سحَّارة أمي حليمة
أتذكّر أنّه كانت هناك وعلى حائط مطبخها العتيق عبارة كتبت بوضوح، أتذكر سعادتي بتلك العبارة، رغبتي الملحة وأنا طفلة لا تعرف القراءة في أن يقرأها عليّ كل من يقف في الباب ينتظر أن أسمح له بالدخول، أتذكر فرحي بفرحها بي.. كانت العبارة التي أمرت أمي حليمة، خالي بكتابتها، هي: 8/ 5/ 1988، هي أمرته أن يكتب هذا التاريخ فقط، لكنه زاد من عنده أن كتب بيت الشعر “إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر”، ولم اكتشف حتى الآن ما الرابط العجيب بين ذلك التاريخ وبيت الشعر هذا.. يا الله! مطبخها الآن لم يعد له أثر وحلت محله صالة كبيرة، أنيقة، مطلية بطلاء جميل، ذلك الطلاء الذي مسح تاريخ ميلادي.
أتذكر غرامي المحموم بالخيار، وكيف كان بحثها المضني معي عنه بين طرابيز ستات الخضار، وحلاوة عكّاز بألوانها الجريئة، وشاي الصباح، وونساتنا الليلية يا أمي حليمة ونجوم الكباشي الكتييييييرة والقريبة حتى إنني كنت متأكدة من أنه يمكنني أن أقطف نجمة إذا ما مددت يدي إلى أعلى قليلاً.. والعيد، يا الله من العيد وأولاد جابر بنوبتهم تحت النيمات في حوش الصالون؛ نوبة تشعر بها تخبط من قلبك.. وكيف كنت تصنعين فطور العيد وحدك للناس الكتااااااار ديلك، ومشاويرنا إلى أهلك الفي أم درمان، وذلك اليوم الذي شاكلت فيه سواق التاكسي، المسكين كان يحاول إصلاح أعطاب مزاجه الذي أفسده الحر والفلس بأغنية جميلة كانت تنبعث من الكاسيت عالي الصوت، وكنت أنا، شافعة الجن، في تلك اللحظة قد فتحت باب السيارة المتحركة، وهببت أنت غاضبة في السائق المسكين مع أن ابنتك هي المخطئة.
وأنت يا أمي حليمة، بشلوخك المطارق وشعرك الأبيض بالأحمر، أذكرك وقد أصبحت امرأة عجوزاً، ولم يعد باستطاعتك الحركة، لكنك كنت مبدعة، كانت أمي مبدعة، ابتدعت طريقة حياة جديدة بمناسبة أنها أصبحت امرأة عجوزاً يعني، لم تجعل شيخوختها أياماً معدودات لإنسان ينتظر موته القادم ببطء، ولا لخرف أو ذهول، علمتني أن الشيخوخة هي كنز حياة الإنسان الثمين، كنز نكافأ به في نهاية الخدمة.. أحببتك وأنت عجوز يا أمي حليمة، كما أحببت نفسي بعد عقود، كانت حيوات جديدة قد بدأت تتخلق لديها، ادخرت لها ذكريات كثيرة مما كان زماااااان لتعيش بها في سنوات شيخوختها، كانت قد رجعت إلى عالمها القديم وأنا أيضا أحببت ذلك العالم؛ أحببت أن تحكي لي تلك الحياة التي لم أعشها، كنا نجلس الأوقات الطويلة وتحكي لي حكايات، الغريب أنها جميعها حكايات نساء، ما كل هؤلاء النسوة يا أمي حليمة؟ وكيف تسنى لك أن تكوني بطلة كل هذه القصص أو على الأقل جزءاً كبيراً منها؟
قلبها، أمي حليمة، كان عالماً كبيراً مليئاً بحيوات أولئك النسوة، بأحزانهن، بمخاوفهن وغرائبهن؛ عمتها بخيتة الجميلة جمالاً عظيماً والحزينة حزناً عظيماً، وأمها آمنة بت حسين القوية قوة هائلة، وهي كانت الأجمل من جميلة والأحزن من حزينة والأقوى من قوية؛ قلبها كان سحارة عتييييييييقة اختزنت فيها ذكريات الحب والألم والخذلان، سحارة هي فقط من كان يملك مفتاحها إلى أن سلمتني إياه في يدي، يا لحظي! كيف ملّكتني كل هذه الكنوز يا أمي حليمة؟ كل هذه الحكايات.. لم تشبع شغفي بالحكايات وحسب، بل علمتني أن هذه الحكايات المقدسة هي فقط حياة الإنسان، علمتني أن أكتب الحكايات لأنها قد تؤنس وحشة وحيد يوماً ما، وعلمتني أنه يجب أن آخذ منها الكثير كدخري للحوبة وأي حوبة أكبر من الوحدة؟ وحدة امرأة عجوز ذهب منها الولد إلى العمل والبنت إلى أطفالها وزوجها ولم تجد سوى حكايات حبيباتها العزيزات اللاتي فقدتهن منذ زمن بعيد وحفيدة حدث بالصدفة أنها مهووسة بالقصص.
وأنا احترت في نفسي ما الذي يحدث لي عندما تحكي؟ أنا أحيا مع نساء عشن قبل عقود كثيرة من ميلادي وأرجع إلى الوراء البعيد الذي لم أعشه أصلاً، أرى الأشياء بعيني أمي حليمة وأعيشها بإحساساتها، روحي تقاسم روحها الحضور في تلك القصص التي كانت قد عاشتها زمان أو حكيت لها، شيء ما لا أحاول الآن تفسيره كان يحدث لي ولها، وفي ذلك اليوم العجيب الذي حكت لي فيه قصة حبوبة بخيتة بت الشيخ محمد علي التي عميت عيناها وهي شابة، عميت عيناها من شدة الحزن والقهر والخذلان، تبكي أمي حليمة من حزنها تذوب أعضاؤها في بعضها البعض، تبكي هي فتأتي التنهيدة مني أنا ثم في وسط كل تلك الدموع يغشاها دعاش ذكريات سعيدة فتبتسم أمي حليمة فرحة منتصرة وتحكي لي: (لكن الله حنين لقد رزقها ثلاثة أولاد بعد أن يئس الناس من أن يحمل رحمها أي بذرة يوماً ما)، فيعتريني الفرح أنا وأشارك الجميع سعادتهم بولادة أبوي ود الحبوب جد أبي أمي وزوج أمي حليمة الذي يشبهها تماماً.
ليلة الأمس وبعد أن أطفأت النور كالمعتاد، وأغمضت عيني، واستعددت لبكاء ما قبل النوم كالمعتاد، نادتني بنفس طريقتها الجديدة الحزينة قالت لي: (تعالي ليّا يا الما عندي براك بنية) نادتني وأنا كنت حزينة أتذكر كيف ماتت وأنا وحيدة، وكيف أنها باغتتني، لماذا باغتيني يا أمي حليمة؟ لماذا أنا فقط من فوجئت؟ كان هناك أهلي الذين هم أهلك؛ لكني كنت أشعر بأنني وحيدة في حزني عليك كأنني كنت أنتظر أن تعزيني في فقدك، أن تواسيني أنت فقط يا أمي حليمة. لا أنسى كيف أدخلوك مني في ذلك اليوم الفارق، من الحوش إلى الغرفة، رجال كثيرون، رجال لن يفهموا إلى يوم الدين ما معنى (بنت وأمها)، وبقسوة رجالية محضة منعوني من أن أتوجع بما يناسب فجيعتي فيك، أخبروني أنهم يخشون أن يطرد نواحي ملايين الملائكة المتكدسة حولك في تلك اللحظة الجليلة، لكنني لم أستسلم، كنت أضرب الباب بعناد وتحت إصراري أدخلوني إليك مرة أخرى، لم أكن أعرف كم صار عمرك الجديد، ولم أعرف أين صرت في ذلك العالم بالتحديد، لكنني أول ما نظرت إلى وجهك الجميل بشلوخك المطارق يا حبيبتي أصبت بشوق مفاجئ إليك، شوق بلا أي أمل.
والليلة جاءتني صامتة، صمتاً أرعبني، رجوتها يا أمي حليمة أرجوك اضحكي، ابتسمي، احك لي كما كنت تفعلين دائما، لا تصمتي ولا تصدقي أنني سأنساك وإن حدث وأصبحت أحيا عاااااااااادي كدا بعد موتك فأنا أكثر من يحدث هذا ضد رغبته، جميعهم يريدون أن ينسوا آلامهم ليعيشوا وأنت أكبر ألمي ولا أريد أن أنساك ولا أن أعيش أيضاً.. نوعان من البشر أصبحت بعد موتك لا أطيقهما: من يقول لي اصبري، والثاني من يقول الحياة ستستمر! سأجزع وأجزع وأجزع. ما هو الفقد الذي أقسى من فقدك؟ ولمَ التصبر؟ وستستمر حياتي معك سأحيا كما لو أنك ما زلت حية، سأتحدى نسيانك، نعم أصبحت بعدك آكل الطعام وأنام وأضحك في اللحظة التي لو نظرت فيها إلى سريرك المكلوم سأجده فارغاً، أصبحت أفعل كل هذا كأن موتك ما كان موتاً للعالم، كيف استطعت بعد أن انهار عالمي الحقيقي فوق رأسي الاستمرار في عالمي غير الحقيقي؟ لا أدري.
قدموا لي النسيان على طبق من ذهب، قدموه لي على أنه الفرصة الوحيدة لي لأحيا بعدك بخير، وقالوا لي إن الإنسان أصلاً سمي إنساناً من النسيان، قالوا كدا غايتو، خفت كثيراً يا أمي حليمة خفت من أن تكون طبيعة الإنسان النسيان، وأصبحت أُذكّر نفسي أيتها الإنسانة كل ثانية نسيان تعني استسلام لطبيعتك الخرقاء، تعني أن تفقدي الذكريات السعيدة، آااااااااااه يا أمي حليمة معقولة أنني سميتها الآن ذكريات؟ أنا أقصد اللحظات الحميمة من حياتي معك، اللحظات المليئة بالدفء والحب والأمومة.. كنت أمي طوال ثلاثة وعشرين عاماً، وكنت أمك طوال أشهر، أنت سميتني في تلك الليلة الغريبة أمك، ليلة أيقظتني وأنت تناديني (سبوحة يا سبوحة)، لم أستيقظ ثم ناديتني (يمة… حبيبة الضلمة)، كان صوتك وجلاً استيقظت وأنا فزعة سألتك: دايرة مويه؟ أجبت: (لا، دايرة الموت)، صعقت لكنني بتجلد مصطنع قلت لك: (معقولة يا أمي حليمة عشان يدك اتكسرت حتموتي؟ أهلك ناس ود علوب نسوانهم فارسات ورجالهم فرسان من وين جبت الخوف دا؟ بطلي خوف). ضحكت أنت لأنك كنت تعلمين ما لا أعلم، يا يمة حليمة أنت كنت حبيبة الضلمة وأصبح الظلام بعدك مرعباً، كنت أستمتع بإشباع غريزة أمومتي فيك؛ تلك النائمة منذ أن أودعها الله فيّ، أيقظتها أنت من سباتها العميق، كنت أحممك وأسرح شعرك الأحمر بالأبيض، والآن وآاااااااحرقة حشاي، ماذا لو كنت أنا من مات وأنت ظللت حية؟ شفتي هذا الخيال الذي مرّ بخاطرك الآن لثوانٍ؟ شفتي حرقة الحشا التي فاجأتك دي؟ هي ما يعذبني منذ أن مت أنت يا أمي حليمة.
هل يمكن أن تصبح حياتي التي عشتها معك صوراً قديمة كبيتك المهجور الآن؟ تنسج فيها عنكبوت النسيان خيوطها؟ صوراً وقت أن أريد استدعائها أخلصها من خيوط العنكبوت وأنفض عنها غبار السنين؟ لا ما ممكن، أبداً، مستحيل، ثم إنه كيف لذاكرة عضمها ذاتو من حكاياتك أن تنساك؟ أعرف أنه إذا نسيتك سلبت مني طفولتي، وصباي، ولغتي وحكاياتي العزيزة، وإذا أصبحت بلا هذا كله ماذا تبقى لي يا أمي حليمة؟ هل عرفت الآن أنني لن أنساك إلى أن ألحق بك لنكمل هناك ما بدأت في حكايته لي هنا من حكايات على مهل ودون أن نخشى خذلان الأعمار.
ويا أمي حليمة وداعة الله عند الرسول، كنت في كل يوم ومنذ أن وجدت أنك أمي، في كل يوم قبل أن تنامي تستودعينا جميعنا، أبناءك وأحفادك، الله، وفي ذلك اليوم عرفت أنك ما زلت تستودعينا الله وتغمرنا حمايته ويملؤنا لطفه من أجلك أنت فقط يا أمي، فالله لا يرد لك طلباً يا حبيبة الله، في ذلك اليوم الذي غمرت فيه الأمطار والسيول الحلة، كنا نحن ما زلنا في بيتك نستقبل المعزين فيك، كانت الأمطار غزيرة خلعت الرواكيب والغرف التي كانت أصلاً على الهبشة، وجاءني فيض هواجسي مع المياه الكثيرة، فكرت فيك وفي القبر الجديد، ماذا لو جرفته المياه؟ لعنت إبليس كثيراً في تلك اللحظة لكن لم يفارقني هاجسي، ساعتها تأكدت أن الأمر لا علاقة له بإبليس، دعوت الله يا ربي أمي حليمة وداعة الله عند الرسول، أمي حليمة يا ربي وديعتي عندك يا من لا تضيع عنده الودائع احفظ لها هذا المكان الذي لا أعرف عنه شيئاً سوى أنهم وضعوها فيه، احفظه آمناً من أجلها. كنت ارتدي عباءة حدادي السوداء، كنت أرفعها حتى تبين ساقاي كي لا تتبلل بالماء، وفي اللحظة التي كنت أدعو فيها الله، كانت هناك عقرب كبيرة، شهق (الراجل حوار أبوي ود الحبوب) عندما رآها وقال هذه عقرب خلا ما الذي أتى بها إلى ساقك، كانت تتجول في ساقي باطمئنان رافعة شوكة ذيلها المليء بالسم إلى أعلى متأهبة للدغي كأنما بيني وبينها غبينة، متأكدة أنا أنه من نفض العقرب من ساقي بسرعة كانت يدك أنت يا أمي حليمة، كأنك كنت تسخرين من محاولاتي رعايتك، كأنك كنت تقولين لي (لو اعتقدت أنني مت وأصبحت بنية ضعيفة – زي ما بقولوا النسوان – أو أنني أصبحت أحتاج رعايتك فأنت مخطئة، أنت من ستظلين تحتاجين رعايتي إلى الأبد).
.. والآن وداعة الله عند الرسول يا أمي حليمة، اشتقت، وسأشتاق إليك، وسأشتاق إلى حياتي التي عشتها معك، الحياة التي لن أعيشها مرة ثانية كما لن تعيشها أي بنت أخرى في هذا العالم.
* كاتبة من السودان