أرانـب تطـاردني
قمت من نومي باكراً، أشعر بحيويَّة ونشاط، لم أعهدهما نهاية كل أسبوع، لضغوط عملي ورتابة اليومي التي لا تنقضي، إذ خلدت للنوم باكراً ليلة أمس، غير أن مصدر حيويتي شيء آخر. لقد قررت تخصيص هذا اليوم لهوايتي المفضلة.. بعد تناولي وجبة فطور خفيفة ارتديت زياً أخضر زيتياً لتمويه الطريدة، وانتعلت حذاءً أسود عالياً، يغطي الساقين تفادياً للسعات الأشواك والأفاعي. لم أنس التأكد من عدة القنص؛ البندقية والذخيرة والقوس والكنانة وبوصلة لتحديد الجهات وخريطة… حين هممت بالخروج نادتني أمي: إلى أين أيها العسكري؟ أجبت بعد أن حيَّيْتها مقبِّلاً رأسها: إلى القنص، فردت: مَنْ بندقيته فارغة لا يوجهها إلى الأعالي، ثم أكملت بلكنة متحدية: سنرى عشاءنا هذا المساء؟
كانت سماء دجنبر مكسوةً بغيوم خريفية، ونسيم الصباح العليل لم يتوانَ عن تجديد رئات أشجار المدينة وحديقتها، أغلب المحلات ما زالت مغلقة وحركة السيارات والمارة قليلة، بعضهم تظهر عليه أمارات النوم وهو متجه لقضاء مآربه. يممت وجهي نحو موقف الحافلة لتقلني إلى وجهتي، الغابة البعيدة أكثر من سبعين كيلومتراً.
بمجرد أن توقفت الحافلة، قفز من بابها ثلاثة أرانب مسرعة، كأنها انطلقت في سباق، تبعها رجل ستيني تلف رأسه عصابة حائلة وتفاحة آدم تتحرك في مصعد حلقه وهو يولول: ضاع رزق الأولاد، سنة كاملة وأنا أسمِّن هذه الأرانب الملعونة وفي الأخير تتنكر لكل هذا الجميل، ثم زفر طويلاً دون أن يكظم غيظه، صاح شاب من داخل الحافلة متهكماً: أرانب اللبن أخذتها القرود، قلت في نفسي: يا لحظي أرانب وقرود لقد تحولت المدينة إلى غابة ولا داعي إلى أن أقطع المسافة الطويلة إليها، مع احتمال أن أجد الغزال الذي تحبه زوجتي أو أصادف نمراً أهدي فروه إلى أمي تتخذه شالاً في الشتاء القادم أما الكلاب والدجاج فتملأ المدينة.
غادرتِ الحافلة مخلفة وراءها الغبار ورائحة البنزين ورجلين؛ أنا وصاحب الأرانب الذي عكست صفحة وجهه شكوكاً ضدي حول أرانبه، وبدا يضرب كفا بكف ويحوقل، لا أخفيكم أني تعاطفت معه لما تذكرت رجوعه مساء إلى بيته خاوي القفة.. اقترب مني حين رآني على الرصيف أفتح الحقيبة وأفرغ منها عدة الصيد، البندقية والمنظار وحزام الذخيرة إلى يميني والقوس والكنانة والبوصلة إلى يساري والخريطة في الوسط. لم أكد ألوي حزام الخرطوش حولي حتى وقف شرطي على رأسي وقد تساءل بلهجة محتدة:
هل تحول الرصيف إلى سوق أو متحف دون علمي؟
أجبت بلطف مشيراً إلى العدة:
هذه الأغراض ـ أيها القائد ـ ليست للبيع كما أنها ليست للعرض.
لا أخفيكم أن عبارة “أيها القائد” نطقتها بتودد مصطنع، وبحزم ظاهر رد: إذن ماذا تفعل بها هنا؟ أجبت مشيراً إلى صاحب الأرانب: كنت أنتظر الحافلة المتوجهة للغابة كي أمارس هوايتي المفضلة، وحين وصل قفزت منها ثلاثة أرانب لهذا الرجل كان متجهاً بها إلى السوق الأسبوعي. وفي خطوة استباقية لأية عواقب مددت له بطاقة هويتي وبطاقة انخراطي في الجمعية الوطنية للقنص ورخصة استعمال السلاح، نظر إليها متأملاً صوري عليها ثم قال مستغرباً: ملامحك هذه؟ وأضاف: غريب.. صورك مختلفة، بل بعيدة عما أراه أمامي.. لا بد من تحري الأمر، وقبل أن يعطيني فرصة لأشرح له أن الصورة الأولى بالأبيض والأسود والثانية تعود إلى أكثر من عشر سنوات خلت والثالثة.. أما ما يراه في الواقع فما خلفه الزمن وصروفه. كان قد أجرى اتصالاً آخر كلمة فيه مستعجل التي كررها مرتين ثم أمرني أن أدع كل شيء كما هو.
رغم استعجاله الأمر وصلت دورية الشرطة متأخرة ودويُّها يسمع من بعيد.. وقفت بفرملة قوية وارتمى من أبوابها رجال شرطة شبان مدججون مقنعون لا تظهر منهم إلا العيون، تكلف كل واحد منهم بمهمة، أحدهم تولى جمع العدة بحذر شديد، وآخر كبَّل يدي إلى الوراء، بينما لزم شرطي قمرة السياقة، وأحاط بنا أربعة أو خمسة في شكل دائري متحفزين، وأعينهم في كل اتجاه، بينما اكتفى واحد منهم بتشمم المكان فسألته: هل شممت رائحة الأرانب؟ أثارت ملامحه اللاصقة بالقناع استهجاناً رافعاً حاجبيه إلى أعلى دون أن يجيب، ثم هموا بحشري بينهم داخل السيارة حينها رميت بصري صدفة نحو مطرح غير بعيد للمخلفات، فإذا بالأرانب الثلاثة متجمعة حول بعض أوراق الخس وبقايا جزر تتفرس في وجهي مبتسمة وترفع آذانها إلى أعلى، حاولت أن أثير انتباه صاحب الأرانب إليها لكن يدي المكبلتين وإغلاق باب السيارة بسرعة حال دون ذلك، واكتفيت بالصراخ: الأرانب الأرانب.. إنها هناك.
لا شك أن هؤلاء الشبان قد ترسبت لديهم الآن قناعة أني مجنون أو بي مس ملعون، ويتساءلون في قرارات أنفسهم: عن أية أرانب يتحدث هذا الأحمق؟ في رمشة عين انطلقت سيارة الشرطة تملأ الطريق بالزعيق ملفتة أنظار المارة، بينما ملامح رجال الشرطة صارمة ورموشهم وحدها تتحرك داخل أقنعتهم السوداء، شعرت بارتخاء كلي وهام تفكيري في التهمة التي سوف تكال لي وعقوبتي ومدة سجني.. استعدت قصص التعذيب التي تعرض لها ضيوف الشرطة من سب وشتم وضرب ولكم وتكبيل وتنكيل وتعليق وخوزقة وغطس الرأس في الماء وصعقات الكهرباء وصفعات على القفا.. حينها أحسست بحرارة تصعد قفاي فالتمست من الجالس يميني: أرجوك أمسد قفاي فيداي مكبلتان، فرد بجدية: هل نحن في حصة تدليك؟ سمعت إثرها ضحكات مختنقة ثم سألت نفسي: أليست الشرطة في خدمة الشعب؟ أليسوا هم من أفراد الشرطة وأنا واحد من الشعب؟ أين الخدمة إذن؟
لم أنهِ سؤالي حتى وجدت السيارة تدخل بناية كبيرة تختلف عما سمعت به عن المخافر، ففي وسطها حديقة صغيرة تحيط بها أصص نباتات ترفرف حولها فراشات، وفي العمق صورة كبيرة للرئيس على جدار بنفسجي، تعود إلى أكثر من ثلاثة عقود حيث يظهر شاباً، ثم فكرت في تضييعي للشاهد الوحيد في قضيتي صاحب الأرانب، فهو الدليل القاطع على براءتي، لماذا لم أنتبه إلى ذلك من قبل، لطلبت منهم أن يأتوا به لإحاطته بتفاصيل القضية، ثم فكرت: لم يقبلوا أن يمسدوا قفاي فكيف يقبلون بإحضار الشاهد؟ وحين تقدمنا إلى الأمام رأيت قاعة كتب على بابها: إرشاد وتوجيه، كدت أدخلها لأسال عن أي جديد للأرانب، لولا أن يداً سحبتني من كتفي بقوة وحثتني على متابعة السير، فقلت: أريد أن أسأل فقط عن الأرانب، إن كانت في نفس المطرح أم انتقلت إلى مكان آخر؟
بعد مرورنا أمام مكتب بطائق الهوية، وجدنا الناس في صف طويل منهم من اقتعد الأرض بعد طول انتظار، ثم عبرنا ممراً طويلاً أفضى بنا إلى سلم ضيق، نزلناه تحت طقطقات الأحذية وبدأت الصورة تتغير، إذ بقي معي شرطيان يصاحبانني ولم أنتبه إلى اختفاء الآخرين، وقد عزوت ذلك إلى تكليفهم بمهمة البحث عن الأرانب.
دخلنا قاعة لم يكتب على بابها أي شيء، ثم خرج الشرطيان وأغلق أحدهما الباب. بقيت وحدي مكبل اليدين على كرسي خشبي، أمامي مكتب بجانبه طاولة مربعة عليها آلة كاتبة، بينما توجد نوافذ صغيرة مغلقة على الجدار المقابل يتسرب منها ضوء ضئيل. بعد انتظار طويل نفذ الضجر إليّ وبدأت علامات الاستفهام تقرعني: أين المسؤول؟ وما المانع من حضوره؟ وهل تشغله قضية أخرى أعوص من قضيتي؟ أم أن الأمر مجرد تكتيك نفسي الغاية منه إحباطي لينالوا مني الاعترافات التي يريدون؟ هيهات…
وكأنهم سمعوا أسئلتي التي لم انطق بها، إذ دخل شرطي فارع الطول يرمي عليه جاكتة سوداء، دار حولي دورتين دون أن ينبس ببنت شفة، أشعل سيجارة وبدأ ينفخ دخانها إلى أعلى، ثم نحوي، فأخذتني نوبة سعال أكدتْ له أني لا أدخن، فابتسم ابتسامة ماكرة وقال: هل تريد واحدة؟ قلت: رجاءً فك قيدي، فرد: ليس مسؤوليتي. وبعد أن أنهى السيجارة غادرني وهو يستفزني بغنائه:
هي الأرانب كذا، هي الأرانب
بتهرب من ذا وذا
وتختفي عن ذا وذا
هي الأرانب
بدأت أشعر أن الوقت طويل، وقد هدَّهُ التعب مثلي، وقدماه منتفختان داخل الحذاء، فقلت مخاطباً إياه: حرك دمك. فرفعت رجلي إلى أعلى بقليل ثم دفعتهما إلى الأمام وأعدت ثنيهما إلى الوراء في حركة رياضية، وكررت الحركة عدة مرات، حتى كاد الكرسي أن يسقط بي، فغيرتها بتحريك عنقي يميناً ويساراً إلى أن صفعني السؤال: أو تعد عنقك للصفع؟. أرتج علي ولم أجد كلمة أرد بها، آنذاك وقف أمامي رجل مطط شفتيه فصار فمه كمحفظة نقود، وقلت في نفسي إنها لعبة تبادل الأدوار لا غير، سيجعلون مني فأراً لتحقيقاتهم أو كرة يتقاذفونها بينهم، ثم خرج الشرطي دون يضيف كلمة أخرى، وصفق الباب وراءه مخلفاً ارتجاجه في صدري.
بعد ثلاث ساعات وأكثر بقليل، دخل ثلاثة رجال بلباس مدني، أوسطهم مربوع القد، ترمد فوداه وشاربه، اقترب مني ربت على كتفي وفك قيدي، وبنبرة معتذرة قال: أنت تعرف الإجراءات في مثل هذه الظروف، فكان لا بد من التأكد من هويتك ورخصة استعمال السلاح، فالأمر ليس بسيطاً خاصة أننا انتظرنا تحليل عدة القنص بعد إرسالها إلى المركز الوطني لتقنيات القنص والصيد، وكل هذا يتطلب وقتاً ليس بالسير، ودون أن يترك لي فرصة للحديث قال: ما هي قصتك يا أبا الأرانب؟
أحنيت راسي فوقعت عيناي على آثار واضحة على يدي كدمالج موشومة، وقلت: الأكيد أنك اطَّلعت على قضيتي الفارغة، فردَّ للتو: صحيح أنها قضية، أما وصفك لها بالفارغة، فهو تقدير نختلف فيه، وعلى أي حال أريد سماع تفاصيلها منك، حينها أومأ لأحد مرافقيه بتدوين أقوالي.. قلت مستعطفاً: أشعر بالعطش والجوع. أجاب: الماء ممكن، أما الأكل فلسنا في مطعم. ثم أشار للثاني بإحضار الماء. بعد برهة جاء يحمل قارورة حين مدَّها لي لم أتوقف حتى أتيت على نصفها، فقال المسؤول: أطفأت عطشك فارو عطشنا يا أبا الأرانب، مسحت شفتي وقلت: في البداية لست صاحب الأرانب ولا أباها، وكل ما في الأمر أني كنت أنتظر الحافلة المتوجهة نحو الغابة لأمارس القنص، وحين وصلت قفزت من بابها ثلاثة أرانب هاربة من شيخ كان يتوجه بها إلى السوق، فأخذتني الشفقة به والرحمة بصغاره حين يعود مساء، فأخرجت عدتي لإمساكها، ويمكنكم التأكد من أقوالي بسؤال صاحب الأرانب، هل أتيتم به؟
صاح وقد تطاير اللعاب من فمه: القنص يزاول في الغابات والمحميات الخاصة به، وليس في المدن والشوارع، ألم تعلم أنك ـ وأنت تعرض أسلحتك على الرصيف ـ قمت بترويع المواطنين، وزرعت الهلع والبلبلة في الشارع العام؟ أليست هذه قضية عويصة أم فارغة كما تدعي؟ أتعرف عقوبة هذه القضية لو تم تقديمك إلى المحكمة، خاصة أن دلائل الإرهاب متوفرة فيها؟ حتى لو وجدت محامياً ذرب اللسان وتعاطف معك القاضي، فإن العقوبة لن تكون أقل من خمس سنوات سجناً، يعني ستين شهراً لن ترى الشمس، واحسب أنت عدد الأيام التي سوف تقضيها بين أربعة جدران في غرفة ضيقة مشتركة بين عدد من المجرمين المتعاطين كل شيء، أما إذا كانت محاكمتك موازية لحملة إعلامية حول تفكيك خلية إرهابية يتزعمها الأمير أبو الأرانب، ومع وجود أدلة الجريمة، فقدر أنت الحكم، ثم ألم تفكر في أسرتك في عملك، في الفضيحة، وقد عشت طيلة حياتك بعيداً عن كل الشبهات.
أردت أن أدافع عن براءتي، لكن صوتي خانني، وأردت بلع ريقي، فأحسست بحلقي جافاً كحقل صبار، وكنت مجرداً من كل دفاعاتي كحلزون دون قوقعة، يتخبط في حفرة تحت وابل المطر، فتحشرجت وقلت بصوت خفيض: ألم تضعوا شيئاً في الماء؟ ونظرت إلى عيني خصمي، فكانتا تشعان بريقاً كعيني قناص أصابت رصاصته الطريدة، ويستمتع بانهيارها ببطء إلى أن تسقط، وليس مثلي لم أرم خرطوشة واحدة، وها أنا أورط نفسي في قضية أرانب.. كان القناص وكنت الطريدة التي أغراها العشب ولم تنتبه للحافة.
مسح المسؤول شاربه الكث الأبيض، ثم ربَّت على كتفي للمرة الثانية، وقال بهدوء: هناك مخرج واحد لقضيتك، أحسست آنئذ بعودة الروح إليّ، فاتسعت عيناي وانبسطت أساريري وأنا انظر إليه كصبي وجد أمه بعد تيه، وقلت: ألحقني به. وسقطت أمطر يديه بالقبل، وقد كان في نفسي عضَّها عضة كلب مسعور، فقال: لقد أصبح لك عندنا قضية وملف، فإذا تعاونت معنا من أجل الوطن، سيصبح هذا مجرد أرشيف لا قيمة له، ولا أهمية، أما إذا… فسنقدمك إلى المحكمة لتقول كلمتها، رددت بلهفة: مستعد للتعاون معكم لمصلحة الوطن، ولكن كيف؟ أجاب: نحن في فصل الخريف وتوقعاتنا تشير إلى أن الشتاء المقبل لن يكون مثل سابقيه، لذا نريدك أن تساعدنا في قنص الزهور، فتساءلت مستغرباً: قنص الزهور؟ أضاف: زهور الربيع المقبل قلت: في الغابة أم المحمية؟ رد: بل في المدن والشوارع، ولأنك قناص حاذق، ستنجح في هذه العملية، خاصة أن الفرق بين القنصين بسيط، فقنص الأرانب أرض أرض، وقنص الزهور سطح أرض، وتأكد أنك لن تكون الوحيد مما سيخلق التنافس بينكم، وستخصص الوزارة لكم تعويضاً عن كل رأس، أقصد عن كل زهرة، يتم قنصها بل ستمنح الجائزة الكبرى للفائز منكم.
كنت منهكاً وأمعائي فارغة، فبدأت أشعر بالدوار، وأردت أن أتخلص من هذه الوجوه، وهذه القاعة الكئيبة، ومن الأرانب المشؤومة، فقلت لنفسي: لا ضير في التعاون مع السلطات فهي أدرى مني بمصالح الوطن، وهل سأعرف أنا أكثر منها؟ فلديها من المؤسسات والأجهزة ما يعرفون به كل صغيرة وكبيرة وليست مثلي لا أنظر أبعد من أرنبة أنفي، ثم إن قنص الزهور في المدينة سيعفيني من قطع الكيلومترات نحو الغابة في حافلة تعيسة، والمهم هو ممارسة هوايتي وتطويرها سواء بقنص الأرانب أو الزهور أو النمل… لم أكد اقنع نفسي حتى بادر المسؤول: ما رأيك؟ فحركت رأسي موافقاً، ثم أمرني بتوقيع وثائق ارتبت لها، وأشار للذي بجانبه بمصاحبتي إلى الباب، وحين خطوت نحوه قال: لا تنسَ حقيبتك يا أبا الأرانب وتمرن جيداً….
رماني الباب خراجا، ونزلت درجات السلم، فتذكرت أننا لم نصعد أية درجات عند دخولنا، ولما التفت وجدت أن المخرج هو الباب الرسمي لمفوضية الشرطة، وأعلاها يرفرف العلم الوطني… سرت أحمل حقيبتي وأجرُّ خطواتي ببطء، بينما الشمس تجنح لتشرق على الجهة الأخرى من العالم، فاقتعدت الأرض ونزعت حذائي وجواربي.. وجدت قدمي منتفختين وأصابعي ملتصقة ببعضها، فمسحتها ودعكتها، ثم حركتها تحت عيون المارة، ووضعت الجوارب داخل الحذاء الذي ربطت فردتيه بخيطهما ودليتهما من عنقي على صدري، ثم حملت حقيبتي وواصلت سيري نحو البيت وظهري مقوس.
بدأت عتمة الليل تغطي المدينة، ووجوه الناس متعبة من يومها، غير أنها لا تشغل تفكيرها بأي زهور أو أرانب، ثم تذكرت قول أمي صباحاً: مَنْ بندقيته فارغة لا يوجهها إلى الأعالي، وتذكرت انتظارها الطريدة للعشاء، فقلت: ليتني أمسكت أرنباً واحداً فقط… وفجأة لمحت من بعيد صاحب الأرانب منهكاً ولسان حاله يقول: من يريد الأرنب يتبع ذيله. لوحت له جهة السيرك وقلت: قد يخرج الساحر أرانبك من قبعته.
أخيراً وصلت إلى البيت، ووجدت أمي وزوجتي تتابعان مسلسل المساء. قالت أمي وهي تشير إلى حذائي المدلى على صدري: ما هذه الطريدة التي لم أرَ مثلها من قبل!. تابعت زوجتي بمكر: ليست طريدة إنها نياشين الجندي المجهول، ثم ضربتا كفاً بكفٍ في الهواء، وبدأتا تضحكان، ولما رأت أمي ملامحي قالت: لا تقلق فقد أعددنا حساء الخضر للعشاء.
* كاتب من المغرب