ثمار

سبعة زقاقات ليس في ترتيبها سرٌّ أيدولوجي!

munim

مقدمة:

بعنوان (زقاقات النسوان وزقاقات أخرى) صدرت مؤخَّراً، عن دار نشر “المكتب المصري للمطبوعات ـ كاف نون للثقافة” بالقاهرة، الطبعة الأولى من نصوص منعم الجزولي الأدبية وأعمال حسن موسى التشكيلية، في 238 صفحة من القطع العرضي الصغير. ويتضمن الكتاب اثنتي عشرة حكاية وخمسة عشر تصويرة عن نماذج غرائبية من النساء من مختلف البيئات السودانية. وفي ما يلي الكلمة التي صدَّر بها منعم الكتاب على سبيل التقديم، حيث أشار إلى أن ورودها هنا لم يتم بنفس ترتيب كتابتها، كما وأنه ليس ثمة سر، أو أيَّة رؤية أيدولوجية، في طريقة ترتيبها أو كما قال.

                                                                                                                                  (المحرر)

 

بسم الله،

والحمد لله،

والصلاة والسلام على رسول الله،

والسلام عليكم ورحمة الله،

أما بعد ..

فقد اقترحوا عليَّ أسماءً عديدة، كلها صنديدة، وجلهم أساتذتي، وأفضالهم عليَّ لا تحصى، فخشيت عليهم من الجمع بين النارين، نار أن يجدوا عواراً فيما أكـتب فيقـولون هذا زولنا نستر عليه، ومن ستر عورة زوله في الدنيا ستر الله عورته فى الآخرة إن شـاء الله، ونار أن يجدوا بقية من حلاوة في فاكهتي المعطوبة، فيخشون، إن قرظوني، قال الناس قد جاملوا زولهم.

وقلت ما عرف عوراتك سواك، فلأنهض بها إلى الناس بيدي لا بيد غيري، ولله الحمد.

أما بعد ..

فأول مصائبي أنني ابتُليتُ بحـب متابعـة الناس، وتخـيُّل حـيوات لهـم غير حـيواتـهـم التـي هـم فيـهـا. وأورثنـي هـذا الدَّاء خصـالاً خصَّـلني الله بها، ولا أزال.

أولاها خصلة حب الموصلات العامة، أنظر في هيئات الجالسين أمامي وحولي، وأسرح ما شاء الله لي من السرحان، حتى لأفوِّت محطتي، فأركب، حين أنتبه لذلك، عائداً.

ثم خصلة حب الأسواق العامة، أتتبَّع الناس في غدوهم ورواحهم، وأعمل آلة خيالي حتى لأنسى ما جئت أطلبه من سوق الله أكبر، فأعود، غالباً، دون شراء حاجتي.

ثم خصلة حب الأزقة العامة. أسير فيها ليلاً ونهاراً بلا هدى، فأتتبع السائرين وأختلق لهم حكايات ما أنزل الله بها من سلطان. وقد أنفقت كل حياتي في مَباراة الناس حيثما ذهبوا، دون هدى، ودون كلل. وقد ظن بعض أصحابي أن فيَّ حب التَّريُّض، وما دروا أن رياضتي كانت ولا تزال، في إشغال خيالي بحكاوى الناس وهمومهم.

وكانت بي شفاهة، فرُحت أربرب بلا كلل، وقد قال صديقي الصَّدوق صدقي كبلو:

ـ إذا سكت منعم فتأكدوا أنه مات.

ثم لما سئمت من الربربة، نصحني ابن حلال أن أدوِّن ربرباتي، ففعلت، ولكن طريقتي في التدوين كانت خاطئة، شأنها شأن كل طرائقي في الحياة الدنيا!! فكنت حالما أفرغ من حكاية أرميها بعيداً وأشوف غيرها، فضاعت حكاوى كثيرة بين النيران في بيوت سكنتها، وبين أفواه معيز في مكبات زبالة في كل مكان ارتحلت إليه، وهو نفس الأمر الذي حدث مع كثير من الأغنيات التي ألَّفْتُها، ولم أجد في نفسي رغبة في حملها إلى أهل المغني لعلهم يذيعونها فيما يذيعون من أغان، فضاعت هي الأخرى فيما ضاع من أوراق ومكتوبات شتى، دون أي إحساس بالندم عليها، ولعل في ضياعها خيراً عميماً على الناس أراده المولى عزَّ وعلا، ولله الحمد.

أما بعد ..

فقد جاءت هذه الحكاوى على نهج السردية السودانية المميزة بتداخل أحداثها وتفرعها وتشبحها ثم انصرارها مرةً أخرى في السياق العام دون الإخلال بمبنى الحكاية الرئيسية. وقد سألوني مستنكرين كثرة الشخوص التي تتزاحم داخل حكاياتي حتى أن غالبيتها لا تكاد تلصق بالذاكرة.

فأعلم يا ابن آدم أن الأحداث في المجتمع لا تُحْدِثُ نفسها بنفسها، إذ لا بد لها من ابن آدم آخر ينفخ فيها من روحه ما يجعلها تَنْحَدِث. فالإنسان هو العامل الحاسم في حدوث جميع الحادثات، وبالتالي لا يكتسب الحدث أهميته إلا من خلال أهمية الابن آدم الذي أحدثه، وعليه فإن الاهتمام بالإنسان نفسه كان، ولا يزال، عندي له مكانة معلاَّة على ما عداها، فيكبر تركيزي عليه وعلى المحيط الاجتماعي، والناس من حوله يتزاحمون منشغلين عنه بمعايشهم، أو منشغلين به عن معايشهم، في البيت والشارع والعمل والأسواق وأماكن الترفيه؛ مشهداً معبأ بالناس يؤثرون سلباً أو إيجاباً على حياته.. كل ذلك ولابد أن نمرَّ عليهم نحقق ونكشف عن أخبارهم ودوافعهم المحتملة، وإنجازاتهم وخيباتهم وآمالهم وطموحاتهم. هؤلاء الناس لا بد لهم أن يتزاحموا داخل الحكاية لأنهم هكذا في الحياة!! ثم نأخذ من كل ذلك ما يتفق مع مزاج الحكي فنعـود به إلى أصـل الحكاية، لنستمـر من هناك إلى ما شاء الله لنا من الاستمرار، دون أن نخل، فيما نتصور، بمجراها العام. وتلك، كما قلنا، خصيصة أخرى من خصائص السردية السودانية، تصنع لك إطارات داخل الإطار العام، فتروح تدخل في إطار، وتخرج من إطار، في تجاذبات متطاردة أو متقادمة، بحيث يكون الموضوع بكامله في أشد حالات الإقناع، حتى ليخيل إليك أنك تعرف هذه الشخصية معرفة شخصية!! إذ أن ملامحها تشبه لك من التقيته يوماً في ملف من ملفات الحياة، أو في مكب من مكبات الفناء.

الشخصيات لا بد لها من أن تبدو مقنعة كل الإقناع، وإلا لباخ الأمر برمته، وسار خارج مدار اهتمام القارئ. هنا فقط يمكننا أن نلقي بالحكاية كلها في سلة المهملات!! حيث تصبح والعدم سواء، ولله الحمد.

أما بعد ..

فالسرَّاد السوداني لا يكتفي بإطلاق الأسماء نكرة كقولك علي وأحمد ومصطفى، إذ لا بد من التعريف بالنسب وباللقب وبكل ما يجعل الاسم يرن في طبلة الأذن كاملاً يرفل في حلل من التعريف لا الإهمال. ففي طول بلاد السودان وعرضها لا يوجد اسم نكرة، فالأسماء كلها معروفة للسامعين، فيصير أحمد هو أحمد مهدي سر الختم!! وحين يرتفع حاجب الدهشة من هذا التخليط الطائفي يبادر السرَّاد إلى تفسير ذلك بأن جده سر الختم عثمان تشاجر مع خلفاء السيد علي حول أولوية الري في أرضه الملاصقة لأرض السيد في العفاض، وتطور الأمر إلى شجار حادٍّ وخصومة أحدٍّ، ولما وضعت زوجته ابنه البكر، أسماه (مهدي).. نكاية في السيد وخلفائه!!

وسبحانه الذي جعل لكل شئ سبباً.

وقد تجد أن علي هو علي أبو شلوخ، أو علي الفكهاني، أو حتى علي نور الجليل، فلن تجد علياً واحداً ليس له نسبة ينتسب إليها، أو لقب يلتقبه، فيومئ المستمع/ القارئ إيماءة أنه يعرف عمن تتحدث. وهكذا اجتهدت في تثبيت أسماء الشُّخوص المتزاحمين داخل هذه الحكاوي بنسبتهم الى آباء وأجداد ينعرفون بهم، أو إلى ألقاب تجعل الواحد منهم جوهراً فرداً قائماً بذاته، يستوي في ذلك الأمير والوزير والفقير، وكلنا لآدم وآدم من تراب، والحمد لله.

أما بعد ..

فلما عايروني بأنني أكتب عن سكان المدينة ولا أعتني بأهل القُرى، قلت إنّ الله قد جعلني ابناً للمدينة، ولدت فيها، وعشت طيلة حياتي – حتى الآن على الأقل – فيها، وتنقلت طالباً وعاملاً بين مختلف المدن. أما القرية فليس بيني وبينها إلا عزاء في عزيز لديهم، أو مباركة في ابتهاج عندهم، وبهذا تصبح علاقتي بها علاقة عابر سبيل لا أكثر ولا أقل. أنا أعرف أهل المدن وطبائعهم وسلوكهم، وأعرف خبايا المدينة، ومكامن أسرارها، ومفاتيح ألغازها، وإن أردت شيئاً ما، فإنني أعرف أين أجده، وعند مَن مِن الناس، وفي أيِّ الدروب ألتقيه، أعرف تفسير همزاتها ولمزاتها.. كل شئ.. كل شئ في المدينة كتاب مفضوح عندي، ولهذا أكتب عنها. والزول يكتب عمَّا يعرف. وأنا لا أعرف القرية إلا من خلال كتابات الناس عنها، ولله الحمد.

أما بعد ..

فهي سبعة زقاقات انكتبت في فترات متباعدة، وإن لم يكن ورودها هنا بنفس ترتيب كتابتها، وليس هنالك أيُّ سر، أو أيَّة رؤية أيدولوجية في طريقة ترتيبها!! هكذا عنَّ لي أن أرتبها، وهكذا رتبتها، دون سبب محدد، اللهم إلا المزاج، فلا ينشغل بالكم بحكاية الترتيب هذي. ولربما يعكس ذلك جانباً من شخصيتي السرية!! فأنا لا أكاد أطيق التنظيم!! وربما كان هذا سبباً في محاحاتي، رائح غادي، بين أن أكون داخل المنظمات والجمعيات التي انتسبت إليها في حياتي، أو أن أكون خارجها، ولله الحمد من قبل ومن بعد.

أما بعد ..

هذا كتابي بين يديكم، فإن رأيتم فيه ما يدخل الى تلافيف أمزجتكـم فالحمـد لله، وإلا فلا تترددوا في طرحه جانباً، والنظر لعلكم تجدون ضالتكم في كتاب آخر، وفي كاتب آخر. ولله الحمد من قبل ومن بعد. والسلام عليكم ورحمة الله.

واشنطون العاصمة

أغسطس 2016م

15211539_10154029653092765_2054482038_n
منعم وحسن موسى

* كاتب وتشكيلي من السودان

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني بالسودان.

زر الذهاب إلى الأعلى