ثمار

الحديث عن الأشجار ..ما عادت السينما جريمة

أربعة أشخاص يحاولون تصوير مشهد سينمائي داخل حوش صغير، المخرج جالس على كرسيه وبين يديه أوراق السيناريو يعطي ملاحظاته لبدء تصوير المشهد؛ بينما رجل آخر يعمل جاهداً بكشاف صغير على تركيز الإضاءة بشكل جيد على الممثل، أما رجل الكاميرا فكان يحاكي شكل الكاميرا الحقيقي واضعاً كفيه أمام عينيه مجسداً عدسات الكاميرا؛ أما الممثل فقد نجح أخيراً بعد عدة محاولات في وضع قطعة من القماش على رأسه فيما يشبه الخمار يبدو أنه سيؤدي دور امرأة؛ بعدها بدأ المخرج الذي مازال جالساً على كرسيه العد التنازلي 5,4,3,2,1 Action .

هكذا وبهذا المشهد الافتتاحي والذي هو فيلم في حد ذاته تجد نفسك كمشاهد قد دخلت في أحداث فيلم الحديث عن الأشجار؛ هذا المشهد وببساطة يحيلك إلى قلب المأساة ويشير بأصابعه إلى الحكاية دون أن يرويها ليترك للصورة والصوت مهمة الحكي، أما أنت كمشاهد فقد تورطت في الحكاية ولاسبيل للعودة أو الهروب كيف لك الانعتاق وأنت الذي تجلس وسط المئات من الناس أمام شاشة عملاقة تشاهد فيماً داخل فيلم، وكأن المخرج صهيب قسم الباري أراد أن ينصب بهذا المشهد فخاً للجمهور، فخ لايمكنهم الإفلات منه أبداً حتى بعد نهاية الفيلم.

هذا الفيلم الوثائقي الطويل والذي يروي في 93 دقيقة حكاية أربعة أصدقاء مخرجين هزموا الإحباط والجهل والديكتاتورية بمحبتهم لبعضهم البعض وبحبهم للسينما وشغفهم بها؛ لكل واحد منهم قصته الخاصة وهزائمه السرية ولكن كان الأمل والأمل وحده هو ما يوحد في كل مرة هذه الحكايات؛ الأمل في أن يكون للسودان سينما تحكي حكايات إنسانه وأرضه عن طريق الصورة والصوت، الأمل في أن تفتح دور العرض مرة أخرى ويشاهد الناس كل الناس الأفلام من أمام شاشات العرض؛ الأمل في أن تدور الكاميرا في الشوارع ومواقع التصوير دون يتم القبض عليها وعرضها كأداة للجريمة، الأمل في أن يأتي جيل من السينمائيين الشباب ويكمل بناء سينما سودانية لها ملامحها الخاصة؛ أمل في أن يأتي اليوم الذي لايكون فيه الحديث عن الأشجار جريمة.

هل كانت الحكاية هي البطل؟:

طبيعة الأربع شخصيات التي اختارها المخرج لتكون محور الحكاية ساهمت بشكل كبير في رواية أحداث الفيلم دون أن يشعر المشاهد بنوع من التكلف وهذا قد يكون له علاقة مباشرة بكونها شخصيات لمخرجين ذوي خبرة طويلة في السينما ولكنه على أية حال نجاح يحسب للمخرج حيث أنه أظهر ذكاء كبيراً في اختياره للقصة ومن ثم الشخصيات. رابط الصداقة العجيب بينهم كان هو أحد عوامل النجاح فقد انعكس بشكل واضح على المشاهد الساحرة والحوارات الممتعه داخل الفيلم؛ فمثلاً الحوارات التي دارت بينهم في ليلة عيد ميلاد الطيب مهدي كانت حوارات مليئة بالمشاعر والذكريات التي تبين سبب صمود هذه العلاقة طيلة هذه السنوات. شخصية إبراهيم شداد كانت الأكثر سحراً وجاذبية وبعد أن تشاهد الفيلم لا يمكنك بأي شكل من الأشكال أن تتخيل الفيلم من غير هذه الشخصية؛ فهو شخص ساخر لحد بعيد وهذه السخرية تتحول في كثير من الأحيان لسخرية مرة فالمشهد الذي كان يحكي فيه لرفاقه عن ذكرياته في المعتقل ورغم الأسلوب الساخر الذي كان يحكي به قصته إلا أنه كان ثمة هنالك الكثير من الأسى خلف كلماته وتعابير وجهه؛ شخصية إبراهيم شداد تجذبك بحضورها الطاغي وآرائها التي تكاد تكون متطرفة في الكثير من الأحايين ولكن هذه الآراء كانت لها مبررات منطقية مرتبطة بتركيب الشخصية نفسها؛ أعتقد أن المخرج أفرد مساحة كبيرة داخل مشاهد الفيلم لإبراهيم شداد ونالت قصته النصيب الأكبر وهذا بالطبع كان على حساب بقية القصص للشخصيات الأخرى ولكنه على أية حال لم يؤثر كثيراً على تسلسل أحداث الفيلم والقصة الأساسية؛ تسلسل المشاهد والأحداث كان منهجياً ورائعاً لحد كبير فكانت اللقطات تتركب مع بعضها البعض بشكل يجعل القصة جملا بصرية واضحة ومفهومة. إذاً رغم تميز الشخصيات وسير قصصها الفردية داخل الأحداث بالتوازي مع القصة الرئيسية للفيلم وهي محاولة المخرجين الأربعة لتأهيل إحدى دور العرض وإقامه عرض سينمائي للجمهور، إلا أن الحكاية كانت هي أكثر مايلفت الانتباه ولايمكنك أن تفلت من سطوتها لذلك يمكننا القول أن القصة كانت هي البطل.

سينماتوغرافي الحديث عن الأشجار:

أجاب المخرج العظيم مارتن سكورسيزي على سؤال كيف يخرج الأفلام بقوله إنه يحاول أن يعبر عن نفسه في صور بصرية في السينما الروائية، وإنه يستخدم العديد من الأدوات من أنوع مختلفة للقطات وأصوات وغيرها لتصبح جزءاً من المفردات للفيلم؛ ويجيب على سؤال كيف يتم استخدام كل هذه العناصر لتصنع نقطة تعاطف نفسية للملايين من الناس، ليحكي الحكاية. في الحديث عن الأشجار توظيف المخرج لعناصر السينماتوغرافي كان رائعاً ابتداءً من حركة الكاميرا وأنواع اللقطات التي خدمت كثيراً الحكاية نذكر مثلاً على سبيل المثال لقطة العصفور الذي حط على السلك الشائك وتوظيف هذا المشهد لخدمة القصة والحوار الذي دار في المشهد الذي سبقه؛ أيضاً المشهد الذي كان يحاور فيه إبراهيم شداد الجمل داخل السينما ولقطة الجمل وهو يجتر الطعام بينما إبراهيم شداد جالس وحوله كم هائل من المقاعد الفارغة، هذا المشهد من أجمل مشاهد الفيلم على الإطلاق وجماله يكمن في جمال الصورة والمفارقة في عناصر القصة نفسها. من الأشياء المميزة جداً في الفيلم اختيار الأصوات وتوظيفها الأكثر من رائع، ثمة أصوات من الراديو والتلفزيون واصوات طبيعية للطيور وحيوانات أخرى إضافة إلى الموسيقى التي كانت بسيطة وتشبه التفاصيل اليومية لأي إنسان سوداني فلا تشعر وأنت تشاهد الفيلم بأنه تم إقحامها من فرط إلفتها. استخدام المخرج للإضاءة كان مميزاً جداً رغم أن الظروف التي تم فيها تصوير الفيلم كانت قاسية لحد كبير حسب المخرج وأن كل المشاهد تقريباً ما عدا مشهد أو مشهدين تم تصويرها بكاميرا واحدة فقط وبواسطة المخرج نفسه إلا أن الصورة كانت ساحرة جداً ولا تقاوم، والإضاءة أيضاً كانت متنوعة لحد كبير فهناك لقطات ليلية وأخرى بالنهار ولقطات في الظل وأخرى في الشمس؛ علاوة على أن الجمل البصرية لهذا الفيلم كانت ثرية جداً ومتنوعة وتشعر وأنت تشاهد الفيلم بأنه ليس ثمة هناك فجوة أو شيء مفقود وستصاب بتخمة بصرية. صهيب استعار مجموعه مشاهد من خارج الفيلم لتصبح جزءً منه مثلاً لقد استخدم أحد المشاهد من فيلم “رحلة صيد” لإبراهيم شداد ولكن مع ذلك لن تشعر بأن هذا المشهد ليس جزءاً من الفيلم لأن توظيفه كان ممتازًا بحيث خدم القصة لحد كبير؛ كذلك مشهد اللقاء الّإذاعي وإعلان نتائج الانتخابات على شاشة التلفاز والعديد من المشاهد الأخرى التي استخدمها المخرج بذكاء كبير لتخدم أغراض معينة داخل أحداث القصة في تسلسل سلس ومنطقي وصورة جميلة وساحرة.

النبؤءة التي تحققت:

فيلم الحديث عن الأشجار ليس فقط قصة لأربعة مخرجين يحاولون النهوض من تحت الرماد ليستعيدوا شغفهم وولعهم بالسينما، وإنما هذا الفيلم هو بمثابة مانفيستو للأجيال القادمة لمواصلة هذا النضال مع الحياة وكل معطياتها من أحزان، وانكسار وفقر وجوع ومرض؛ عندما بدء تصوير هذا الفيلم في 2015 من كان يؤمن حينها بأن السودان ستكون فيه عروض سينما يوماً ما؟ هولاء الأربعة كانوا يؤمنون وجماعة الفيلم السوداني كانت مؤمنة تماماً وصهيب مخرج هذا الفيلم كان أشد المؤمنين، ولولا هذا الإيمان لما خرج الحديث عن الأشجار بهذا الجمال ولما فاز بكل هذه الجوائز العالمية، أناس وضعوا حياتهم على المحك ليقولوا للعالم نعم السينما في السودان أطلق عليها الرصاص ولكنها لن تموت؛ أناس تحدوا الظروف قائلين يوماً ستعود الكاميرات إلى الشوارع وتعود الأفلام لأصحابها الجالسين أمام الشاشات، اليوم تحققت هذه النبوءة وجاء اليوم الذي أصبح فيه الحديث عن الأشجار مهرجاناً لا جريمة.

فايز حسن مصطفى

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى