مع : ميادة محمد الحسن

* قابلها / أحمد النشادر *
* عندما سئل أحد الكتاب “لا أذكره” عن كتابته لنوعين من أجناس الفن، قال إنها محاولة لتقبيل العالم بأكثر من فم، طبعاً هنا نتحدث عن تجريباتك المختلفة في الموسيقى والكتابة بأشكالها المُختلفة والرسم، كيف ترين نفسك بين هذه الفنون الثلاثة؟
هي محاولات لا تنتهي لعقلنة وجودي. أتحايل على أطرافي المترامية بالكتابة، أهزمها وتهزمني، أبعثرها في الألوان وأدسها في الظلال، وأقذفني في غياهب الكون في غمرة الأصوات، الهارموني، وما أستطيع من آلات. هذه المشقة الرحيمة تفتتني وتشكلني كل مناولة بلا هوادة، تدفعني نحو المزيد من المقامرة والرهانات نحو استكشاف علاقاتها وما تتمخض عنه.
* كيف ترين الموسيقى، وكل غميس من الأفعال الدقيقة التي تقودك إليها، وقصتك معها؟
كل مقاربة موسيقية تقذف بي فوق مداركي، هذه التفلتات المتاحة في الموسيقى، في علاقتي بالأصوات والمغامرات المختلفة في تراكيبها، تشحذ حواسي لتحظى ببرهات من المطلق، خارج الزمن، خارج جسدي نحو وجودٍ أكثر كونية. هذا السفر يحمّدني ويجلوني بتداعيات وترابطات لا منتهية كلما حاولت مقاربته، كلما أطاح بي مقام جديد. أنا كائن مشغول جداً بحكم وظيفة وواجبات لا مفر منها. الموسيقى ملاذي نحو كنهي. هذه الأصوات تنامت تحت جلدي منذ الهيدفون الذي كانت تضعه أمي على بطنها عند تخلقي، وتعاظمت كضرورة وجودية منذها. الطمأنينة اللا نهائية المقترنة بصوت أمي الراحلة ودندناتها، الطفولة الجاهلة بهذا العالم، أغنياتنا الطفولية حول خالي وهو يؤلف لنا ألحاناً من أهازيج لغاتنا المستحدثة، ومحاولاتي الشاقة منذ الابتدائية مع المسجلات التي تعمل بشريطين في آن واحد لتسجيل أصوات وتركيبها والاستمتاع بالكشوفات الناتجة من هذه التوافقات والتناغمات والأجناس الجديدة. أقول شاقة لأن هذا الأمر متاح الآن بضغطة زر في الهاتف المحمول. نوبة حمد النيل لا زالت تهدر بصدري، زيارة واحدة كانت كافية لتأسرني تماماً، لا زلت أحاول إلصاق خشب الجيتار وأنا أعزف بقفصي الصدري، في محاولة لأحظى بخفق النوبة بخلاياي مجدداً. كل مقارباتي استدعاءات للا زمن، لحيوات غابرة وأهوال تنتظر، للحظات فوق وجودي المادي، لبرهات من الأبدية. هذه المغامرات أخوضها تبنيني وتهدمني في ثنائيات سعرانة. لا مناص من هذا الحتف. من الصعب حقاً شرح كيف تتوالد اللغات التي أستنطقها لمحاورة العمل الذي أكون بصدده. الأمر أشبه بالموار يحدثه نص أو عمل موسيقي قديم، يتفاقم حشدٌ أشبه بالمرض الخفيف يحملني إلى الجيتار. الحجامة يا أحمد، لا أشفى إلا بنزفي هذا.
أعمل بأدوات بسيطة، الأصوات والجيتار وهناك بعض البرمجيات التي أتاحت إدخال آلات أخرى. كل مدوناتي السمعية هذه لبنات لأعمال في البال تتوافر بها أعداد أكبر من الآلات ومقومات التسجيل.
* عملت على نص شعري من كتابتك “أدين لك”، ومن ثم لحنته وغنيته وقمت بتسجيله إلى مرحلة بثه عبر صفحتك على الساوند كلاود، هذا أكثر من تخلّق في تخلّق واحد، أو ولادة واحدة لولادات متعددة، حدثيني عن ذلك.
“أدين لك” كان من أوائل النصوص الشعرية الطويلة التي نشرتها. شعرت بحاجة متنامية إلى استنطاق تلك البذرة بأكثر من بستان، تجريب تناول الحالة الشعورية ذاتها بكل ما في وسعها الإفصاح عنه. في الأمر متعة خالصة، دهشة متجددة تغمرني مع كل وجه جديد للبنة الأولى ذاتها، لعمل ما، يفصح عنه لحن، إيقاع، صوت هارموني. كل وجه جديد ينزع عني طبقة من هذا الأديم المثقل بالاجترارات. أسعى للوصول نحو أعماق هذه البئر التي لا تنفك تلقي بشذرات من فيضها.
نص “تناوش” الأخير، كذلك، قمت بتلحينه ووصله بأغنية بالإنجليزية، استنطاقاً للعمل بلغة أخرى وحمله إلى ذروات أعلى. أعمل الآن علي تسجيله بآلات أكثر، قد يرى النور في مقبل الأيام.
كانت لدي بدايةً محاولاتي الموسيقية لتناول أعمال معروفة قبلاً، وبعض المقطوعات الموسيقية الصغيرة التي عملت عليها بالجيتار والصوت فقط، كآلة موسيقية، لكنها ذهبت طي النسيان نتيجة لعدم تدوينها. الساوند كلاود ذاكرتي في ما يتعلق بهذه المحاولات.
* غنيت أيضاً بالعامية السودانية لنجلاء عثمان التوم “كليم القروح”، وقمت بتسجيلها مرتين، النسخة الأولى بالجيتار، والثانية بالتعاون مع إبراهيم بن البادية، وأصبح اسم القصيدة بعد أن صارت أغنية “أورفيوس الأسود”، بدأت حكاية هذه الأغنية من السينما، وأنت الساردة.
أورفيوس هو الموسيقي الأسطوري، الشاعر، والنبي في الديانة اليونانية القديمة “الأورفيكية” والأسطورة. وتتركز القصص الرئيسة عنه على قدرته على سحر كل الكائنات الحية، وحتى الحجارة مع موسيقاه، وألحانه التي كان يعزفها على قيثارته في محاولة لاسترداد زوجته يوريديس من العالم السفلي، وموته على أيدي أولئك الذين لا يستطيعون سماع موسيقاه الإلهية.
قامت نجلاء التوم بكتابة النص على خلفية اللحن الكلاسيكي المعروف للفيلم البرازيلي: أورفيوس الأسود، المصنوع عام 1959 الذي تمت فيه معالجة هذه الأسطورة على خلفية المسرحية الموسيقية Orpheus of the conception – Orfeu da Conceição 1956 rio de niero .
اللحن الذي تناولناه هو لحن “صبيحة الكارنفال”، الأشهر للموسيقار البرازيلي لويز بونفا، وقد كان الثيمة الأساسية للفيلم. حاز عدداً من الجوائز ليصبح لحن جاز كلاسيكياً تناوله المئات من الموسيقيين في أعمالهم في معالجات معزوفة أو مغناة بمختلف اللغات حول العالم. غنته فيروز في كلمات ومعالجة موسيقية للحن، لزياد الرحباني، في أغنيتها: شو بخاف.
الكلمات كتبتها نجلاء مرثاة لبهنس، أنا لم أعرف بهنس شخصياً، لكن أصابني ما أصابني ويصيبني في رحيله. وقد كان ما كان من أسى وخذلان وفاجعة في رحيله في أحد أحاديثنا، كشفت لي فيه عن نصها الحزين، وفكرتها. أرقني النص لشهور، رهبةً، قبل أن أستطيع أخيراً أن أحاول تناوله مع لحنه بالجيتار. وقد كان أن التقيت إبراهيم، هذا الجميل الملآن بالموسيقى والمحبة، في إحدى إجازاتي، وهو الذي رحّب بمعالجة الأغنية في الأستديو الخاص به بنسختها بالبيانو.
تتضاءل أي محاولة أمام الفقد، أمام بهنس، أمام القبح الصارخ الذي كشف عنه رحيله. الأغنية في الساوند كلاود معنونة بـ تحت الإنشاء. هناك بعض الخطط لتناولها بشكل أكبر، لا أعلم متى ستحدث.
* أن تقول لآخر الذاهبين عنك/ أغلق البال خلفك. لحنت وغنيت مقطعاً طويلاً من تماثيل خالد حسن عثمان، وكذلك “أدرني يا حبيبي، أنا كأسك الفارغة، اشربني لأمتلئ من خمرك البالغة” لحاتم الكناني، ربما كان يجدر بي أن أمر من جملة موسيقية إلى جملة شعرية، لأسألك “لنعرف كيف يموت الجواد” كما ورد في أغنيتك من تماثيل، كيف التقطت الحركة في تلك الأشعار، وحركتيها في جمل موسيقية؟ يعني هو سؤال يبحث عن ما لا ندريه عن هذه التجارب، مع بذرة لم تكتبيها.
أنا لست موسيقية محترفة، علاقتي بالأعمال التي أتناولها علاقة خاصّة جداً، هناك العديد من النصوص التي طرحت لي لأقوم بتلحينها، لكن ليس في الأمر رفاهية تآمرٍ لأجل ذاته، أقله ليس الآن. أزعم أن النصوص هي التي تختارني، والأمزجة، واشتهاءات الأوتار، وضنين الوقت الذي يتيحه العمل كطبيبة.
النصان، أصاباني بالموسيقى ساعة قراءتي لهما. بيتي حاتم كانا حالة في الفيسبوك، وحاتم يصيبك بالموسيقى في أشعاره شئت أم أبيت. وقد كان، قراءتي الأولى جاءت ترفل في أذيال اللحن الموضوع.
تجربتي مع التماثيل كانت بتآمر من صديقة لتناول مسرحي للنص. أحببت التماثيل في قراءات سابقة، لكنني كنتُ مأخوذة تماماً بالمقطع المُتناول، حدثني تحديداً، وتوالد مُغَنَّىً في كشوفاته.
النص يحدثني ساعة اعتماله بأكثر من لغة، يستجديني بلا معالم واضحة، لكن بشكل شديد الرسوخ والإلحاح لإخراج حيواته المعتملة فيّ كشريك لا حول له في هذه العجينة المتخلقة حولي بالمبارزة، بالملاقحة، بالبذل المشترك.
* في ما يتعلق بتفاصيل معالجاتك الموسيقية، ننتقل معك من “الحنين البي” إلى “درب الطير في سكينة” و” زمني الخاين” وغيرها من الأغاني السودانية المعروفة، ثم “البنت الشلبية” لفيروز و”قصاد عيني” لعمرو دياب، إلى بعض الأغاني باللغة الإنجليزية لنيلي فيرتادو والبيتلز وغيرهم، إذا ما نظر المرء، كأنك تقبضين العالم، عالمك، من خيوطه الموسيقية المتنوعة، تبدأين من الوسط كموجة تأخذ البحر إلى مكان جديد في الجريان، ما الذي يحدث في حالة معالجة أعمال سابقة؟ هل هي مغامرة في المزاج والاختيار أم في تركيب علاقات جديدة في ما يخص الأداء؟ أم هو غناء جماعي الأصوات، يشبه في حياته غنائك مع صوتك في اللاينات الحاضرة بقوة في أغانيك ومعالجاتك الموسيقية؟ ولا أنسى أن أسأل عن مزجك بين أغنيتين في بعض المعالجات.
في محاولاتي هذه، أجرّب التحايل على أذني وتعودها. أتمرد على ذاكرتي بصهر للأجساد الموسيقية التي تقطنها وتشكيلها في تصاوير مختلفة ومشابهة في آن. كل تجربة قمت بها كانت تدريباً بوعي أو لا وعي على التفكيك والتركيب ودراسة العلاقات في العمل، لتطوير علاقاتي بالسماع نفسه – متعتي الأولى – وتنمية إدراكي بعلاقات الآلات والأصوات كل على حدة، نحو شمولية العمل. أسبابي تشمل كل ما ذكرت. أنا بصدد كسر الأنماط بذهني أولاً بما أوتيت من معاول، وهذا مبدأ أحمله في تجاربي في الموسيقى والكتابة والحياة عموماً.
التسجيل بأكثر من تراك، مهم بالنسبة إليّ، لأنني معنية بالتولدات الناتجة عن الغناء الجماعي والهارموني والتداخلات، لعله ولع ابتدأ منذ مشاركاتي بكورالات الجامعة. لا يمكنني التجريب ومغامرات الانشطار والاتحاد والتعدد إلا هكذا بما تتيحه التسجيلات من تحايل على محدودية الجسد والزمن والفيزياء.
* لو ترجمنا العبارة التي صدّرت بها مدوّنتك “عتمةٌ حثيثةٌ مُرجأة” وهي لجلال الدين الرومي “الأشعار تدوينات فظة للموسيقى التي هي نحن”، تطرح كتاباتك القصصية والشعرية التي تسكن المدونة موسيقاها المتنوعة على هذه العبارة، التي تصيد حيوية صافية يكون كل تعبير عنها فظاً إزاءها، ولكنها أيضاً مكتوبة، فلعلها حيلة الكتابة الفظة الذكية، حدّ تصطاد ما لا يصطاده فظ، وهو اختيار بين الموسيقى أياً كان معناها هنا والكتابة، كيف ترين هذا التجاذب؟
أنا منحازة تماماً إلى الموسيقى في كل ما أفعله. في اليومي، المُعاش تنفساً، نزفاً، أو مقاربة. لعلّ طموح الفنون جميعها الوصول إلى الانعتاق واللا زمنية والكونية التي تتيحها الموسيقى. الموسيقى في كل الأشياء، وفي اللا شيئية. في التعيين وفي الإطلاق، في الحديث والصمت والأجرام وما بينها من فراغ كما ورد في الأثر.
أظنني أبحث عن صوتي/ أصواتي باللغات المتاحة. لا أظنني أنجو من الموسيقى في كل ما أزعم.
=================
تنشر ميادة محمد الحسن كتاباتها على مدوّنتها “عتمة حثيثة مرجأة”، أعمالها الموسيقية والغنائية على صفحتها بموقع ساوند كلاود.
* نُشر هذا الحوار بمجلة ” الحداثة” السودانية في عددها الثالث / سبتمبر 2016.
* شاعر و كاتب من السودان.