي المركب، وهو ذلك العمل الذي يتداخل فيه الحدث الواقعي بالحدث العجائبي «الفنتازيا» ويقصد به كمصطلح: (جموح الخيال الإبداعي في القصّة أو الرواية، وذلك لإعطاء مدى واسع للقدرة التعبيرية على حمل دلالات تحتشد في التجربة الإنسانية، ولإحداث الصدمة الممتزجة بالمتعة الجمالية لدى المتلقّي)، حيث يتزاوج الدرامي بالسردي ـ كتطور حداثي ـ يقودنا إلى حالة مبتكرة يحاول القاص من خلالها، ومن خلال وما يحاول طرحه إلى التأثير في المتلقّي، وذلك خلال ما قدَّم من صور عجائبية وأخرى واقعية ـ في بنية القصة ـ أصبغ عليها أحياناً بعداً أيروسياً ليحقق ما ذكرنا من تأثير، ويلاحظ أن القاص قد كفى المتلقي مؤونة البحث عن دلالات تلك الفنتازيا إذ باغته مباشرة بعنوان أولي للقصة (فنتازيا المهرج) لينصب التركيز فيما بعد في التعرف على (المهرج) وعجائب ما بدر منه من أفعال تجافي المنطق والقوانين الأرضية !
قسَّم القاص السرد من حيث الزمن إلى فترات سماها بالساعات، فبدأ القصة بالساعة الثامنة مساءً، وهي بداية الليل، ومسرح لطلاسم تحدث اتخذت من الليل ستاراً ومن بينها (المخدرات) وتعاطيها وبيعها وتأثيرها على المتعاطي وعلى جو المدينة الخانق الآن.. (الهواء يبكي هنا عيونه حمراء لامعة جسده كثيف وغليظ، والهواء هنا مدمن حتى النخاع؛ تجري في شرايينه رائحة المخدرات، يتعاطى حبوب الهلوسة فهو مهلوس حين يسكن وحين يثور).
وعلى مدار أربع ساعات تعرفنا على مكان القصة (المدينة الملوثة) وسكانها بصفاتهم الغريبة، ورغم كذا صفات إلا أن القاص مارس عليها قدراً من السخرية حينما وصفهم كأنهم نمل محروق معللاً ذلك بما حوى هواء المدينة من تلوث عندما لامس عينيه، وهذا مثار تهكم وسخرية من صمتهم ورضاهم بما حولهم من أمور غريبة لم يعملوا شيئاً من أجل تغييرها، فرائحة النمل المحروق لا تطاق، فشم دخانه يغيب عن الوعي، ويستعمله المشردون من الأطفال بديلاً عن المخدرات، حيث أكدت الدراسات العلمية الحديثة أن تلك الرائحة بالغة الخطورة، لأنها سبب أكيد للإصابة بأمراض السرطان وبعض أمراض الرئة والقلب، وهذا بلا شك إمعان من القاص في الحط من جو المدينة الملوث (مجازاً) وكيف أنه لا يصلح للعيش الآدمي .
وبعد أن مهَّد القاص مكان قصته ووصفه وصفاً دقيقاً، تحول ليحشد شخوص قصته : القاص / الراوي.. كشخصية رئيسة.. بائعة الهوى.. كشخصية ثانوية أراد القاص من إيرادها شحذ القصة ببعض البعد الأيروسي كمحفز للاكتشاف ومن ثم مواصلة القراءة.. إلا أن السبب الرئيسي من ذكرها هو أن القاص أراد القول إنه ليس له علاقة بجو المدينة المخنوق والمأزوم فهو لا يتعاطى ولا يبيع المخدرات (من خلال حواره معها)، وإلا لكان قد انهار نقده ونقمه على المتعاطي، والبائع، وصمت المدينة باعتبار أنه مثلهم، متمثلاً قول الشاعر أبو الأسود الدؤلي عندما قال: (لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ) .
(الحمامة) شخصية شبه رئيسة لأن الدلالة هنا هي (الضحايا) من الشباب، فالحمام رمز السلام والمحبة والنقاء، فكيف أن حالها الآن أصبح صعباً حتى وصفها القاص بممزقة الريش (دلالة عدم القدرة على التحليق، ومن ثم الركون والخمول)، فبادرها بالسؤال رفقاً بها: (قلبي سألها: هل مزق المرض ريش روحك الطيبة؟) .
وعند سقوطها أخذ (سكينه) وفتح حويصلتها ووجد فيها (حبات حمراء وخضراء وبيضاء) كوصف لأنواع المخدرات المغلفة بألوان جذابة ولكنها بلا شك قاتلة !
ونهاية الشخوص يأتي القاص بشخصية رئيسة هي المهرج / القاص / الراوي تظهر إشكالية شخصية (المهرج) على أنها شخصية تقترب مـن ملامـح الشخـصية المثيـرة، أو النظـر إليهـا علـى أنهـا شخـصية واقعيـة محـضة تترشـح مـن البنـية الاجتماعيـة فـي القصة، فضلا عن محمولات نفسية تعاني من الاغتراب والإقصاء فـي الحيـاة الواقعيـة، فتحاول معالجة الـسلوك والعـادات الإنـسانية بمبـررات فكاهيـة يسخر منها كثير من الناس .
عند الساعة الثالثة بعد منتصف الليل يوحي لنا السارد/ القاص / البطل أنه ذلك المهرج الذي اعتبرناه أحد الشخوص الرئيسة في القصة وبذلك يكون من الشخوص المتداخلة / الملتصقة، أو أن البطل قد تقمص ذلك المهرج فيس ثمة شخص إلا شخصية البطل، فهذا ما يعرف بـ(الأنا) ودلالة ذلك جاءت مما فعله القاص / البطل وهو أمام المرآة يضع المساحيق التي كان قد مسحها من المهرج، فعاد وطبقها على نفسه (وأخذت أقارنني به). لاحظ إلى تداخل الضمير في المتكلم والمخاطب واندماجهما معاً، فلم يظهر له سوى المهرج المرسوم بريشة (شيطان) بكل تفاصيله حتى عضة الجرذ على أذنه اليسرى (خفق قلبي بشدة كم يشبهني هذا الرجل وكأنه أنا! وأخذت أقارنني به. له كل تفاصيل وجهي، وتفقدت أذنه اليسرى فيها أثر عضة نفس التي في أذني اليسرى إذ عضها جرذ عندما كنت نائماً ذات يوم في الشارع) .
عند الساعة الرابعة صباحاً يحاول القاص من خلال جزئية (الفتى وبنات السماء) أن يناقش تأثير المخدرات على سرب الحمام / الضحايا من اليافعين، وهنا يظهر لنا القاص شخصية من سرب الحمام / الفتى الذي استغرقته المخدرات وكيف أن أهله ـ النائمين في البنايات الشاهقة التي تنبعث منها أدخنة حمراء وصفراء وسوداء ـ قد دفعوا ثروة طائلة لإعادة تأهيله ومحاولة إرجاعه لسرب الحمام السوي، فلو أنهم منحوه كثيراً من الاهتمام والعطف والثقة بالنفس لما وصل الحال لما وصل إليه، ولكن لا فائدة، فما إن سمحوا لهم بالنوم معهم في البيت حتى سرق سيارتهما، ولكن الفتى أحس بعقدة الذنب، فلم يجد القاص بداً من معاجلتها سوى موته، وظني أن القاص استعجل ذلك، فلو عمد القاص إلى أخذ هذا الفتى معه لرحلة البحث عن القتلة لكان ذلك أعمق حيث أن الفتى أعلن توبته، وكان سيكون عنده الدافع لحمل السلاح، والدفاع عن المجتمع ضد القتلة حيث إنه يحمل قضية .
في جزئية (الفتى وبنات السماء) مارس القاص قدراً كبيراً من الشاعرية في السرد مثلاً عندما فاضت روح الفتى وصف القاص ذلك بـ(كان ينظر إلى السماء. ذلك النور الذي يتخلل العتمة هي أرواح الناس، لو أنني أرهفت السمع ربما أسمع الفتى يرقص ويغني مع بنات السماء) .
هذا من جانب ومن جانب آخر هناك بعض من الفلسفة التي تمثلت في (فلسفة القناع) وحيث إنها الدافع لعمل أي شيء قد لا تقدر عليه / ترغب فيه، فبائعات الهوى يضعن المساحيق بكثرة على وجوههن وذلك حتى يخيَّل إليهن أنهن يلبس قناعاً يبرر لهن السقوط، وكذا الحال المهرج / القاص / البطل عندما أراد تطهير المجتمع من قتلة (الحمام) / الفتى نموذجاً (تبريرياً) طلب من مؤذن المسجد ـ وهو ينتهي من آذانه وبيده يشعل سيجارة ـ أن يشتري منه سلاحاً (مفرقعات) وهنا يحبس النفس تخوفاً مما يريد هذا المهرج أن يفعله، وثمة أمر آخر أن القاص / البطل / المهرج عندما تسللت منه روح الفتى (عمداً من حيث البناء القصصي) أراد تبرير الحصول على المال الذي كان بحوزة الفتى ليحصل على السلاح.
فاستخدام (القناع) كوسيط يعمل على إبطاء إيقاع الانفعالات عند القاص / البطل / المهرج، فيتجرد القاص من ذاتيته فلا تكون القصة نزفاً خاصاً بل نسيجاً جماعياً يهدف إلى خدمة المجتمع… فالقناع كوسيط يحقّق صفة الموضوعية حيث إنه يخلق التوتر الدرامي بين القناع والوجه، فهما لا يتطابقان… وهذا بلا شك تكنيك وأداة في غاية الجودة برع القاص في استعمالها باحترافية كبيرة جداً …
عند الساعة السابعة صباحاً أدرك بطلنا / المهرج الصباح وسكت عن القول المباح، وظهر (الشرير يستمتع) يفرض سطوته وجبروته، وندرك أن بطلنا ما زال أمام مرآته يخاطب نفسه / المهرج، وأن ما خرج منه وأراد تنفيذه هو حديث النفس بالأماني المبنية على الخيال، ولكنه خيال سما إلى أفق عال جعل القاص يوغل في العجائب من الوصف والحال واستعمال (الفنتازيا) ليرسم بريشة الشيطان صورة المهرج المقنع بالمساحيق هروباً من واقع ما استطاع إلى حمايته سبيلا …
فالقاص / البطل يوحي لنا في بداية قصته أنه يبدأ عملاً مفتوحاً يشكّل شخصيّاته وأحداثه أمامنا، ولكن تأخذنا تقلبات السرد والحكي ما بين التوقع، وما بين الأساس الذي هو توظيف الشخوص ودالاتها، ويقود هذا السرد بضمير المتكلم من القاص في (الوعي) ومن الآخر في (اللاوعي) وهذا هو النص الداخلي الذي صنعه القاص مع نفسه أمام المرآة، فهذا بلا شك خلق تداخلٌ بين عالمي الواقع والخيال ليقود الخط الدرامي لإخراجه كرؤية للواقع، وما فيه من اضطراب مصنوع من قبل (تجار المخدرات)..
فأخذ القاص يحكي لنا بسرد تقوم بنيته على العجائبية والتصوير الغريب، وقد استفاد القاص من زاوية التناظر ما بين المهرج كشخص ينتقد، ولا يُلقي الناس له بالاً، وما بين الذي يحدث نفسه ولا تخرج كلماته حيز التنفيذ، فكلاهما بداية وتطور في تحرير المجتمع، ولو بعد حين طالما أن ثمة حراك وتململ، ولو في خاطر النفس، أو القول الصادر من المهرج … فكل هذا يشير إلى أن ثمّة دائرة تنوير تباشر عملاً تأثيراً لتصحيح المسار ولفت النظر إلى خطر المخدرات على الشباب / الحمام ..
إذا أخذنا هذه القصة كما جاءت مقسمة تحت عدة عناوين، فإننا نكون أمام أربع قصص قصيرة بدأها القاص بعنوان (لوحة الشيطان) ثم (عضة جرذ) ثم (الفتى وبنات السماء) ثم (الشرير يستمتع) فهذا شكل فني حديث يعتمد على تنويع المشاهد داخل قصته، بحيث تبدو في الظاهر مُجزأة، منفصلة، ولكنها في النهاية تكون رؤية واحدة، هي تعميق الموقف بكل تفاصيله في حياة الإنسان / المهرج / الحمامة عموماً .
فالتداخل ما بين البنية السردية والخصائص الدراميّة في القصّة يقوم القاص منذ البداية بمهام التمهيد والتأكيد لدور المشهد الغرائبي هذا من ناحية ابتداع الخط السرد والتكنيك، أما من ناحية الشخوص فقد عمد القاص إلى اختزال عدد الشخصيّات الفاعلة، ودرامياً تم حصر الأمكنة فظهر التوتر والصراع في مكونات القصة وهذا خلق نوع من التوتر أيضاً لدى المتلقي من خلال السرد بالحالة العجائبية، وتكثيفها في تشريح المهرج ووصفه ومقارنته بالراوي بما جعل القصة أكثر فاعلية، حيث أحكم القاص بإطار عجائبية المهرج ودلالة الصورة التي رسمها (شيطان) فأحاط ذلك بسيل من الأسرار، فتسير كقارئ وراء النص لتصل إلى الدهشة من من خفايا (الأنا) و(الوعي) و(اللاوعي) وتصرفاتها وأعماقها الغائبة وراء القناع / الخادع!
ومن حيث السرد سار القاص أحياناً إلى جعل الزمن مسيطراً ـ لأسباب سردية فنية جمالية ـ فنجده يقدم نصه القصصي بتسلسل زمني لا يشبه حدوثها في الواقع ولكن نجده أيضاً يرجع للماضي، ذاكراً بعض الأحداث التي تحتم ضرورات السرد ذكرها بداية باقتضاب ثم يعود ويتوسع فيها مرة أخرى كما فعل عند التقاطه رأس المهرج والدخول به إلى مكان نومه وخلق الحوار مع (الأنا) / المهرج ومحاولة صنع الفارق من خلال الحوار الذاتي، والمبادرة على تخليص المجتمع من وباء يسمى المخدرات ولو على سبيل البغض في الخاطر كأضعف الإيمان.
*كاتب من السودان