ثمار

في مَحبَّة إستيلا

هاشم ميرغني

“هاهي حصَّتي في الوطن.. ليس أكثرَ مِن حقيبةِ سفر”
“فضيلة الفاروق، تاء الخجل”

مِثْلَ زهرةٍ خَفِرة، فادحةِ الثَّراء تتقدَّم البِنيَّةُ نحوَ المنصَّة لتُدلي بشهادتها. تتوهَّطُ قلبَ مقعدِها والحاضرين في الباحة الفسيحة التي تظلِّلُهاالخُضْرةُ الباذخة لشجرِ “اليقطين”. تحيي البِنيَّة أصدقاءها الذين لم ترهم منذ زمن. تحييهم بطفولة محبَّبة لا يتحمل عبْئَها الفادحَ سوى الشُّعراء والمغنين، ولكنَّها طفولةٌ مخادعة تُخفي تحتَها – مثلَ تُربةٍ حُبْلى بالزلازل- أثقالَ قرون من الأسى، والدمع، ونثاراتِ الذكرى في حقائبِ الحنين، ولكنَّها، البِنيَّة، تتشبَّثُ بالطفولة حِصنًا أخيرًا في وجهِ اكتهال السَّاسة والمرابين، ولذا سوف تعتدلُ بعد قليل لتُدلي – بمسؤولية خطاب نوبلي، ورهافةِوردة – بشهادتِها المؤثِّرة عن هذا الوطن الممتدِّ بأسقامه على امتداد الروح مليون حزنٍ مربَّع.
هي أمكرُ مِن أنْ تسمِّيَ الجلادين بأسمائهم واحدًا واحدًا، ولكنَّها أنبل مِن أن تدعَهُم يُفلتون من مِشنقةِ الحساب؛ ولِذا ستتركُ لنا في نهاية كلمتِها/ كلمتِنا إحصاءَ خسائرِ الروح، وبعثرةَ قصديرِ تيجان الطغاة، ولملَمةَ شظايا الحنين.
إنَّهُم فقراؤكَ يا رب،
أبناءُ عالمِك الثالثِ المتأَرْجِحِ
فوقَ بحارٍ من النِّفط والزيتِ كالقرعة الطافية..
“م.المكي إبراهيم: في خباء العامرية”
في شهادتِها التي استغرقت ثلاثين دقيقة في صبيحة الخميس 20 فبراير 2014 في إطار فعاليات جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في دورتها الرابعة، لامست إستيلا قايتانو عميقًا جِراح: الهُّويَّة، اللُّغة، الوطن، قبل أن تضمِّدَها ببلسم الكتابة.
عن جُرْحِ اللُّغة، فإن إستيلا تكتب بلغةٍ ليست لغتَها الأم، لغة – رغمَ ثرائها الفادح، وغزارة مَنْجَمِها الإبداعي، وعراقة تاريخها، واحتضانها الرؤوم لخطاب المقدَّس – تُعاني ثقافتُها جذريَّاً من إشكالِ استيعاب الآخر داخلها دعك من تقبُّلهِ، إذ تبدأ بتسميته “الأعجميَّ” أي الذي لا يبين، غافلةً عن أنَّه يبينُ بلغةٍ أخرى لا تعرفها هي، وتنتهي بأنْ تجعلهُ “مولى” على سفح إمبراطوريتها الواسعة وتُلزمه بحزمةِ قيمها، ولذا ستشير إستيلا بحدَّة إلى أنَّها – مثلها ومثل آلافٍ آخرين – تكتبُ بلغة تُحبُّها وتصطدمُ بقيمِها، تقولُ: “أُحبُّ اللُّغةَ العربيَّةَ وأعشقُ الكتابةَ بِها. واللُّغةُ العربيَّةُ هي ماعوني اللغوي الذي أُريدُ أنْ أُعبئُ فيه قصَصاً تَخُصُّني، وثقافةً تَخُصُّني بعيدةً كُلَّ البُعْدِ عن العربِ والعروبة”.
بإشارتِها إلى منظومةِ القِيم “العربيَّة” هذهِ ستُلامِسُ إستيلا جُرحَ الهُويَّة في أكثر بقاعه التباساً: الدين، الجرح الذي سينفجر في قصص مثل “كلُّ شيءٍ هنا يغْلي” حيثُ الصِّدامُ الاجتماعي الثِّقافي بين منظومةِ قيمِ الدَّولة “الإسلاميَّة” وسُبُلِ عيشِ عددٍ مِن مواطنيها، وفي خلفيَّةِ المشهد حيث تخفتُ الشعاراتُ الأيديولوجيَّة البرَّاقة للدولة، وتبرزُ الحقائقُ عاريةً يُمكنُنا أن نلمحَ الابتزازَ، والرِّشى، وعربات الكشَّة، ومرارات الغُبْن الاجتماعي، وأرتالَ المشردين والسكارى… وكلَّ ما تحاولُ الأيديولوجيا تغطيتَه خلف ستارتها الهشَّة، وبينما كانت الأمهات الصابرات يناضلن تحت شمس هجيرة لا ترحم لإطعام أطفالهن من ثدي زمن شحيح كانت لحى الأيديولوجيا وكروشها لا ترى فيهن سوى سُكَّان عشوائيات، وكانت النتيجةُ بلسان إستيلا: “دخلَتْ أُمَّهاتُنا السجونَ عشراتِ المرَّات من أجل ِإطعامِنا وجبةً واحدةً في اليوم، ومن أجلِ أن نشتري كُرَّاسةً وقلمًا”.
وفي النهاية تراكمَتْ مراراتُ القهر، وتفاقمَ جنونُ الأيديولوجيا ليدفعَ النَّاسَ للرحيلِ بعيدًا صوبَ.. المجهول.
هاهيَ الأرض تذهب شيئًا فشيئًا،
 تغيبُ القرى عن مضاربها ويغيبُ الشجر
 شفرةُ الرِّيحِ مرَّتْ بشعْر ِالمراعي،
 وجاسَتْ أصابعُها في الغُدُرْ
“في خباء العامرية “
ليأتي أوان السؤال:
“كيف تقوَى العنادِلُ
تحتَ سماءٍ حديديَّةٍ مثلِ هذي
على الشِّعرِ والعنْدَلة”
“في خباء العامرية “
تحتَ “سماءٍ حديديَّةٍ مثلِ هذي” كان القلمُ منْفذًا لبروق الضوءِ، ميناءً لِطُيورِ الرُّوح المحلِّقة، وصلصالاً لمخلوقاتِ السَّردِ البهيِّ: ستجد إستيلا ملاذَها في الكتابة: “أعتبرُ نفسي محظوظةً، أكثرَ امْتنانًا، ناجيةً عندما تفتَّحَ وعيي مُبكِّرًا واتَّخذتُ من القلمِ والحرْفِ إزميلي لأحفرَ عميقاً لأنحتَ ذاك الألمَ غيرَ المحدود في ذاكرةِ كانت بعيدة، ولا تنظر لتِلْكَ البيئةِ إلا بِنْظرة الاتهام والخوف والازدراء…”. “نكتب كي ننجو من صف القتلة” كما كتب كافكا من قبل.
متمرِّغةً بنعمةِ الكتابة هذه دعتْ إستيلا قُرَّاءَها إلى “وليمة ما قبل المطر”، ورسمت لهم “خرائطَ لعوالم مجهولة”، وقادت خُطاهُم بنعومة “نحو الجنون” جنون المقهورين – في معسكرات النازحين – حين تُسَدُّ في وجوههم كلُّ السبل ولا يتبقَّى في أيديهم سوى حبر الجنون ليخطُّوا بهِ ضياعَهم في سِفْرِ الغياب: “دمدمت مثل السماء وبرقت عيناها، صرخت صراخاً لمّ الحي كله وأيقظه من سكرته وغيابه، وبكت وولولت بكل اللغات التي تعرفها، ناحت وأنَّتْ كلُّ خليةٍ فيها، طفرت دموعًا جرفت حزن العالم كله وغضب الدم وغبن القلب”.
في منتصف يونيو 1998عنَّ لإستيلا أن تجترحَ معجزتها السردية “بحيرة بحجم ثمرة الباباي”، المعجزة التي انفجرت مُفرداتُ شظاياها البهيجة في وجوهنا لنلملمها من نثار البياض: جماليَّةُ الكتابةِ مُقابلَ كتابةِ الجمال: “لا ألمسُ في جَّدتِي أيَّ جمالياتٍ، كنت أراها قبيحةً جِدًا مثل الغوريلا، شفتاها غليظتان، رأسُها كبير يصلحُ للجُلوسِ دون أيِّ متاعب، كان يزينُ شفتَها السلفى ثُقبٌ هائلٌ تَسدُّهُ بقطعةٍ من الخشب نحتتْها لتكونَ صالحةً لهذا الغرض”، وسحريَّةُ الواقع مقابل الواقعية السحريَّة: “ومنذ ذاك اليوم لم تلدغ أفعى أيَّاً مِنَّا رغم أنَّها كانت تتحرك في كل مكان حتى في فِناء بيتنا الواسع المليءِ بالأشجارِ والخضراوات”.
والحاجزُ الشفاف الذي يتنزَّهُ عبرَهُ الموتى ليعودوا إلينا أوفرَ حياةً: “عرفْتُ أنَّنا لا نموتُ بل نتحوَّل إلى أشياء أخرى تحمل الصِّفاتِ التي كُنَّا عليها، نتحوَّلُ ولكن دونَ ذاكرة، فجَدُّك لا يذكرني عندما تحوَّل إلى تمساحٍ..” في وحدة وجود أفريقية تزدهي فيها الكائنات بنعمة تحولاتها بسديم كون لا تُستنفَدُ طيِّباته ولا يكفُّ عن توسيع ضفافهِ أبداً، وتلاشي المسافات بين الكائنات (هل ثَمَّةَ مسافةٌ أساسًا بين هذه الأشكال بجوهرها الواحد؟)، بين الطبيعيِّ والثقافي (مثلما يتوهَّمُ العمُّ إشتراوس)، بين مَنْ هُم هنا الآن ومَنْ هُم هناك بالأمس (يا لبؤس مفهومنا التقليدي للزمن!)، ثم ذلك التاريخ الغريب مثل أسطورة الذي لا يفتأ يكرِّرُ نفسَهُ بنبوءة عرَّاف منذ طَرَفة حتى جَدِّ الراوية: “حملَ الرسالة وقد وضعها بين شقَّي عُودٍ من البوص حتى لا تتَّسخَ، فصنعَ لنفسه رايةً صغيرة، وهو لا يدري أنَّها راية موته، عندما وصل نُفِّذَ الحُكْمُ فماتَ والدهشةُ مرتسمةٌ على وجهِه الغبيِّ”، إلى آخرِ الشظايا التي لا زلنا نلمْلِمُها من النصِّ عند كل زيارة جديدة له.
توالي إستيلا عبْرَ قصصِها ومقالاتِها على السَّواءِ تجْذيرَ الوعي بشأن هُويَّتِنا المعقَّدة المركَّبة في هذا البلد، وهي إذْ تُدخِلُ هذه الهُويَّة في فضاء الجماليِّ، وتُدمِجُها في نسيج الإنساني المشترك عبْرَ فِعلِ الكتابة إنَّما تمنحُ الهُويَّةَ معنى جديدًا لم تكُنْ تتوفَّر عليه من قبل؛ فقد سبق لبارت أن نبَّهَنا إلى أنَّنا إذ نلِجُ فضاء الكتابة “ننتهي إلى إنتاجِ ذكاءٍ خاصٍ للأشياء، وإلى تخريجٍ أصيلٍ للواقع، وبعبارةٍ مختصرة ننتهي إلى معنىً جديدٍ… فبالكلمات تخلقُ الكتابةُ معنىً لا تكون الكلماتُ في البدايةِ تتوفَّرُ عليه”.

 

* ناقد من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى