ثمار

(أشباح فرنساوي).. الرهان على التجديد

منصور والأشباح

 

إن الدربة وحدها لا تكفي لإنجاز مشروع معرفي متماسك، ما لم تكن هناك معارف ضخمة تسندها، علاوة على القدرات الفنية التي هي من أهم محددات نجاح العمل الفني، لذلك فإننا لو تعاملنا مع مشروع منصور الصويِّم السردي انطلاقاً من روايته الأولى (تخوم الرماد)، مروراً بمنتوجه الضخم في القصة القصيرة، ثم (ذاكرة شرير)، وكتاباته الصحفية الأخرى، حتى رواية (أشباح فرنساوي)؛ على أنها – أي الكتابة – قد تطورت بفعل التراكم وكثافة الخبرات؛ فإننا لا شك نظلم مشروعاً معرفياً حمل بذور اكتماله منذ نشأته الأولى، فالكتابة عند الصويِّم ليست ضرباً من التسلية، ولا هي ملهاة، بمقدار ما تنطوي على مشروع تأسس على محددات زمانية ومكانية، قيضت له الاستمرار بذات القوة، وفي حالة من النمو والتطور المستمر.

ولعلنا إذا ما تتبعنا الخيط السردي لمجمل كتابات الصويِّم السردية، نجدها لا تلتزم التقنيات السردية المألوفة، بل تنزع دائماً إلى انتهاج طرائق وتقنيات جديدة كلياً، حتى إنها ربما احتاجت إلى دربة خاصة للمتلقي، حتى ينفذ إلى مغزاها، وهذا بالضرورة من العلامات التي تؤكد على نضوج المشروع السردي ابتداءً، بجانب الموضوعات والقضايا والأسئلة التي يثيرها إنتاجه السردي، فمع اتسامها بالجدة، فهي أيضاً قضايا بالغة التعقيد، ويظهر ذكاء الصويِّم في أنه لا يقترح حلولاً في كل مسروداته للقضايا التي يثيرها، بل يُشرع باب الأسئلة التي من شأنها أن تفتح الفضاء للتلقي بحسب معارف القراء.

في (أشباح فرنساوي)، فإن أول رهانات الكتابة هو ما تعمده الصويِّم من لغة مخادعة، ترتفع بقارئها حيناً إلى مصاف لغة “أهل الأحوال”، ثم رويداً رويداً تقربه من لغة اليومي، وظني أن التحولات في هذه اللغة ليست عفوية، بل تعمدها الصويِّم ليشير بها إلى أن هذا العمل لا يلتزم الطرائق المألوفة. وتبدو قصدية الصويم في حركة شخوص الرواية، التي تكاد تضع كل الشخوص في موضع البطل، فبرغم ما يظهر من أن “محمد لطيف” ربما يكون بطل الرواية، إلا أن المتلقي سرعان ما ينتقل ليجد أن المكان بانتقالاته بين نيالا، السامراب، الفتيحاب، جريدة الزمان، قسم تكساس جنوب، هو أيضاً بطل من أبطال الرواية، وأن “بشير”، والملازم “ياسر”، وسيادة العقيد، والعاهرات، و”حنانة” الصغيرة المغنية، وشلة بيت السامراب، ومعهد جوته، ومثقفي أتينيه، كل يؤدي دور البطولة بحسب اللحظة التي يتأسس فيها خطابه داخل النص، وربما احتمالية أن يكون كلٌّ من هؤلاء بطلاً، قد مكّن الصويِّم من إدراج مقولات الرواية وفلسفتها بسهولة، تمكِّن من استيعابها وهضمها بذات اليسر الذي تتحقق به المتعة في متابعة السرد.

لا يمكن بأي حال الوقوف على فصول الرواية وتشريحها نقدياً، ما لم يُفهم أن الرواية (أشباح فرنساوي) تؤخذ كلياً، باعتبار أن الفصول تتصل ببعضها، ليس على مستوى موضوعاتها فحسب، بل أيضاً على مستويات لغتها وتقنياتها وزمنها، مع بعض التقاطعات المكانية بين الفصول، هذه قطعاً قيمة إضافية تضاف إلى العمل، بحيث تجعل السرد متصلاً غير منفصل، وقد مكّن من ذلك استخدام نصف الدائرة في زمن الحكي، في صعود تدريجي يهبط بذات التدرج ويمضي بعد ذلك في استقامة يبدأ بعدها بالصعود، هذه التقنية في تحريك زمن السرد تعد نادرة جداً، وربما هي من الطرائق غير المستخدمة إلا في قليل من الأعمال السردية – الخيميائي لـ”بابلو كويلو” نموذجاً.

فتحت الرواية جملة مسارات واستفهامات حول قضايا متعددة، فهي -الرواية- وفي بعض أسئلتها، قد استطاعت مناقشة البنى المجتمعية المتفككة، وتصدعات وتهتك من هم سلطويون، تمثلهم شخصيات: الشرطي، القاضي، بائع العقاقير، التاجر، وغيرهم، كما أن الرواية قد استطاعت وبوعي كامل فتح مسار الأسئلة حول علاقات العمل، ومسألة الاستخدام القائم على المحاباة دون الكفاءة – راجع المدقق اللغوي في مهامه شبه المستحيلة ومحاولة فرض سكرتير التحرير سلطته ثم حواره الحاد مع رئيس التحرير.

جملة ما يمكنني قوله في هذه الكتابة المحتفية والمحبة، هو أن الصويِّم قد افترع خيطاً جديداً ينبغي أن يفكر فيه كتاب السرد بروية، ذلك أنه يمكن للكتابة الحاضرة أن تفلت من القيود المفروضة عليها وتحقق فتوحاتها، وأن الالتزام بمعايير الكتابة المعدة مسبقاً ليس من الضرورة أن يكون عاملاً من عوامل نجاح العمل الإبداعي ولربما كانت هذه المعايير معوقاً يحد من قدرة الكتابة على النفاذ إلى قارئها بنجاح.

 

* كاتب ومترجم من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى