بيضة الكلب

واقف حطبة.
و فى كل مرة كنت أقف ذات الوقفة الحطبة.
علماً بأن كل ما بداخلي مُهزوزٌ و مضطرب ، كما أنني لم أبلغ الحلم بعد ، و الطقس فى مجمله دائماً ما يكون غرائبياً و مريباً . أبى هو الآخر يبدو غامضاً ، كثيفاَ ، بعيداً و مجروحاً فى جلبابٍ متسخ و بالٍ . و كلانا يرفع يده اليمنى بتحيةٍ عسكرية لا أفقه من أمرها شيئاً ،فى انتظار أن يأذن لنا جدي لأبي بالدخول عليه و خدمته .
هو يحمل كيساً به مقدار من التمر ، كيسين من حلاوة دربس أو كرميلا ، صندوقا للبسكويت و صندوقا آخراً صغيراً من حلاوة لكوم مع علبتين من سجائر أبو علم المحلي و كروسة من الكبريت . و أنا أحمل كيساً ورقياً آخراً به بعض من سبيطة موز .
– يااا كركووووون ، يا ابن الهووون ..
يصيح جدي بصوت راعدٍ و منذر ، لندخل .
كان منظره مهيباً ، مخيفاً ، و شجِّياً فى آن .
يجلس القرفصاء فى البرندة الأمامية وسط أكوامٍ من الحصى ، نواة التمر التى أنبتت و أينع بعضها ، مع أكوام أُخرى متفاوتة من الحديد و الهتش و كرات الشُّراب التى ضلت طريقها الى المرمى فاستقرت بين رجليه . شعر كثيف و ذقن يشتبك بشنبٍ يخالطه شيب و بقايا طعام ، وجه دائري بعينين كما الأسئلة الحائرة و أنف سالطُ و محزون .
دخلنا لنخرج ، أنا بجردل فارغ لجلب الماء مثنى و سباع من بئر الزقاق حتى تمتلئ الأزيار الثلاث ، و أبي بصينيتين و أوان فارغات مع براد شاي ، و جبنة فخارية ، تقوم جدتى من بعد غسيل العدة بإعادة تعبئتها . ومجدداً حال أن ننتهي من تلك المهام ، نرفع اليدين بالتحية العسكرية ، و من ثم نُغلِّق الأبواب على جدي ، و الباب الخارجي بجنزيرٍ من حديدٍ ثقيل .
– جدك ما مجنون ، غرقان غرقان بس يا الحبيب .
جدتي تقول ذلك بطريقة راسخة ، و هي تلحظُ رهقي و قِلّة حيلتي و ارتعاشات يدي .
و لكن ما هو الغرق؟ و كيف يكون و يتم ؟ و ما الفرق بينه و الجنون ؟ ثم ، لماذ لم تغرقي معه يا جدتي ؟
و ما السِّر فى جلباب أبي البالي المتسخ ، أو فى كلتا المرتين اللتين نذهب فيهما لجدي ، من كل أسبوع ، و نفعل ذات الأشياء ؟
أخافه و أحبه كثيراً جدي لأبي ، على الرغم من كونه يجهلني تماماً و الجميع .
أحبه و أخاف غرقه هذا ، مثلما أخاف و أحب تلك المرأة التى تنز حليباً و غرقاً ، كُثيب الرملة القمحية و القمر يضوئه و كأنه يُنعِّم أطرافه في إستدارة كما الأسى ، كما الحنين ، كما النزق ، بل كما الغرق .. يا صدرها .
و هي الأخرى ، و من دون أهلنا جميعا ، كانت غرائبية التفاصيل ، محمودة النفايل ، لا يشينها طول زائد و لا يقعد بها قصر حسير ، عوان بين ذلك . صافية اللون مرهاء ، بضّة المعاطف ، نهارية العينين ، ليلية القوام ، طاعمة كغلمة ، كثيرة العطايا ، يهابها و يطرب لطلعتها الجميع ، بل يطلبون النظر إليها ، و هل رآها الناس إلا ضاحكة مستبشرة . و عِند ملء ضحكتها تلك تأخذنى إليها ، تشمني و تضمني ، داسة يدها فى سروالي ، لتُمسِّد (عصفوري) كما تسميه ، و الذى لِمسِّها يكاد أن يطير ، فتضغط عليه ضغطات خفيفات كما المعاتبة فيصغي لها و يهدأ ، لتقول هي بصرامةٍ مُغوية :
– الولد ده عندو فرِّد بيضة و سوووده زي الكلب ؟
أحس بخجل و سعادة ينفرد بها ظهري ، و أنا أنفلت منها هارباً الى الزقاق ، و للمرة المائة بعد الألف آخذ فى تأمل عصفوري و بيضتى الواحدة السوداء .. بيضة الكلب ؟
فهل تراني كنت كلباً لم يبق منه إلا تلك البيضة الواحدة ، و أُذنان تتسمعان نبض ساعة أبي من على بعد ثلاثين قدماً من غرفة حبوبتي ، و التي دائماً ما أنام فيها ؟ أم تراني كنت فى طريقي للتخلق لأكون كلبا كاملا من فصيلة الكلبيات الثدييات اللواحم ،و أنا أتشمم الهواء لألتقط رائحة تلك المرأة ؟؟ و من غيرها ؟ نعم ، شموم ، و هي على مبعدة نصف ميلٍ من بيوتنا ؟
و حسم أبي الأمر ذات صباحٍ ندي ، و كأنه قد قد سمع قولها أي شموم ، أو أحس بهلوساتي ، إذ أنه بعد أن صلى الفجر حاضراُ ، ذات خميس ، و أعقبه بتلاوة نديةٍ لسورة “يس ” ؛ عاجل أُمي ، و هي تضع أمامه صينية شاي اللبن باللقيمات ، قائلاً :
– خلاص كلمى الحاجه – يقصد أمه ، حبوبتي- تقضي ليك الليلة حاجاتك من القروش العندها ، الولد ده حنطهرو بكرة ..
و من فورها بدأت الطقوس من الحمام أب ليفة أب مويةً دافية ، إلى الحناء فى اليدين و القدمين و العراقي الساكوبيس الجديد بسرواله أب تِّكة . و اندلعت حمى الدلاليك و عبق الحوش الكبير بدخاخين من طلح و صندلٍ و بخور جاولي و تيمان ، نساءٌ يرقصن ، ورجالٌ يبشرون و الزغاريد غمام . صواني الأكل داخلة فاضية و مارقة ملانة ، و كفاتير الشاي و الجبنات تأخذ بالدّروب .
– أبشر يا عريس ، أبشر..
الكّل يصيح بي ، و أنا في وسط عنقريب القّد ببرشه الأحمر و ملاءته القطيف ، و هي بجانبي ، قمر و شمس المكان و الزمان ، تهش عني الذباب طوراً ، و تضمني و تشمني أطوارا . شموم و أحيانا الشموم . الفرس الدّنقلاوي ، أم لَبَنين – العصيدة التى إدامها الّلبن و تعجن يالّلبن كناية عن جمالها و طيبها – ، القرمصيص ، الكنّانة ، السريرة ، الفركة أُم صفيحة و الجِّنية إذ يقال أنها (مِصاحِبة جّان) ، و هو الذى تسبب فى موت زوجها بعد أربعين صباحاً و ليلة من دخوله عليها ، الملكة .. كل ذلك بعض من أسمائها .
الزقاق إنزرد عن آخره بحمير الأهل الذين تقاطروا من المدن القريبة و الحلال ، و وجدوا فى الديناب المجاور لبيت جدى ببرنداته النملي الثلاث و حوشه الوسيع ، متسعا لهم ، و لبعض هداياهم من الأنعام .
لم يظهر أبي ، إذ و كما حدثت أمي بذلك في افتخار ، كان مشغولاً فى غرفته بنظافة ( أب جقره و مرمطون) بنادق من زمن التُّرك كانت لجدى ، و ذلك حتى لا تخذله غداً ، حال أن تتم عملية الطهارة . أعمامي و أخوالي يباشرون الضيوف و الأهل ، و الزمان طوع اليدين . أما أُمي فقد أشهرت كل حفلتها من الذهب .. الزمام و الرشمة ، الفِدَّو ، التيلة ، الغوايش و نص الجنيه ، و خصتني بالهلال الذهبي من فوق حريرة حمراء على جبهتي .الفرح يأخذ بالنواصى و الأقدام إذ كنت محبوباً بين الناس ، و أبي بدينابه كان مشهوراً و قبلةً للأهل ، الجيران و الضيوف .
– ها عب ها .. أبشر .
– ” العّب ، حمار المراسيل ” .
كنت واسطة العقد بين ثلاث أولاد قد سبقوني ، و الأقرب إلى أخواتي الثلاث الّلاتي لحقن بي . يميل لوني للزرقة و قوامي للطول .
(العّب ، حمار المراسيل) .
هكذا كانوا ينادونني ، فقد كنت طوال النهار طالع نازل مراسيل تلبية لطلبات ناس البيت . لكن أفضل أسمائي و أحبها إلى نفسي هو : (حبيب شموم) . هكذا كانت تندهني ، و تسأل عني ، و تفصح عن حبها لي ، الكل فى إستغرابٍ من ذلك ، و إن كانوا لا يستهجنونه أو يعيِّبوها به .
– من بكرة انته حتكون راجلي ، و أوعك تبكى من الطهارة ، لو بكيت تاني ما حتشوفني ..
همست شموم فى أذني بذلك ، مُقبلةً لي – لأولِ مرة – فى فمي ، قبلة كحسو الطير ، لطيفة و سريعة ، فصحتُ راجلاً :
– السما قريب ؟
فتبسَّمت بِكُلَّها و انتفضت قائمة على كمال طولها ، وريف قوامها ، هاتفة ، بل آمرة و مقررة بأنها هي ، و بنفسها و لا أحد سِواها من سيقوم بطهارة حبيبها ، حبيب شموم ، طهارة بلدية بالموس ، بلا بنج و لا خياطة! صنّ الكون كله و الناس أجمعين .
فَترستُ و الحناء فى قدمي ، ممسكاً بسوط وجدته فى يمناي بعد أن خرت الحناء منها ، و نزلت في المخاليق جلد . أشيل و أجلد ، أجلد فى الخلوق و من طرف . صنّ الكون كله ، الأنعام و الدواب . و أنا أجلد ، الحناء فى قدمي قد اختلطت بالتراب و الحصى ، و السوط فى يدي . و فى لحظة وجت زغاريد الدنيا كلها ، انفجرت الخلوق باليكاءِ الفَرِح . و فرقع فى الجو بارود أب جقرة و أعقبه المرمطون ، و عينا أبي تدمعان دماً ،
و دَخَن الجّو كله ببارود الخراتيش البنادق ، و دمدم و رزّم نحاس لا أدري من أين أتى ، و بلغت القلوب الحناجر
و من مكمنها ، مكمنه جاءت الصرخة ، لتأذن لي :
– يااا كركووووون ، يا ابن الهووون ..
و تَّوَا أسقطت ردائي ، مستلقياً على الأرض و بيضة الكلب تسند عصفوري الذى إشرأبت غلفته ، و عواء جميع كلاب الدنيا فى رأسي . و …. تتقدم شموم فى رقصة هي للحب و الغرق ، شفرة تلمع فى يمناها كبرقٍ صدوق ، و صُّرة صغيرة فى يسراها . حين انشحطت ميامن الرجال و كتوفهم تسند قبة السماء ، و أرجلهم رواسي تمسك بالأرض حذر أن تمور ، و حلاقيمهم كأنها سيلٍ خرَّ من علٍ .
– ياااحبييييبي ..
أنّت و شهقت شموم . و كأنها صقرٍ ينقضّ على فريسته بعد طولٍ تحليقٍ و مراعاة ، انكبت عليّ و غمرتني أعطافها ، ملايَّنها و رائحة الأنثى . لم أشعر بشيء ، فقط شَّح و وحّةٌ لِسان عصفوري ، ثمَ شيء كالبّرَد التصق به و مصّه ، و كلمحِ البصر أو هو أقربُ ارتفعت شموم سامقة ، فجراً صادقاً ،و هي ترفع يدها اليسرى مُدماة و غلفتى خاتم فى بنصرها ، و قد بدت فى ضوء القمر ككائن خرافي قد خرج لِتّوه من أحاجى الحبوبات و الخالات ،و شهد القمر الذى كان فى لياليه البيضاء الثلاث . و أنا (العّب ، حمار المراسيل) زائغ البصر ، منجذب أحدق فيه و أُصّوت ، أُزمجر ، أزوم ، أنبح و أعوي ، و قد وقفت مني الأذنان و انفردتا ، و تبعهما شعر رأسي الذى انتصب كما شوك السدر ، و شموم هائجة مائجة تصيح :
– غمِّد غمِّد .. ما تعاين للقمر ..
و غمرني كامل جسدها ، و هي تكاد تهشّم ظهري الذي أحس بألم فى آخر فقارياته ، و لسعتني حكة في مؤخرتي و كأن شيئاً يريد أن ينبت أو يخرج .
– غمِّد غمِّد.. ما تعاين للقمر ..
تواصل شموم نداءاتها ، و غمّضت غمّضت و صوت جدتي هو الآخر يأتيني – نائحاً و لاعناً – من قعر ليالي القمر البيضاء الثلاث و الدنيا موج و هوج :
– واااي يا يمه وااي ، الله يشيلو الداير يشيل وليدي زي ما شال جَّدو ..
– واااااي الليله وووووب علي يا شموووووم .
لثلاث ليالٍ بيضاء كاملات ، و شموم تلقمنى ثدييها و دمعها ، و أنا بين البرزخين ، الشمس و القمر ، الأرض و السماء ، الليل و النهار . لثلاث ليالٍ بيضاء كاملات ، و جدتي تشد من رجلي حتى تبقينى مستقيما ، و تتفتل فيهما ” يس ” و الجبال أرساها ، ” نون و القلم و ما يسطرون ،ما أنت بنعمة ربك بمجنون ” ، ” الإخلاص و المعوذتين ” .
لثلاث ليالٍ بيضاء كاملات ، و أبي يحصد النجوم برصاص أب جقرة و المرمطون و للعجب ، من برندة جدي .
لثلاث ليالٍ بيضاء كاملات ، و الديناب و الحوش الكبير يفيض و يفرغ بما فيه من خلوق و دواب .
و من مكمنها ، مكمنه جاءت الصرخة ، حاسرة للقمر ، و فاكّة لي من أسره و إساره :
– يااا كركووووون ، يا ابن الهووون ..