الشاعر والطفل وتوسيع العالم
عالَمُ الطفولةِ عجيبٌ ومدهِشٌ، وهذا هو الحالُ مع عالَمِ الشعر، كلما كان إبداعُ الشاعرِ عجيباً ومدهشاً، كلما ارتفعتْ قيمتُه.
الطفلُ شاعرٌ، والشاعرُ طفلٌ، يَبردُ الشاعرُ حين يَبردُ الطفلُ الذي بيْنَ جَنبيْهِ، الناسُ جميعُهم يُضَحُّونَ بالكثيرِ، كلما ابتعدوا عن أطفالٍ ما يزالون في أجسادِهم.
مقياسُ الأطفالِ وهُم يَنظرونَ للعالَمِ رَحبٌ جداً، ولهذا يكونُ عالَمُهم رحباً، عالَمُ الأطفالِ هو ذاتُهُ عالَمُ الكِبار، لكنَّ عالَمَ الأطفالِ عجيبٌ ومدهِشٌ، وعالَم الكِبارِ ضامِرٌ ورَتيب.
الرغباتُ تتحكَّمُ في رؤيتِنا للعالَمِ، توسِّعُ منظارَنَا أو تُضَيِّقُه، كلما ضغطتْ علينا الرغبةُ في الطعامِ، لا نريدُ مِن العالَمِ سِوَى المائدةِ، عندما يَضغطُ البولُ على مَثَانَتِنَا لا نريدُ مِن العالَمِ سِوَى الحَمَّام، عندما يَضغطُ علينا النومُ لا نريدُ مِن العالَمِ إلا السريرَ، عندما نذهبُ للتسوقِ لا نُبصِرُ في العالَمِ سِوَى الدكاكين، ما نَرغبُ فيه نبصِرُه في الواقعِ أو الخَيَال، كيف يمكِنُنَا رؤيةُ العالَمِ ونحن لا نرغَبُ في رؤيةِ العالَم؟
نُبصِرُ العالَمَ عندما نرغبُ في رؤيةِ العالَم، نحن نُبصِرُ شارعًا ونُسَمِّيه العالَمَ، نادراً ما نرغبُ في رؤيةِ العالم، والشعرُ نافذةٌ مذهِلةٌ لرؤيةِ العالَمِ .
السرُّ في المنظارِ، نولَدُ بمنظارٍ كبيرٍ، لكنه يَضيقُ كلما غادَرْنَا الطفولةَ، تمتلئ حياتُنَا بالأهداف، فلا نُبصِرُ إلا ما يرتبِطُ بأهدافِنَا التي نختصِرُها في عبارة ” أكْل العيش” ، ما يدعمُ أكْلَ العيش نرعاه، وما لا يرتبطُ بأكْلِ العيش ننبذُهُ، رويداً رويداً يَضيقُ العالَمُ ويصبِحُ مثلَ خَرْمِ إبرة، كثيراً ما يشعرُ الإنسانُ بأنه جَمَلٌ وعليه أن يَعبُرَ مِن خَرْمِ إبرة، كثيراً ما سمعتُ رَجُلاً يَحكي عن العالَمِ وقد صارَ أضيقَ مِن خَرْمِ إبرة.
الإنسانُ هو خَرْمُ الإبرةِ والعالَمُ هو الجَمَل، واجِبُ الشعرِ هو كشْفُ تلك الحقيقة، ما نعتبِرُه العالَمَ ليس هو العالَم في الواقع، ما يَظهرُ عبْرَ منظارِنا الضيقِ يَحبسُنَا فيه، نحسبُه العالَمَ ونرتِّبُ حياتَنَا وفْقَ ذلك الأساس، واجِبُ الشعرِ هو توسيعُ المنظار، أي توسيعُ العالَم، واجِبُ الشعرِ هو غسْلُ المنظارِ مِن أثرِ السنوات، والرجوعُ بحالتِه إلى ما كان عليه أيامَ الطفولةِ على الأقل، إذْ يُمكِنُ للمنظارِ أنْ يَتَّسِعَ كثيرًا حين يتعاونُ طفلٌ وشابٌ وكهلٌ يقيمونَ في جسدٍ واحد.
أهدافُ الأطفالِ تختلِفُ عن أهدافِ الكِبار، الأطفالُ أكثرُ تواصُلا مع العالَمِ بخلافِ الكِبار، الأطفالُ مَثَلا، يَجمعونَ أصدقاءَهم ببراءةٍ، لكنَّ الكبارَ يُصادِقونَ بحسابات، ماذا سينفَعُني ذلك الصديقُ؟ كلُّ ما يَملِكُ نفعًا ينبغي أن يكونَ صديقي، كلُّ مَن يُعطِّلُني ينبغي قَطْعُ صِلتي به. هكذا نَبني جحيمَنا الأرضيَ خطوةً خطوة. الأطفالُ والشعراءُ لا يفكِّرونَ هكذا، الطفلُ والشاعرُ يَقبَلونَ صداقةَ كلِّ شيءٍ إنسانًا، أو نَبَاتًا، أو جَمَادًا.
عالَمُ الأطفالِ أكثرُ ثَرَاءً بالأصدقاءِ مِن عالَمِ الكهول، لم يتغيَّرِ العالَمُ عندما كَبروا، هُم تَغيَّروا، ابتعَدوا عن طفولتِهم وتَغَيَّروا، الشاعرُ يَكسِرُ المسافةَ بيْنَ الطفلِ والكهل، يُثرِي الطفلَ بالكهل، ويُثرِي الكهلَ بالطفل، لا تكونُ الحياةُ خَرْمَ إبرةٍ بالنسبةِ لإنسانٍ يَعرِفُ الشعرَ.
* شاعر من مصر