ثمار

سيرة أركانجلو المنسية

محمد عثمان

 

“الأمر الضروري لانتصار الشر، هو وقوف الرجال الصالحين مكتوفي الأيدي!”

من فيلم (دموع الشمس)

اندلقت محتويات سلّة المهملات على الأرض بعد أن وقعت منه، فسارع بجمعها، وهو يتلفت في أرجاء المكان خِشية أن يراه أحد وهو يلتقطها مرة أخرى: مناديل ورقية بالية وأخرى مستعملة بها بقايا دماءٍ ومخاط، وزجاجات خمر فاخرة وفارغة، وواقيات ذكرية مستخدمة وأخرى جديدة، وفواكه متنوعة بالإضافة إلى بقايا طعام معلّب. جمعها وأسرع في مشيةٍ عرجاء بيّنة نحو مكبّ النفايات الكبير ذي اللون الأخضر القابع في الركن الجنوبي الغربي من المعسكر الكبير والمحاط بأسلاك شائكة. قبل أن يرمي محتويات سلة المهملات في المكب حرص على جمع بقايا الطعام والفاكهة وزجاجات الخمر الفارغة ووضعها في كيس أسود أخرجه من جيب المعطف الأخضر الذي يرتديه. هكذا اعتاد يومياً على سد فجوة الجوع لدى أولاده من المخلفات التي يتخيرها من النفايات، كما أن ابنه غابرييل يبيع الزجاجات الفارغة لأحد تجار الخمور في السوق الكبير. كان العرق يتفصد من قمة رأسه وينزل في تعرجات وسط الحُبيبات الكبيرة الموشومة على جبهته العريضة وينحدر إلى لحيته البيضاء الكثة، وتنسال عبر بطاقة الهوية البلاستيكية الخاصة به المتدلية من على عنقة، ثم تهبط على الأرض الساخنة في شكل قطرات، مكونة سحابة صغيرة من بخار الماء المتصاعد. عرف من خلال تجربته الطويلة أن هذا الطقس الاستوائي ينذر بأمطار وشيكة، ولم تمر دقائق معدودة حتى كانت زخات المطر تنهمر بغزارة في البداية ثم ما لبثت أن تحولت إلى رذاذ جميل حوّل سخونة الجو إلى طقس منعش جعل ملامح وجهه تكتسي بالفرح الممزوج بالتعب الأبدي. تقرفص على الأرض وأسند ظهره على مكب النفايات وهو يراقب قطرات تتساقط رويداً، رويداً من أعلى حافة المكب إلى الأرض. بدأ عنكبوت ينسج على دماغه خيطاً من مادة لزجة اسمها الحنين.. حاصره توق غامض إلى ذكريات غائمة وكدر موجع في شريط حياته الغابرة التي تزيد على سبعين عاماً: كان عمره آنذاك خمسة وعشرين عاماً وتزوج لتوه من استيلا، الفتاة التي أحبها من بلدة مجاورة لمدينته بسبب وجهها الذي يقول إن له لوناً مثل لون الوردة، لكنه لم يهنأ بزواجه كثيراً لأنه (تزوج في الوقت الخطأ) كما ظل يردد ذلك بانتظام في ما بعد. فما إن مرت أشهر قليلة على زواجه حتى اندلعت الحرب الأهلية بكل قسوتها وشراستها وشناعتها المفرطة. كانا قد قررا – هو وزوجته – ألا يشاركا في قتال لا ناقة لهما فيه ولا جمل، كما أنه يعتقد أنها حرب عبثية، وقررا أن يقاوما الحرب بالمكوث في المدينة وعدم الفرار منها، والعمل على حث آخرين لاعتناق فكرتهما التي يقولان عنها إنها لتمجيد الحياة، وعزْل الموت وتقليص سلطته. لم يصمدا طويلاً فقد كانت الآلة الحربية أقوى منهما فازداد قصف المدافع من كل الاتجاهات، واحترق كلّ شيء تماماً: الأشجار والبيوت وأجساد الكائنات الحية. وفاض النهر بالجثث المتعفنة والمتحلّلة بعد أن تحول لونه إلى الأحمر بسبب الدماء المتسربة من الأجساد الميتة. لم يبق أحد في المدينة كلها، ولم يلبث أن قرر أركانجلو وزوجتُه اللحاق بالفارين بعد أن قالت استيلا (إنه من الاستحالة البقاء وسط هذه الأنقاض). في أثناء سيرهما وسط غابات كثيفة ومتوحشة سقطت قذيفة طائشة على قدمه اليسرى، وأصابته بجُرح كبير متسببة في نزف دم كثير من جسده، اضطُرت عندها زوجته إلى ربط مكان الجرح بثوبها بعد أن مزقته إلى قطع متساوية.. تحامل على نفسه حينما تورّم مكانُ الجرح وانتفخ، وجعله لا يستطيع أن يحرك قدمه التي سببت له عاهة مستديمة بالعرجة الظاهرة في مشيته. استند على كتف زوجته، وهو يجر جسده على الأرض في الدرب الطويل وسط الغابة.. كان الدرب ضيقاً بحيث لا يسمح بمرور شخصين في آن واحد.. طابور طويل من الفارين، كانوا يسيرون في خط واحد مثل ثعبان طويل وضخم: نساء وأطفال وشيوخ طاعنون في السن يحملون متاعاً قليلاً على رؤوسهم التي حرقتها أشعةُ الشمس. كانوا يسيرون لأيام طويلة ويرتاحون لفترة قصيرة، يأكلون الكجيك وثمار الباباي ويشربون الماء من المستنقعات المنتشرة بكثافة في الطريق، كان بعضهم يصنع المريسة من مواد محلية ويشربها دون أن يُضطر للأكل، ولا يعكّر صفوهم سوى دوي المدافع، وقذائف الطائرات وزخات الرصاص التي تنهمر بلا مقدمات فتجعلُهم يهرعون ويحتمون تحت الأشجار. عبر أركانجلو وعدد غير قليل من الفارين الحدود بعد مسيرة شهر كامل من التعب والشقاء، فيما لقيَ الكثيرون حتفهم لأسباب شتّى لكن كانت الشظايا هي السبب الاكثر شيوعاً. استوطن هو واستيلا خيمة بيضاء متوسطة الحجم، داخل معسكر هائل للاّجئين يضم الآلاف ممن شردتهم الحرب. كانت بيئة المعسكر في الأيام الأولى لا تطاق، فكثافة الوافدين يومياً كانت أكبر من حجم الخدمات التي تقدمها المنظمات ووكالات الغوث العالمية: ازدحامٌ وعراك في أماكن توزيع الأطعمة، وطوابير طويلة في انتظار حصة المياه الأسبوعية، وأكثر ما كان يثير حفيظة أركانجلو هي روائح الغائط والبول التي ثنبعث من الطرف الجنوبي للمعسكر حيث يقضي الجميع حاجتهم في العراء بسبب انعدام المراحيض.. ظهرت الأمراض المعدية كالإسهالات والسحائي والجدري الذي أصاب استيلا وجعلها تمكث في الخيمة لمدة شهرين كاملين دون أن ترى أشعة الشمس.. كان يقول لها إنه لن يبقى في هذا المكان القذر، وسيعود أدراجه فوراً وظل يلح عليها بالعودة، وكانت ترد عليه قائلة: (دعنا نكمل هذا الأسبوع، وفي الأسبوع المقبل نعود إلى مدينتنا)، ولكنه – وللمفارقة عاش في ذلك المعسكر نحو أربعة عقود كاملة، أنجب خلالها أبناءه السبعة: إيزابيلا، فرانسيس، دينق، غابرييل، ليزا، أبيول، لوسي. ولم يجد مدعاة لإقناع أبنائه بالعودة لأنهم، وببساطة، لا يعرفون شيئاً عما يحدّثهم عنه، فعاشوا في معسكر اللجوء ودرسوا في مدارسه، وذاكرتهم متخمة ٌبالقصص والحكايا التي يرويها لهم أبوهم عن مدينته الجميلة.

أعاده كبير مراقبي النظافة بالمعسكر إلى واقعه، عندما قطع عليه خيط ذكرياته الهش، طالباً منه العودة إلى تنظيف بقية الغرف والكف عن السهو، وقال له في لهجه حاسمة: (إن عدت مرة أخرى إلى التكاسل والجلوس بالقرب من المكب سأقتطع من راتبك، وربما أقوم بطردك نهائياً إذا لزم الأمر). لم يكترث كثيراً لزجره وتهديداته، فهو قد تعود على مثل هذه التفاهات كما يصفها وإنما عاد إلى غرفة “الخواجية” الطويلة ليكمل نظافتها وربما يصادفها وتمنحه ما تبقى من فضلات طعامها الوفير. كان محتوماً عليه أن ينظف عشر غُرف من بين غرف المعسكر البالغة أكثر من ثلاثمائة غرفة.. كان معسكراً لإحدى المنظمات العالمية الكبرى ويضم موظفين قادمين من كل بقاع العالم: أفارقة وعرب وفرنجة وغجر وهنود وغيرهم من الجنسيات التي لم يسمع بها إلا في هذا المكان. منذ أن عاد من معسكر اللجوء قبل عام ظل يعمل كعامل نظافة في المعسكر الضخم الذي أنشأته المنظمة بعد توقف الحرب الأهلية.. يأتي في الصباح الباكر ويُنجز مهام النظافة الخاصة به مقابل مائة دولار يتسلمها نهاية كل شهر. عاد ومعه غابرييل ودينق ولوسي، بعد أن فارقه الأربعة الآخرون وتشعبوا في دروب الحياة. عادت معه استيلا بقلب مثقل بالهموم وجسد هزيل وشاحب، وشعر رأسها مغطى بشيب رمادي قاسٍ.. صارت لا تستطيع المشي إلا بمساعدة عِصِي طويلة أخذت لون التراب من شدة اتّساخها. المدينة التي ظل وفياً لها طوال فتره ابتعاده عنها لم تبادله الوفاء بل تنكرت له. لم يعرفه أحد، ولم يتعرف هو على ملامحها الجديدة، تركها مدينة ًصغيرة وهادئة تتدّثر بالخضرة والأشجار الكثيفة لا سيما أشجار التك المنتشرة في الشوارع والأسواق.. بيوت واسعة وجميلة وهواء عليل وعدد قليل من السيارات.. تصحو مع شروق الشمس وتنام مع مغيبه. تغير كل شيء.. ثمة بناياتٌ جديدة وشاهقة وسيارات ذات موديلات حديثة تلتهم الطرقات التهاماً وتثير غباراً كثيفا يتعلق في أوراق الأشجار وسوقِها التي تحول لونها إلى اللون البني.. أسواق شيطانية تنبُت كل لحظة يباع فيها كل شيء من لا شيء.. لم يجد بيته الذي تركه أيام الحرب، وجد أناساً آخرين يقطنون فيه بعدما بنوه من جديد على طراز معماري لم يكن موجوداً في أزمان سابقة.. أخبرهم أن هذا البيت بيته، وأنه تركه أيام القتال وهو يريده الآن، بيد أنهم قالوا إنهم اشتروا المنزل من أحد الأشخاص الذي قدم لهم مستندات تفيد بأن المنزل يتبع له. توقف عن الجدال فهو لا يملك أي وثيقة تفيد بأن هذا البيت يعود إليه، وعززت هذه الحادثة إحساسا دفيناً بدأ يتسرب داخله بأن مدينته لم تعد ترحب به. خرج منها نهائياً، وبنى له بيتاً على قطعة أرض خالية في الجانب الجنوبي من المدينة.. كان يبني منزله شيئاً فشيئاً يساعده في ذلك أبناؤه وزوجته الصابرة، كان يشتري المواد الأولية من حطب وقش مما تبقى من نقود راتبه الشهري.. بنى قطية في الأول، ثم سوّر المنزل بالقش، ومع مرور الزمن بنى له قطية أخرى لأبنائه، وظل هاجس يؤرقُه على الدوام، وهو ظهور شخص آخر يدّعي ملكيته للبيت الجديد وهو يعرف أنه لايملك أوراقا في يده. لم يستطع أن يتصالح مع الحياة الجديدة، وأقسم مع نفسه بألا تطأ قدمه الأمكنة القديمة التي كان يعيش فيها، ويجادل زوجته التي تحاول إقناعه بأن الحياة تغيرت ويجب أن يسايرها إذا أراد أن يعيش مثل بقية “البني آدمين”.. كان يقول لها (إنها مدينةٌ ناكرة للجميل ولا تعرف الوفاء فلا تستحق العَناء من أجلها).. داوم على قسمه بدأب نملة فتية، فما إن ينتهي دوامُه في العمل، يخرج من المعسكر ويتخذ شارعاً جانبياً ضيقاً يقوده إلى منزله بعد ثلاث ساعات من المشي المتواصل وغلالة من الأسى وخيبة الأمل ترافقه مثل ظله. لم يحدث قط أن غير طريقه طوال هذين العامين بالرغم من الإلحاح المتواصل من زوجته وزملائه بالعمل بالعدول عن فكرته، ورفع الرهق عن جسده المهدود. الاستثناء الوحيد في قاعدة أركانجلو مع قطيعته للمدينة، كان ذهابه كل َّعصر خميس إلى مرفأ النهر، والاستمتاع بإيقاع الطبول التي يضربها صبية صغار، كان يهز رأسه في إيقاع متناغم مع الضربات بينما تترقرق عيناه بدموع الغبطة.

 

 

* قاص وصحفي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى