ثمار

حامد محمد إدريس هبتيس.. حكاية حبابية

محمد جميل

لا تكاد تجد أحداً يحدثك في شرق السودان عن تراث الحباب وأشعارهم؛ ليس فقط لأن هذا التراث هو أغلب خزين مسكوت عنه للموروث القبلي الشفاهيالمنسي في منطقة جنوب طوكر، بل كذلك لأن لا أحد اليوم تقريبا يملك مفاتيح ذاكرة تاريخية وثيقة للتذكير بنمط تقاليد مجتمع قبائل الحباب الذي ظل على مدى 500 عام يعيد انتاج حياته برسم التصور الحبابي لصيغة العيش وما يتصل بها من طقوس ونظم إدراك. وربما كذلك لأن لا أحد اليوميريد أن يجيّر ذلك التراث لمنظومة العيش التي صبغتها حياة حبابية طوال تلك القرون في ذات المنطقة، بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر.

ومع ذلك، يظل التراث الشفاهي لقبائل الحباب بشرق السودان هو المدخل التاريخي الأول للتعريف بنمط غلب على أسلوب الحياة في منطقة جنوب طوكر وصولاً إلى مدينة نقفا بالساحل الشمالي لإريتريا. فتراث قبائل الحباب غني جدا، ليس لأنه، فقط، ينطوي على حكايات ووقائع وقصص وأشعار؛ بل يعكس في مجموعه نمطا لتقاليد حياة ونظمكلاسيكية للعيش تحمل هوية خاصة بها، ومميزة وفق تصورات طبعت حياة قبائل الساحل الممتدة بين شرق السودان وغرب إرتريا لأكثر من خمسمئة عام.

الأخ حامد محمد إدريس هبتيس هو أحد القلائل الذين يتميزون بذاكرة حية للكثير من مرويات ذلك التراث الحبابي العريق؛ فهو، إلى جانب الحفظ، يمتلك تنويعا فريدا في سرد الأشعار والروايات، وضبطا جيدا لمحتوى الأشعار، إلى جانب قدرة على أدائها وفق طريقة النمط القديم الذي ذكره العلامة (إينو ليتمان) في وصف طرائق شعراء الحباب في أداء الأشعار وفق طقوس تعكس هيبة للشعر.

مصدر حامد محمد إدريس هبتيس في حفظه لمواد تلك الذاكرة الحية من مرويات الحباب مصدر وحيد، هو السماع؛ حيث ظل السماع هو آلية التلقي الوحيدة لنقل تلك المعرفة التراثية الضخمة. حتى أن مؤرخ شرق السودان المرحوم محمد صالح ضرار كان يعتمد على السماع من كبار شيوخ الحباب لتدوين كتابه (تاريخ الحباب والحماسين) تميز الأخ حامد محمد إدريس منذ صباه الباكر بحافظة قوية، وذاكرة حديدية جعلته يراكم مرويات كثيفة لا تزال حتى اليوم في حاجة إلى من ينقلها عنه ويدونها عبر جهود توثيقة للحفاظ عليها. ذلك أن تاريخ الحباب، وخصوصاً تاريخ زعماء الحباب (الكَنَتِّبْ) ــ ومفردها كنتيباي ــ تاريخ حافل بالمواقف المثيرة، والأحداث الدرامية، التي تعكس عمليات انتقال السلطة في قبائل الحباب (وهي أكبر قبيلة شهدت صراعات دموية على السلطة دون غيرها من قبائل البجة بحسب المؤرخ محمد صالح ضرار) فقد وفرت عمليات الانتقال للسلطة بين كنَتِّبْ الحباب وما كان يصاحبها من أحلاف وعهود ومعارك وتحولات وانشقاقات قد وفرت مادة غنية من الحكايات والأشعار والطرائف التي يعتبر حامد محمد إدريس أهم العارفين بها بين أبناء الحباب اليوم.

إن قوة المعرفة التي يستحضر بها الأخ حامد الأحداث من الذاكرة قوة نادرة ولعله من المؤسف اليوم أن لا نجد من أبناء الحباب من يهتم بتوثيق هذه المعرفة من الأخ حامد محمد إدريس، إلا نادرا، في زمن أصبحت فيه إرادة طمس تاريخ قبيلة الحباب في منطقة الساحل ــ حيث هذا التاريخ هو المفتاح الوحيد تقريبا لفهم طبيعة الحياة القبلية فيها ــ أشبه بالإثم الذي يمارس في الظل ولأسباب لا علاقة لها بالموضوعية.

 إن أهمية المعرفة التي يختزنها أشخاص نادرون من أمثال أخونا حامد محمد إدريس هبتيس، يمكن أن تكشف لنا الكثير من الحقائق حول بعض مجريات الأحداث في تاريخ الحباب؛ فالضبط الذي عرف به الأخ حامد من ناحية، وكبار شيوخ الحباب الذين أخذ عنهم حامد التاريخ والشعر والروايات من ناحية ثانية، يضعنا أمام معرفة يمكن على ضوئها إدراك الكثير من حقائق تاريخ الحباب.

حامد محمد إدريس
حامد محمد إدريس

تتوزع المرويات التي يرويها الأخ حامد محمد إدريس هبتيس على جملة من قصائد كبار شعراء الحباب وعمالقتهم من أمثال الشاعر : أمير ود قبة ـ الشاعر ود قمريت ـ الشاعر ود عوال ـ والشاعر عجيل ود هداد، والشاعر إياسو ود هبتيس والشاعر علي قطين؛ إلى جانب أشعار بعض كَـنَتِّبْ الحباب من أمثال كنتيباي إدريس هداد (جد الأخ حامد) وكنتيباي محمد جاوج، وكنتيباي حامد بيك حسن وحتى كنتيباي محمود. وإلى جانب التوثيق والضبط لتلك المرويات الشعرية النادرة ثمة حاجة إلى ترجمة تلك الأشعار من لغة التقرايت (التي يتحدث بها بنو عامر والحباب في شرق السودان) إلى اللغة العربية، لأن من شأن هذه الترجمات أن تشكل إضافة حقيقية لصورة من صور التراث السوداني إلى الذاكرة العربية في السودان.

ترتبط معرفة حكايات الحباب وأنسابهم وأشعارهم ومعاركهم بمصداقية كبيرة لدى الأخ حامد محمد إدريس. ذلك أن الحباب بوصفهم ” أمة ناطقة ” يأخذ فن القول لديهم مكانة عالية، سواء لجهة الأشعار أو لجهة الفصاحة، أو لناحية قدرتهم على صياغة أمثال سائرة من حياتهم اليومية؛ فللحباب قدرة نادرة على توثيق الحدث الدرامي المتصل بيوميات الحياة في الذاكرة الحبابية، حيث يخضع الحدث لأهمية كبيرة، وتعاد صياغته إما شعرا، أو من خلال الأمثال والتداول الحي، فتتم إعادة إدراجه في مرويات الآباء والأجداد التي هي ذاكرة متجددة مع الأجيال في انتاج المعرفة الخاصة بهم، بفعل العزلة الطبيعية والجغرافية لبلادهم عن العالم الخارجي لأكثر من 500 سنة، كما يقول الكاتب الإيطالي / الأمريكي (أنتوني دو فراي) في كتابه عن الحباب بعنوان : (لوردات البحر الأحمر). وهذا الاتجاه لجعل مجريات الحياة الحبابية وقيمها أمثولة مستعادة في الذاكرة تغذيه دوافع عديدة منها: جلب الصيت والشهرة، ومنها تسجيل الموقف الذي تقتضيه مواضعات وقيم الحياة الحبابية،ومنها تجنب سوء السمعة التي يمكن أن تنجر عن المواقف السلبية؛ كل تلك التمثلات ظلت إحدى ملامح الحياة السامية (حتى لا نقول العربية) التي جعلت من نمطها المتصل بقيمة الكلام الناطق والمرتبط بالأمثولة ومفارقات الأحداث اليومية، نمطا مفارقا للثقافة الكوشية التي جاورت حياة الحباب وشاركتها في مسمى البجا (الحباب هم أقدم نظارة في مكونات قبائل البجا الحديثة). لذلك لميكنغريبافيهمالتأثير الساحر لقوة الحكايات والأشعار وما تتركه من أثر رهيب علىمسار حياتهم حين ندرك مثلا ماتضمره تلك المرويات الشعرية من حساسية فعالة بين بعضهم البعض في العديد من المواقف، إلى درجة يصبح معها: كل من يملك ذاكرة قوية وحافظة للوقائع والأشعار وخلفياتها، يصبح بمثابة شخص ذي سلطة رمزية خطيرة، لا تقاوم ويحسب لها ألف حساب، مهما كان صاحب تلك الذاكرة صغيراً أوفقيراً.

مجلس كنتيباي التعذيب بالصمت

مجلس كنتيباي (ناظر قبيلة الحباب) والذي يعرف بـ(المحبر) هو بالنسبة للحباب طقس ممتع لـ”هايد بارك” بدوي، لذا فإن أقصى عقوبة يمكن أن يوقعها كنتيباي على شخص ما هو : أن يمنعه من حضور (المحبر). وذات مرة منع كنتيباي أحد رجاله من حضور المحبر، لكن هذا الأخير التمس تخفيفا للحكم؛ فاشترط عليه كنتيباي الجلوس صامتا؛ وحينما بدأت الجلسات الشيقة والردود والخطب واشتد النقاش، سمع الرجل كلاما لم يعجبه، ولأنه كان ملتزما بالشرط، قام بهز راسه يمينا ويساراعلى سبيل الاعتراض، حينها أمره كنتيباي بمغادرة المجلس لأنه أخل بالشرط. فخرج الرجل من المجلس قائلا (حتى رأسي لم تسلم منك يا كنتيباي) !

كنتيباي
كنتيباي

إن الخزين الموروث في الذاكرة الحبابية والمتصل بالحكايات والوقائع والمعارك وما سالعلى هامش تلك الأحداث من أشعار وقصص وحكايات على مدى 5 قرون ظل باستمرار بمثابةالسلطة الرمزية للتقييم السلبي والايجابي لحيوات الناس فيأرض الحباب. ولهذا مثلا نجد في بيوتات الحباب المختلفة ألقابا ونعوتا تتجدد مع الأزمنة وترتبط بأشخاص من تلك البيوتات نتيجة لمواقف تاريخية وحياتية، وهي ألقاب تكاد تكون موجودة في كل أسرة من أسر الحباب.

الدكتور هاشم الخليفة

لابد من تحية للباحث الصديق الدكتور هاشم الخليفةعثمان أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة النيلين. والذي شكل اهتمامه بتاريخ الحباب وموروثهم الثقافي مفاجأة كبيرة له من خلال اطلاعه على الكتابات الإنجليزية والإيطالية التي وجدها تؤرخ لمجتمع الحباب على مدى 5 قرون، بعد ذلك تواصلت علاقات الدكتور هاشم الخليفة بأبناء الحباب في شرق السودان و طور معهم صداقات متينة توجت بالمحاضرة الكبيرة التي ألقاها الدكتور هاشم الخليفة بنادي الخريجين في مدينة بورتسودان عام 2014م عن سيرة وتاريخ كنتيباي حامد بك، أحد أبرز زعماء الحباب في التاريخ المعاصر. بمناسبة مرور مئة عام على ذكراه.

* شاعر وكاتب من السودان

* تم النشر تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تصدره جريدة السوداني

زر الذهاب إلى الأعلى