الهدم (1-1)

(كان الدون دييغو دو ميراندا يهوى الحريةَ العاقلةَ والعدالةَ والوئام، يوفق بين المختصمين ويعطي الفقراء، تملؤه الثقةُ في رحمة الله غير المتناهية، كان يملكُ كميةً لا بأس بها من الكتبِ ويكتفي بها ويعلم أن الوجودَ لا يستطيع أن يقدم شيئًا أكثر سعادة من انسجام العقل والحواس والقلب)
دو ميراندا هو إحدى شخصيات رواية “دون كيشوت”، كان يرمز له كمثال للحكمة في العصر الكلاسيكي.
إلا أن هذا النمط لن يدوم للأبد فالأجيال التالية رأت أن فارسهم قد أصبح قديم الطراز فتخلوا عن طريقته بل احتقروها.
من هنا خُرِقت الهدنة، الهدنة التي كانت تعزز السكينة في النفوس وبدأ الهدم الذي طال كل المفاهيمَ الموروثةِ خصوصا تلك التي كان يظن بأن صمودها زمنًا طويلًا دليلٌ على صِحتها وعلى كونها الحقيقة، كما سقط أيضا المفهوم الأكثر عمومية وهو القبول المطلق.
في العصر الكلاسيكي أي ما قبل النهضة الأوروبية كان هناك جمودٌ وخمولٌ عام ويقينية تامة في تلك النسخة الحياتية.كان هذا بسبب السيطرة المطلقة للكنيسة وقبضتها الحديدية الفاتكة التي ضربت وأخمدت الكثير من النظريات والأبحاث.
لم يكن التمرد على الكنيسة ذو جدوى في مستهله،بل أن الهرطقات لم يسمع بها أقرب الناس إليها، ولكن مع بداية عصر النهضة لم تعد حركاتٍ صغيرةٍ منعزلة بل أصبحت مؤثرةً وتكتسب مريدين كما أصبحت معتزةً بنفسها، وهي من العوامل الأساسية التي ساهمت في خلخلة النظام.
عملية الهدم والبناء الكبيرة التي أنجزت في القرون الوسطى ساهمت فيها عوامل عديدة؛ أهمها التهيئة النفسية الممتدة المؤثرة، فالعلماء والفلاسفة أثاروا الاضطراب في الوجدان وخلخلوا اليقينيات وعملوا على تبديد الثبات المهيب الذي اتصف به ذلك العصر وتدمير ذلك التوازن العجيب،وهناك عاملٌ لا يقل أهمية عن الأول وهو مواجهة القديم والتبشير بالجديد،فتفنيد العقائد التقليدية المتهالكة والخرافات والتقاليد التي تحط من قدر البشري وكل تلك التفاهات الحمقاء ليس بالأمر العادي،لذلك استحق ما يحتاج من وقت،الفلاسفة الجدد حاولوا ابتكار حضارةٍ ترتكز على قضيتين مركزيتين هما فكرة الواجب وفكرة الحقوق بكل تفصيلاتهما.
ويحصل أن يسقط النظام السياسي في السودان وهو من أطول الديكتاتوريات في العصر الحديث، هذا النظام ورفاقه من الأنظمة السابقة التي تلت العهد الكولونيالي عملوا على تثبيت أركان ثقافة دينية واحدة، وضربوا التعددية ثم عملوا على عزل الحياة بكاملها ليتمكنوا من تمجيد هذه الثقافة ووصفها بالخارقة والاستثنائية.
لدينا تاريخٌ طويلٌ من التنظير والعمل على النمط الحياتي السائد والتغيير المفاهيمي إلا إنها لم تصل وكانت ذات طابع فردي، وأيضا تم تشويهها وضربها من قوى المخزن،أما عملية الهدم الجارية حاليا أعني ما بعد ثورة ١٩ ديسمبر فهي عملية نوعية لعينة لا تشبه حتى النموذج الغربي الذي تحدثنا عنه آنفا ، وأظن أن ما جعلها تكون بهذه الطريقة هو أننا في عصر المدنية العالمية والتطور التقني الهائل والحداثة هذه الكلمة المدهشة المتآمرة على قوى الماضي،أول ما فطن إليه هذا الجيل التغييري هو التساؤل والتشكيك في هذه الماضوية الزهرية وما خلص إليه هو أن الذين ينسجون تلك الحكايات كانوا إما كاذبين أو مخطئين .
والمذهلُ حقا هو ذلك التفاعل السهل والوقح مع أحداثٍ شائكة مثل القضايا ذات الأصل الديني التي أقحمت في الميدان السياسي. جماعات المخزن متيقنةٌ أن رهانها رابحٌ ومحسومٌ لمعرفتهم بالدلائل التاريخية أن مثل هذه الصراعات تأخذ منحىً حادًا وصراعًا قاسيًا حيث تتغلب العاطفة على الوعي ولكنهم بهتوا تماماً.
أخطر وأصعب جزئية في عملية هدمنا هذه هي كيفية خلخلة النظام العام “النظام الحياتي والوعي الجمعي وحتى القانون الأخلاقي الداخلي للفرد” فالتبعية العمياء أنتجت جمودًا ويأسًا كبيرين يحولان دون الفكاك من هذا الصندوق المحكم الأقفال، وهناك أيضا حراسٌ كهنوتيون دائبون يعملون بطيبةٍ وشراسةٍ على استقرار القطيع في الحظيرة وأي أمرٍ أو حركةٍ تخالف ما هو مفروض ونمطي تعتبر استفزازاً وإخلالاً بالثوابت وسيتم ضربها بيد من حديد من قبل الذين خاطرت من أجلهم،لذلك تجد ملامح الراحة والنداوة في وجوه الحراس ، وحتى بعض المثقفين الصفويين الذين يحسبون على قوى الثورة يرون أن هناك انحدارا في الذوق وسوقية لعينة تدب على ثوابتنا وأيضا هناك فوضى عظيمة وتدمير وخراب،تحضرني هنا مقولة شهيرة لآرثر رامبو ” ثمة خرابٌ ضروري” وأذكر حينها أنها لم تُفهم وأثارت جدلًا واسعًا ، هو كان يقصد ويتحدث عن الخراب الذي يؤدي إلى الخلق، فهو يريد أن تزول الأنماط القديمة القاتمة نحو إنسانية جديدة كنقاءِ الأطفال.وكذلك هذا الجيل التغييري ذو العقل العدواني الشرس متيقنٌ من أن ما يهدمه من أشكالٍ قديمةٍ أوصلنا إلى مراحلَ سحيقةٍ من التوحشِ والحيوانية كانت آخر مراحلها المادية الإباداتُ الجماعية.