عن ظلال لوليتا*
الجزء الأول من حوار فلاديمير نابوكوف لمجلة البلاي بوي / أجراه الفين توفلر - يناير 1964.*
“متاعب عظيمة حدثت على كلا الجانبين لتحقيق وهم إجراء محادثة عفوية. في الواقع، مساهمتي المطبوعة تتفق بدقة مع الإجابات، كل كلمة منها كنت قد كتبتها بخط اليد قبل أن أقدمها مطبوعة لتوفلر عندما قدِم إلى مونترو، في منتصف مارس 1963. النص الحالي يأخذ بعين الاعتبار ترتيب أسئلة حواري، فضلاً عن أن بضع صفحات متتالية من مخطوطتي اليدوية قد فقدت خلال النقل.” نابوكوف .
مع ظهور النسخة الأمريكية لروايتك لوليتا عام 1958، سمعتك وثروتك تناميا تقريباً بين ليلة وضحاها، من شخص مشهور بين مدعي الأدب وهي السمعة السيئة التي حظيت بها لأكثر من ثلاثين عاماً إلى هتاف استحسان وإساءة، بينما يعيد العالم اكتشاف كاتب حسي يحقق كتابه أكبر مبيعات. في أعقاب إثارة الاهتمام بهذا الشكل، هل ندمت يوماً على كتابتك للوليتا؟
على العكس، ارتعد بأثر رجعي عندما أتذكر أنه كان هناك لحظة في عام 1950، وثانية في عام 1951، عندما أوشكت على إحراق المذكرة الصغيرة السوداء لهمبرت همبرت. لا، أبداً لست أسف على لوليتا. لأنها كانت مثل التكوين الجميل لأحجية– تكوينٌ وحلٌ في نفس الوقت، بما أن أحدهما هو مرآة الأخر، وذلك يعتمد على الطريقة التي تنظر بها. بالطبع لوليتا طغت تماماً على أعمالي الأخرى على الأقل تلك الأعمال التي كتبتها بالإنجليزية: سيرة سباستيان نايت، الشر الملتوي، قصصي القصيرة، كتاب الذكريات؛ ولكنني لا أستطيع أن أحمل لها ضغينة. لأن هناك سحر عذب وغريب حول أسطورة الفتاة الصغيرة الجذابة.
على الرغم من أن كثير من القراء والنقاد الأدبيين قد يختلفون حول كون سحرها عذب، والبعض قد ينكر أنها غريبة إلا أن المخرج ستانلي كوبريك عندما اقترح خطته لصنع فيلم لوليتا، نُقل عنك قولك، “بالطبع سيضطرون لتغيير حبكة الرواية، ربما سيجعلون لوليتا قزمة. أو سيجعلونها في السادسة عشر وهمبرت في السادسة والعشرين.” لكن في النهاية كتبت السيناريو بنفسك، نقاد مختلفين اعتبروا أن الفيلم عمِل على تمييع العلاقة المركزية. هل كنت راضياً عن المنتج النهائي؟
أعتقد أن الفيلم كان من الدرجة الأولى. الممثلين الأربعة الرئيسيين يستحقون أشد المديح. سو يون وهي تحضر صينية الفطور، أو تسحبها بطفولية على سترتها التي في السيارة– كانت هذه لحظة تمثيل وإخراج لا تنسى. مقتل كويلتي كان تحفة فنية، وكذلك وفاة السيدة هايز. لا بد لي من الإشارة إلى أنه لم يكن لي أي علاقة بالإنتاج الفعلي. والذي لو كان لي، لكنت أصررت على التأكيد على بعض الأشياء التي لم تكن مؤكدة– على سبيل المثال، الفنادق المختلفة التي مكثوا فيها. كل ما فعلته كان كتابة السيناريو، لكن جزء الهيمنة كان يستخدم من قبل كوبريك. “التميُع” إن وجد، فهو لم يأت من توضيحي.
هل تحس أن نجاح لوليتا المزدوج أثر على حياتك سلباً أم إيجاباً؟
لقد تخليت عن التدريس– كل هذا في سبيل التغيير. انتبه، أنا أحبُ التدريس، أحبُ جامعة كورنيل، أحبُ التأليف وإلقاء المحاضرات عن الكُتاب الروس والكتب الأوروبية العظيمة. لكن في عمر الستين، وخاصة في فصل الشتاء، يبدأ المرء في مواجهة صعوبة في العملية المادية للتدريس، الاستيقاظ في ساعة محددة كل صباح، الصراع مع الثلوج في الدرب، المسيرة الطويلة خلال الأروقة للوصول إلى القاعات الدراسية، المجهود الذي يُبذل في رسم خارطة لدبلن جيمس جويس على السبورة، أو ترتيب العربة شبه النائمة في سانت بطرسبرغ- موسكو في القطار السريع في بواكير 1870، دون فهم عوليس ولا أنا كارنينا على التوالي، لاستخراج معنى.
لسبب ما كانت أكثر ذكرياتي حيوية تتعلق بالامتحانات. المدرج الكبير في غولدوين سميث، امتحان من الساعة الثامنة صباحاً وحتى العاشرة والنصف صباحاً حوالي 150 طالباً شباب صغار وسخين وغير حليقين، ونساء صغيرات مهندمات بشكل معقول. شعور عام بالضجر والكارثة. الساعة تقترب من الثامنة والنصف، كحة خفيفة، تنظيف الحنجرة المتوترة، يأتي في عناقيد صوتية، حفيف الصفحات. بعض الشهداء يسقطون في التأمل، وأيديهم معقودة خلف رؤوسهم. الالتقاء بنظرة قاتمة موجهة إلي، توجِه نحوي أملاً وكرهاً باعتباري مصدر المعرفة المحرمة. فتاة ترتدي نظارة قدمت لطاولتي لتسأل: “بروفيسور كافكا، هل تريدنا أن نقول ذلك …؟ أم تريدنا أن نجيب فقط على الشق الأول من السؤال؟” الأجوبة الكبيرة للحاصلين علي تقدير منخفض، العمود الفقري للأمة، خربشة باطراد، خشخشة تنشأ في آن، الأغلبية فتحوا صفحة في كتيب الأجوبة، عمل جماعي رائع. هزة معصم مكتظ، فشل الحبر، مزيل الروائح الذي ينهار. أرصد أعين موجهة إلي، على الفور يوجهونها نحو السقف في تأمل رائع. زجاج النوافذ يصبح ضبابياً. ينزع الفتية ستراتهم. تمضغ الفتيات العلكة بإيقاع متسارع. عشر دقائق، خمس، ثلاث، انتهى الوقت .
تُشيد في لوليتا نفس نوع المشهد المنحوت الذي وصفته الآن، العديد من النقاد قد وصفوا روايتك بأنها تعليق اجتماعي بارع وساخر عن أمريكا. هل هم على حق؟
حسناً، بإمكاني فقط أن أكرر أنني لم يكن لدي النية أو المزاج للسخرية الأخلاقية أو الاجتماعية. إذا كان النقاد يظنون أنني أسخر من الحماقة الإنسانية في لوليتا فأنا لا أبالي بذلك على الإطلاق. لكنني أنزعج عندما تنتشر الأخبار السعيدة حول أني أسخر من أمريكا.
لكن ألم تكتب بنفسك أنه “لا شيء أكثر إمتاعاً من ابتذال مثقف أمريكي”؟
لا، أنا لم أقل ذلك. تلك العبارة قد أخرجت من سياقها، ومثل سمكة أعماق بحار مستديرة، قد انفجرت خلال العملية. إذا بحثت قليلاً في القطعة الصغيرة التي تليها، ” في كتاب بعنوان لوليتا،” والذي ألحقته بالرواية، سوف ترى ما قلته حقاً في الإشارة إلى ابتذال المثقف والذي أحس أنه فعلاً أكثر الأشياء إمتاعاً ، لا يوجد فرق بين الأخلاق الأوروبية والأمريكية. وقد أكملت كلامي وقلت أن بروليتارياً من شيكاغو بإمكانه أن يكون مثقفاً مثل دوق إنجليزي.
خلُص العديد من القراء إلى أن الابتذال الثقافي الذي تجده أكثر الأشياء إمتاعاً هو العادات الجنسية الأمريكية؟
الجنس بوصفه مؤسسة، أو الجنس كمفهوم عام، الجنس كمشكلة، أو الجنس باعتباره ابتذالاً – أجد كل هذا مملاً جداً للتكلم حوله. دعنا نتخطى مسألة الجنس.
هل سبق لك أن خضعت للتقييم النفسي ؟
هل سبق لي ماذا ؟
الخضوع لتقييم نفسي.
يا إلهي، لماذا ؟
من أجل أن ترى كيف يتم ذلك. شعر بعض النقاد أن تعليقاتك الشائكة حول موضوع موضة الفرويدية واستخدامها من قبل المحللين الأمريكيين، يشير إلى احتقار قائم على الألفة؟
ألفة الولع بالكتب فقط. محنة الفرويدية نفسها سخيفة إلى حد يثير الإشمئزاز ولو فقط للتفكير فيها كمزحة. الفرويدية وكل ما بها ملطخ بتضمينات مغارية وطرائق تبدو لي من أشنع الخِدع التي يمكن أن يمارسها الناس على أنفسهم أو على الغير. أنا أرفض ذلك تماماً، بالإضافة إلى بعض موضوعات القرون الوسطى التي ما زالت موقرة بواسطة الجهل، التقليدية، أو المرض الشديد.
بالحديث عن المرض الشديد، أنت اقترحت في لوليتا أن اشتهاء همبرت همبرت للفتيات الصغيرات الجذابات هو نتيجة حب غير متبادل في مرحلة الطفولة؛ في “دعوة لقطع العنق” كتبت عن فتاة تبلغ الثانية عشر من العمر، ايمي، والتي كانت مهتمة جنسياً وبشكل مثير برجل يبلغ ضعف عمرها؛ وفي الشر الملتوي كانت أحلام بطلتك تدور حول أنه “خفية تتمتع مارييت (خادمته) بينما هي جالسة، تجفل قليلاً، في حضنه أثناء بروفات مسرحية من المفترض أن تلعب فيها دور ابنته.” بعض النقاد، الذين انكبوا على أعمالك بحثاً عن قرائن لشخصيتك، أشاروا لتكرار هذا الموضوع وأرجعوه إلى انشغالك غير الصحي بالانجذاب الجنسي بين الفتيات الصغيرات والرجال الذين في منتصف العمر. هل تشعر أنه ربما هناك بعض الصواب في ذلك الاتهام؟
أظن أنه سيكون من الأرجح أن أقول أنني لو لم أكتب لوليتا، لما وجد القراء فتيات مثيرات في أعمالي الأخرى وداخل أسرهم. أجده أمراً مسلياً جداً عندما يقول لي شخص مؤدب وودود “سيد نابركوف،” أو “سيد ناباكوف،” أو “سيد نابكوف،” أو “نابهاكوف،” تبعاً لمقدراته اللغوية، “لدي ابنة صغيرة كـ لوليتا.” يميل الناس إلى الاستهانة بقوة مخيلتي وبالتطور التسلسلي للذوات في كتابتي.
ومن ثّم، بالطبع، هناك ذاك النوع الخاص من النقاد، أو أبناء مقرض، أشرار المصلحة البشرية، الرعاعيين المرحين.
شخص ما، على سبيل المثال، اكتشف مؤشرات للتشابه بين قصة حب همبرت همبرت في صباه على شواطئ الريفييرا وذكرياتي الخاصة حول كوليت الصغيرة، والتي بنيت معها قلعة رملية في مدينة بياريتز عندما كنت في العاشرة. همبرت كان مكتئباً بالطبع، في الثالثة عشر من العمر وفي ذروة إثارته الجنسية المفرطة، في حين أن علاقتي الرومانسية مع كوليت لم يكن بها أي أثر للرغبات الايروتيكية وكانت بالطبع عادية وطبيعية. وبالتأكيد في عمر التاسعة والعاشرة، في هذا الوقت المعين، في ذلك الزمن، لم نكن نعرف شيئاً على الإطلاق عن الحقائق الزائفة للحياة التي يطعمها هذه الأيام الآباء لأبنائهم تدريجياً.
لما تعتبرها زائفة؟
لأن مخيلة طفل صغير بالتحديد طفل مدينة تُشوه دفعة واحدة، تُسلب، و إلا فهي تُعدل من قِبله هو نفسه الأمور الغريبة التي أخبروه عن النحلة العاملة، والتي ليس بإمكانه هو أو والديه أن يصنفوها كنحلة طنانة، بأي حال.
ما وصفك به أحد النقاد “مهووس بالاهتمام بالصياغة، الإيقاع، نمط ودلالة الكلمات” هو واضح حتى في اختيار الأسماء لمتعتك الخاصة، النحلة والنحلة الطنانة لوليتا وهمبرت همبرت. كيف تخطر هذه الأسماء لك؟
لفتاتي الصغيرة الجذابة احتجت اسماً ضئيلاً وبه وقع موسيقي. واحد من أكثر الحروف تألقاً وشفافية هو “اللام”. واللاحق “يتا” به الكثير من الحنو اللاتيني، وهذا شيء مطلوب أيضاً. وبالتالي: لوليتا.
بيد أنه لا يجب أن ينطق مثلما تنطقه أنت، ومعظم الأمريكيين: لو-ليي-تا، مع “لام” ثقيلة ودبقة و “واو” ممدودة. المقطع الأول يجب أن يكون كـ “لولي بوب (مصاصة)”، “اللام” سائلة ودقيقة، وال “لي” ليست حادة جداً. الإيطاليين والأسبان ينطقونها، بالطبع، بالمكر والمداعبة اللازمين.
الاعتبار الأخر، كان الترحيب المدندن لأسم مصدره، اسم الينبوع: تلك الدموع والورود في “دولوريس.” مصير ابنتي الصغيرة المفجع والذي يجب أن يؤخذ في الحسبان سوية مع الفتنة والوضوح. تؤمن دلوريس ذلك مع أخري، أبسط، مألوفة أكثر وبها ضآلة طفولية: دوللي، والتي ذهبت بهدوء مع الملقب بـ “هايز،” الغشاوة الايرلندية مخلوطة بالأرنب الألماني، أعني الأرنب البري الألماني الصغير.
أنت تصنع مرجعاً لغوياً مرحاً، بالطبع الكلمة الألمانية للأرنب هي–هايز. ولكن ما الذي ألهمك أن تصف حبيب لوليتا المسن بمثل ذاك التكرار الجذاب؟
ذلك أيضاً كان سهلاً. الدمدمة المزدوجة، في اعتقادي، سيئة جداً، موحية للغاية. كان اسماً بغيضاً لشخصٍ بغيض. لكنه أيضاً اسم ملكي، ولقد كنت أحتاج فعلاً الذبذبة الملكية لهمبرت الشرس وهمبرت المتواضع. مما يفسح المجال لعدد من التوريات. والتصغير المقيت “هوم” هو اجتماعياً وعاطفياً مساوٍ لـ “لو” كما كانت أم لوليتا تدعوها.
ناقد آخر كتب عنك “مهمة غربلة واختيار الكلمات الصحيحة الناجحة من هذه الذاكرة المتعددة اللغات، وترتيب فروقها الدقيقة المعكوسة في تجاورات مناسبة، لابد أن يكون عملاً مرهقاً للنفس.” من بين كل الكتب التي بذلتها-أخذاً في الاعتبار السياق السابق- أيها تظن أنه الأصعب لكتابته؟
أوه، لوليتا، بطبيعة الحال. فقد كنت أفتقر للمعلومات الضرورية– كانت هذه الصعوبة الأساسية. لم أكن أعرف أي فتاة أمريكية في الثانية عشر من عمرها، ولم أكن أعرف أمريكا؛ كان علي أن أبتكر أمريكا ولوليتا. لقد استغرقت 40 عاماً لأخترع روسيا وأوروبا الغربية، والآن كنت أواجه مهمة مماثلة، مع أقل قدر من الوقت المتاح.
كان الحصول على مكونات محلية، مثل السماح لي بحقن معدل من “الواقع” في مشروب النزوات الفردية المثبتة، وأنا في الخمسين، وهي عملية أكثر صعوبة مما كانت عليه في أوروبا وأنا في سن الشباب.
على الرغم من أنك ولدت في روسيا، لكنك عشت وعملت لسنوات عديدة في أمريكا وكذلك في أوروبا. هل لديك أي إحساس قوي بالهوية الوطنية؟
أنا كاتب أمريكي، ولدت في روسيا وتلقيت تعليمي في انجلترا حيث درست الأدب الفرنسي، قبل أن أقضي 15 عاماً في ألمانيا. أتيت إلى أمريكا في عام 1940 وقررت أن أصبح مواطناً أمريكياً، وأن أجعل أمريكا موطني. وحدث أن اكتشفت على الفور الأشياء الجيدة في أمريكا، الحياة الثقافية الغنية المتساهلة، والجو اللطيف. غمرت نفسي في مكتباتها العظيمة وفي غراند كانيون. عملت في مختبرات المتاحف الخاصة بالحيوانات.
اكتسبت أصدقاء أكثر من الذين اكتسبتهم في أوروبا، كتبي القديمة منها والجديدة وجدت بعض القراء الشغوفين. أصبحت بديناً مثل كورتيز، ويرجع ذلك لإقلاعي عن التدخين واتجاهي لالتهام حلوى الدبس بدلاً عنه، لذلك أرتفع وزني من 140 باوند وهو وزني الاعتيادي إلى 200 باوند. ولذلك، فأنا ثلث أمريكي ، اللحم الأمريكي الجيد يبقيني دافئاً وآمناً.