ثمار

لعبة السياق

شبلي

كأنما تتناسل الأشياء والأحداث في ما بينها، فيبدو لنا المشهد رتيباً وممجوجاً، طاعناً في سن يأسهِ وعصياً على الرؤية المغايرة، وربما جلست فأرة الطمأنينة تُفلِّي شعرها في حانة القلب. القلب الذي دهسته بلطف لحظة شاردة، طيف ما، رشاشٌ مما تبقى من عصير الجنون، قلبٌ تأخذه يدٌ وحيدة على محمل الجد. هي الأشياء والأحداث، تبدو بنكهة تشابهاتها الصباحية، يسيرة الانزلاق والتفشّي داخل عالم السهولة والانبساط، أفقية ودائماً على غير ما يرام مع شغب الأعمدة. ذلكمْ هو السياق، يتحرك داخل أدمغتنا بلسمه السري، (العادة)، طوعاً أو قسراً، ولا فكاك من أصابعه. وهنا تكمن أعجوبة بقاء السياق، من حيث فاعليته التحريكية المنمطة مسبقاً، وأقدامهِ السيبرنطيقية واستمنائه الجليل. وتقصر أبصارنا رؤيتها على شكل وحيد ومكرور، يولج الصباح في الليل، والاثنين في يوم واحد، هو وأمسه وغده مجرد إعادة بسيطة للثواني المتشابهة. إذن لماذا لا نقول إننا نحن الذين صنعنا أسطورة السياق؟ ليس هذا فحسب؛ بل أنبتناها إنباتاً على أرض مخيلتنا الجرداء، ثم انتظرنا الحصيلة عبر انكماشاتها وتمدداتها الفيزيوكيماوية، فماذا تظنون بعقارب الزمن؟ وهل كذب جاليلو والكشافة ورواد الفضاءات وبحارة السفن قساة الملامح ورعاة النجمات الليلية؟ سأكون لطيفاً بعد لحظتين: الأولى (لحظة الشوف والمشاهدة) والثانية (لحظة الإمساك والتحفظ). إن السياق نفسه هو (ود الحرام)، أو الابن غير الشرعي للسياق، هكذا يمكن أن نرى الأشياء بملابسها الداخلية إن شئنا، أو من قريب. صورة لا ريب في حضورها وفي لمعانها، وهناك أيضاً حين تخرج من متن السياق بوافر عنفوانها وإصرارها ومشاترتها وعنادها البريء، تخرج على نواميس الحركة الكونيّة صورة الفعل أو اللا متوقع، الحدث النشاز، ثم يبدأ مستلهماً ذاكرة قديمة بإنشاء وتيرته الجديدة، وأيضاً مراكمتها بيقين وثبات انفعالي بعيداً ومخالفاً لما سبقْ. إذن، السياق يطرح نقيضاً، ينشئ ضده في داخله، أو يتبنى الموازي له بكل سهولة ويسر، وهكذا تتم المسألة.
تقول القراءات، إن الإنسان المتماهي عبر إيقاع السياق هو مجرد آلة سلبية تستهلك تكرار خطواتها الرتيبة، يعيش على تخوم العالم، ويرتدي قناعاً وأحذية وقفازات بلاستيكية كممرضات المشافي الخاصة، وهو بذلك يقدر على النسيان والرضا ومعايشة التفاصيل؛ أو هو أشبه ببذرة طرحتها الرياح على مقربةٍ من شجرتها الأم، فأخذت تدس نفسها في باطن التربة القريبة، ثم أخذت من بعد ذلك تحاكي ساقاً وأوراقاً وثماراً وظلاً، بل حتى رائحة. ولكنه – الإنسان – أيضاً ذلك الكائن المورط في حالة (ملل وقلق) سرمدية، إحساسه يوازي نقيضه بسرعة، في نشوة الجنس، نظل نفتش ونؤجل، وما بين التفتيش والتأجيل تنشأ متعتنا القصوى، وما بين التوتر والالتذاذ، تتراءى لنا ومضات خاطِفة لشيء آت، شيء ما طيب الحدوث، وليس مجرد استدعاء متعجل للحظة الجذب، ذاك يحدث في الواقع، وفي السياسة وفي محيط الآدميات اليومية. هو بالضبط، أن تقبض بعد طول انتظار، أن تمسك بشيء كنت تبحث عنهُ بمثابرة، ولنقل: أنْ تضع خطوة تؤسس لأخواتها. فالسياق هو نفسه مدرسة تحنيط وتحطيم المسارات، في آن، لمن يرى طبعاً. ومن هنا ينشأ استعصاء جديد، ليس تماماً ولكن بحساب حدوثه في الرزنامة الكونية، أن ينفتح المشهد على صنوف متنوعة من عبادة الأشكال، تكرار ما سبق، اللا تفكير، تسمير الحس الاكتشافي وزجه في لزوجة المعاش والمُشاهَدْ والمألوف، وهكذا إلى ما لا نهاية أقواس التدجين والاستيعاب الممتدة. ثم يأتي صوت ساخر من ثنايا تلك المعمعة، (شنْ جدّ على المخدة، التنجيدْ ولا الكيسْ الجديد؟!)، ساعة منتصف النهار، أو منتصف الليل، حين تبرق بداخلنا إيماءات وحبو الخطى النورانية، ولكنها مادية، تحس باليد المجردة، وتلمس بالعين والأذن، كضحكة طفل رضيع. تلك الإضاءات المتقطعة، تخاطب رقصتنا من الداخل، عبر أصغر وحدة موسيقية تنتظم مع دوراتنا الدموية، تلك الومضات، إذا قمنا بترجمتها إلى لغة الفلسفة لا تخرج عن كونها نداءات أو تجليات الذات، أو (ممارسة الذات) – (أيتيكا الوجود) بتعبير ميشيل فوكو. سنرى أرضاً خضراء، نوافيرَ عذبة المياه، عصافير متقافزة، وروداً حمراء وزرقاء وبيضاء، رذاذاً، أشعة متكسرة، غيوماً متماوجة، وكل شيء كما لم يوصف حتى في جنة المسلمين، هنا منطقة معرضة للأحلام المباشرة طوال اليوم، فلا داعي لـ(التنشنة) والانزعاج. إذا فهمنا أن المعيش أصلاً هو ما رسمه إحساس فريد، إحساس حر ومنطلق ويتغذى على عسل الخيال. وبالمناسبة، هذه (الطاقة الإحيائية)، تنمو وتتمدد بسلام، في وسط المعارك والصدامات الساخنة، وتحافظ على بنات سلالتها كأفكار رائعة عن الوجود. تباً للسياق إذن، فقد أسال مياههِ الكسولة تحت أرجلنا ولا نزال نحلم بالخلود، ونتمدد عبر أقاليم الوقت ونظن أن وَعينا مجرد (جينات وراثية سائدة) وإلى الأبد.
أظن أننا في ساعة المنعطف، فالنجوم قريبةٌ أكثر، والمحاذير الثقيلةُ أبعد، ينتظرنا بعد قليل، حساءٌ دافئ، وحبيبة مَرِحة، سنُبحرُ في هذا السكون، ذلك أجمل.

 

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى