ثمار

فصل من رواية: (هزّة غباء ساحرة)

“بـيـن أن يـحـب الـمـرء وبـيـن أن يـظـن أنـه يـحـب وحــده الإلـه بـمـقـدوره أن يـمـيـز بـيـن الـحـالـتـيـن”

أنــدريــه جــيــد

 

 

 رأسي لم يعد يحتمل سخافات ضرغام. لا أدري كيف أرفع تقريراً عنه لعبد الـودود فقيري؛ هذا الكائن البشري سلبي بامتياز. فشلتُ وفق الخطة المرسومة يا عبد الودود في جعله سلبياً وإيجابياً في ذات الوقت. قد يكون الخلل في الفأر الوطني، المدعو كِرنَاس، الذي ذهب برجليه إلى مختبرات أمريكا. لا شك أنه غـبي غباءً مطلقاً. عند اختفاء فئران المدينة جميعها حالما سمعت نبأ التفتيش عنها بأمر من تاج السر المُسَلَّمي شخصياً، كان كِرنَاس وقتها يتغزل في جسد البنت سلمى عبد السلام، عندما تدخل عليه في الحمام الذي اعتبره مملكته الخاصة، ظل يختبئ خلف آلة غسل الملابس الصمَّاء، ليتمعن في تفاصيل جسدها الشهي، ويحفظ عن ظهر قلب كل تحركاتها داخل مملكته، يحتفظ بشهوته طازجة إلى حين دخول شقيقها سليم عبد السلام، ليَسْتَمْنِيَ معه، ثم يبحلق في لوحاته العاهرة التي يرسمها.

لماذا يا عبد الودود فقيري، لا ترسل رجالك مرة أخرى ليداهموا منازل المواطنين، بحثاً عن فأر ذكي ولماح، لإعادة إنتاج التجربة من جديد، فأنا لا ذنب لي إذا وصلك تقريري هشاً وضعيفاً، لا يحقق شيئاً من النتائج المرجوة.. سأتقدم باستقالتي من هذه الوظيفة، أو يتم إخراجي من جوف هذا الرجل، ومن أحاسيسه المتبلدة، وإرجاعي مرة أخرى كقطرة طازجة في محلول كِرنَاس، وإسقاطها في صهريج ماء قابع في جانب آخر من جوانب المدينة المتعددة، علّني أصادف شخصاً ممتلئاً بالإيجابيات.. شخصاً إيجابياً يتدفق لأقوم بتخفيض مستوى هذا التدفق وأجعله سلبياً بذات مقدار إيجابياته، وإلى أن يحين موعد ردكم على استقالتي، سأكف عن مخاطبته وحثه لرفع مستوى إيجابياته المنخفضة جداً، وسأترك له الحبل على الغارب، ليخاطب طفلاً لا يسمعُه ولا يستجيب له، ولا يعيرُه اهتماماً كيفما اتفق. سألعب سيادة العلامة عبد الودود فقيري دور المراقب.. وهذا كل ما لديّ من إفادات.

… … …

انتبه ضرغام لصمتي، وظَنَّ في بداية الأمر أنها مجرد استراحة محارب، وبعدها سأعود أكثر قوة وأكثر إلحاحاً، لكن طال صمتي وطال انتظاره، وعندما تأكد من أن صمتي سيطول كثيراً، استنشق رائحة انتصاره معلناً عن فَرَحَهُ؛ أشعل سيجارة أخرى وضغط بأصبعه على زر جهاز تسجيل موضوع بجانبه على طاولة قصيرة ذات ثلاث أرجل.. انسابت أغنية شعبية راقصة ظل يستمع لها بهدوء:

الشمس غابَتْ وينو القَمَر طيب..

عينَ العَدو وصابَتْ نسيتْنِي ياحْبَيِّب..

ورِّيني بسْ في شنو نسَّاكْ مواعيدنا..

ميعادنا حددناه وكتبنا بي إيدنا..

وفجأة أطفأ سيجارته، رقص على إيقاع الأغنية كما لم يرقص من قبل حتى خارت قواه من شدة ابتهاجه بصمتي، تماماً كما رقص من قبل العلامة الخبير عبد الودود فقيري، عندما تلقى مكالمة من البيت الأبيض، تخبره بأن فأره الوطني قد وصل لأمريكا وحده، بعد رحلة طويلة شاقة، كان ضحيتها صديقه الهامستر السوري الذهبي اللون.

أوقف صوت الموسيقى حالماً.. رأى ابنه يتوسط فراشه ويدلك عينيه بيده.. زاد من فرحه معتقداً أن الدنيا قد بدأت تبتسم له، فها هو موظف الوقت الكامن في داخله يمارس عادة الصمت النبيلة، ويكتفي بالمراقبة ورفع حاجب الدهشة فقط، وها هو ابنه ينتبه له ويجلس بملء إرادته، ليستمع لحكايته مع أمه، ليرى كيف تزوجها وكيف تركها خلفه، وليسرد له أيضاً مبررات وجوده في هذه الحياة بلا عمل. اعتدل في جلسته، وضع عينه في عين نادر وشرع في التبرير، خرج صوته ليِّناً ومشحوناً بذرات من الحماس الفاضح، وهو يقول له:

–       اعذرني يا نادر فحكاية أمِّكَ تفرُّ منِّي في كل مرة كما تَفِرُّ دجاجة من مواجهة قط شرس.. احتسِ عصير البرتقال وانتبه لي جيداً حتى نلحق بأوان الذهاب إلى الروضة ليكون لديك من الآن وصاعداً جدول زمني محدد..

تعرف يا ولدي، لو كان كبير الإداريين في القلعة السوداء، رجلاً متفهماً لما طال الأمر هكذا، ولما كنتُ أنا هنا، وما كنتُ تركتُ عملي في مراقبة الناس، لكن ماذا أفعل فقد حاولت أن أشرح له الأمر أكثر من مرة، تمنيتُ أن أقول له إن قذارة القطط التي تلهو أسفل برج المراقبة تضايقني، وتصرف انتباهي عن عملي.. ردة فعله العصبي ذكرتني بمعدل ذكائي المنخفض، عرفت أنني لا أجيد التوقيت. دخلتُ عليه، أديتُ التحية العسكرية كما ينبغي أنْ تُؤدَّى.. انشغل بالهاتف في حديثمع شخص لا أعرفه، وبلهجة باردة مطيعة لا تخرج عن دائرة حاضر.. حاضر يا سيدي. أغلق هاتفه، غيَّر ملامحه وواجهني، بكلمات حادة استنطقني.. خرجتْ عباراتي هزيلة مرتبكة اختصرتها في أن الرائحة الكريهة التي تصدر من تجمع القطط أسفل برج المراقبة تعوق عملي وتزعجني كثيراً، وأخاف أن تصل إلى مكاتبكم الفخمة، رغم أنف أجهزة التبريد، ومن الأفضل أن نفض تجمعها بقوة السلاح، فقط نريد من إصبعك الصغير أن يتفضل ويهبنا إشارة خفيفة وسنشرع فوراً في مكافحة الشغب..

كتلميذ صغير في سنته الدراسية الأولى، استقبلت بصدر رحب ألفاظه الفظَّة، تسللت من بين أسنانه الصفراء بفعل التدخين الشرهة ضحكة كالصراخ. اتهمني بأنني لا أجيد عملي!.. أترك ما عليّ من مهام جانباً، وأتسلق أعلى البرج يومياً، لأراقب القطط، ومن الذي أعطاني الإذن بأن أنظر لأسفل..؟، وأن شغلي الأساسي يكمن في مراقبة الإنسان لأخيه الإنسان. رفع سبابته قريباً من وجهي ثم ضرب بها سطح المكتب.. لفظ كلمات مضغوطة هذه المرة وزاد من اتهامه، وقال إني مبدد للمال العام، أتقاضى أجري كل شهر، مقابل أن ألهو مع القطط، بينما السجناء يفرون عبر بوابة السجن، ولا يوجد مراقب واحد يستوقفهم. بعد هذه المقابلة الشرسة، قررتُ أن يكون جُلَّ اهتمامي في عملي، وأن لا أنظر إلى أسفل قدر المستطاع..

في اليوم الذي تلا مقابلتي له جئت مبكراً، فتحتُ باب البرج ووضعتُ رجلي على أول درجات سلمه اللولبي.. وصلتُ قمته.. أشهرتُ بندقيتي وتنزهت بنظري حول القلعة، أستكشفُ ما يدور في داخلها وخارجها. في المحيط الخارجي رأيت مدرسة (الأذكياء) القريبة من بوابة السجن تطلق صراح دفعة من الطلاب صغيري السن.. ضجيجهم يؤانسني.. أبطأتُ في الدوران. استعدَّ تلميذان للعراك، تجمع الصغار حولهما. لم يصرع أحدهما الآخر، اكتفيا بتبادل اللكمات. تدخل طفل آخر أكبر سِنَّاً وفضَّ الاشتباك. تبرع أحدهم وجلب حجرين وضعهما في شكل أفقي. وقف كل من المتعاركين فوق الحجارة. الطفل الذي أراه على يميني ويقف على الحجر الأكبر حجماً كان في الثامنة من عمره، حليق شعر الرأس، أسمر البشرة، ضعيف البنية، يميل للطول، ينتعل حذاءً بلاستيكياً، تلتف حول عنقه تميمة كتبها شيخ أمي على حبة خردل، جلبابه أبيض قصير، يعاني من ضعف في البصر، في حاجة ماسة لعدسات طبية. فَرَكَ عينيه وبدأ في المناظرة مع زميله الآخر. قال بحروف واضحة المخارج، إن المدرسة كلها من الصف الأول إلى الصف الثامن تعلم أن أباه دخل السجن فقيراً، وحتى ثيابه في غيابه كانت بالية ومهترئة، وعندما خرج من السجن صار ثرياً في نفس الليلة التي خرج فيها، فهل هو دخل السجن أم دخل صندوق النقد الدولي؟!.

تَمَلْمَلَ الطفل الآخر وهو يستعجل فرصته في الحديث. رتب شعره المنسدل عل كتفيه بعناية، رفع حزامه لأعلى، فتح حقيبته الجلدية المعلقة على كتفه، وأخرج منها منديلاً ورقياً، مسح وجهه وشفتيه، مزج الكلام بالضحك وخاطب الجمع الملتف حولهما، وهو يشير إلى خصمه موضحاً أن الذي أمامه يعيِّرُه بأن أباه أصبح ثرياً فجأة، فما العيب في ذلك؟، ولن يجادله لأن عائلته لا تعرف أسرار الأرقام، لكن ليسأل أمه التي أعياها الركض في دهاليز المحاكم، ففي كل مرة يقوم القاضي بتطليقها طلقة واحدة من زوجها الجديد، تظن بذلك أنها جففت دموع الإعسار للأبد.

حاولتُ أن أضحك على هذا المشهد الطفولي الناضج، ولكن شعرتُ بأن دموعي تُبَلِّلُ لحيتي. جذبتُ بندقيتي أكثر حالما زاد مواء القطط من تحتي، انحنيتُ نصف انحناءة ورأيتها، زاد عددها بشكل كبير، وجوه كثيرة تأتي لأول مرة، ذكور وإناث، اجتمع الكل دون ضجيج. تمسح كل واحدة فروتها في ظهر الأخرى.. المواء ينخفض تدريجياً.. تتعرى الواحدة تلو الأخرى، تتكاثر علناً، تمارس الفاحشة أمامي ولا تخاف. عدد الإناث يفوق عدد الذكور.. صراع عنيف بين الإناث.. استسلمت بعض الذكور ورفعت الراية البيضاء.. أغلقتُ فمي بيدي، أجهضتُ عملية استفراغ كادت أن تفرغ بطني من محتوياتها. قلت لنفسي إن الوضع صار لا يُحتمل، وسأشرحُ لكبير الإداريين خطورة الموقف الذي يزداد سوءاً.

بعد انتهاء ورديتي، هرولت جهة مكتبه، طرقت بابه بلطف، سمعتُ صوته يرحب بالطارق، دخلت وأديتُ التحية العسكرية. ظل صامتاً ينتظرني أن أبدأ.. جمعت قواي وقلت له بطريقة حاسمة إن رائحة المخلفات الكريهة التي تخلفها تجمعات القطط أسفل برج المراقبة يا سيدي مقدور عليها، ولكن أن تشاهد ممارسة الفاحشة يومياً وفي العلن هذا ما لا يجب السكوت عليه..

كان مزاجه في حالة جيدة إلى حد بعيد، أو قد يكون معدل ذكائي قد ارتفع قليلاً، وتعلمتُ كيف أختار بعناية التوقيت المناسب لمقابلته. فجأة تغير مزاجه كمن تذكر حادثة محاولة هروب أحمد بابكر. جمع الإداريين وكبار العساكر والضباط وشكلوا من حولي دائرة، ثم شيدوا في نصف قطرها جداراً من الابتهاج يفصلني عنهم. ختم كبير الإداريين وفق طريقته المستفزة في الكلام الحفل.. أثار في وجهي جملة اتهامات، قال ضمن ما قال إنني لا شيء يثير فضولي في هذا الحياة غير القطط، كما أن الجنس هاجس مزمن يسيطر على تفكيري، فالقطط علمياً لا تمارس الجنس علناً أو جماعياً، وأيّ طفل في مدارس الأساس يعلم أن القطط أكثر مخلوقات الله حياءً. وضع نقطة وقف حازمة لاتهاماته ثم أمرني بإشارة منه أن أنصرف وهددني إذا ما رآني مرة أخرى أعيدُ نفس الكلام بأنه سيوفر لي سريراً مريحاً في مصحة الأمراض العقلية. لَمْلَمْتُ أطرافي المُهانةَ وخرجتُ منه بذات الطريقة التي دخلت بها عليه..

في صباح اليوم التالي، رأيت كبير الإداريين من أعلى البرج خلف زجاج نافذة مكتبه واقفاً، يضع بين عينيه منظاراً أكثر حداثة من ذلك الذي يخبئه في سطح دولابه، يمسك المنظار بيد واحدة، يلصقه في عينيه ويوجهه صوب القطط التي تلهو أسفل البرج، بينما لم أستطع أن أرى يده الأخرى بوضوح، وهي تتحرك أسفل حزامه العريض. شَعَرَتِ القطط بأن هناك من يراقبها بتلذذ، فَضَّتِ اجتماعها وتفرق ضيوفها وظلَّتْ تتصارع في اللاشيء، وبسبب هذا اللاشيء طريحٌ أنا الآن في سريري الأبيض بعدما أعلنتُ جُبني ورميتُ بندقيتي، وأنهكتُ قواي في الدوران. سأظلُّ نائماً حتى يأكل الملل صبر من حولي ويعلنوا عن أوان المغادرة ليتركوني وحدي علّني أتذكر بأني في يومٍ من الأيام كنت جندياً شجاعاً من جنود الوطن.

 

 

 

* روائي من السودان

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى