السُّوس.. كَائن الخَفَـاء الرمادي
” الجنون ليس سوى محاولة انسحاب خجول من الحياة”.
هزَّ رأسه مستبعداً فكرة الانسحاب من الحياة. قرَّر، في قرارة نفسه، التشبث بخيوط المواصلة ذات الحواف المنشارية الحادة.. عالج بنطاله الرمادي بخُرْقةٍ أكثر اتساخاً، ذات التي يعصر عليها السائل اللزج أحياناً.
ثمة رتل من النمل الأحمر، على الحائط يسيرُ في خط ليس في غاية الاستقامة، لكنه يصر على لا حياده عن جادة الخط.
استغرق وقتاً يتأمل النمل. اندهش. لأول مَرّة أتاحت له الملاحظة، بؤرة تلاقيه التي يختلف فيها العالم كليَّاً معه – مع كائنٍ ربما كان تافهاً وحقيراً في شوْف البعض.
أسرته الفكرة؛ طالما أن ثمة في العالم كائن يتفق معه في رؤية ما، على الرغم من وجود بعض المنفلتين في عالم النمل نفسه، لكنهم يعودون بسرعة.
السّْوس رمادي، مبعثر ومتناثر وتصعب عليه الإبادة الجماعية.
النمل مثل خيط من البارود.. من أينما وضعت شعلة عود الثقاب.. لا محالة مشتعل. يلعب على المكشوف والأسطح.
السوس على النقيض.. جبان عادةً.. متخفٍَّ.. ينخر العظام، مكامن القوة، ويفصل بين أجزاء الشيء الواحد فيجعله كثيراً.. الحواف المتينة يقودها ببطء إلى التآكل المباغت، إذ ليس هنالك من نهاية غير السقوط المُريع.
ترى: كيف ساقته التفاكير لوضع مقاربات كهذه؟!.
لعلها منطقية الأشياء؛ هي التي تجعل الأشياء والخواطر العابرة منطبقة على الواقع المنخور بفعل الآفات الرمادية.
أعاد ترتيب غرفتة العبثية.. نفض ذرات التراب الناعم عن مكتبة كتبه الرمادية. فقد مضى وقت طويل على الأسطح كافة، جعلتها ذرات التراب والقشور تتساوى في تقاسيمها الخارجية.. حاول تعويض المحارب القديم، الواقف على ثلاث، القابع في سكونٍ وصمت رهيب أمام المكتبة المتداعية، بساقٍ من الطوب الأحمر.. مسح دمعة حمراء جفت على خدِّ جون قرنق المبتسم؛ كانت عبارة عن ماء المطر المتسرب من خلال ثقوب السقف الجانبية. اختلط الماء برمل الحائط الأحمر فتسقط دمعة حمراء على خديه.
لَّمعَ شاشة قنديل الكيروسين الحزين.. ألقمه خيط اشتعال جديد.. بغتةً فكَّر في استخدام القنديل الذي ضوءه الشاحب بالكاد ينتشر في أرجاء فناء عتمتهِ الصغيرة في مشروع إغراقه المزمع؛ للخارج بالضوء.
صَبَّ فيه كثيراً من الكيروسين؛ الذي بإمكانه حَرْق المدينة الكرتونية بأسْرها. لكن أن يضيئها بالكيفية التي يريد، فذلك ربما العبط نفسه. سحب الدرج فأخرج حزمة فايلات تحوي تقارير كان يلوي على تقديمها إلى رأس الرمح الرمادي.. استلَّ من بينها ورقة صفراء، ممزقة؛ هي شهادة وفاته، وقد كانت ممهورة بتوقيع مديره في المصلحة، ومدبجة ببعض نياشين هرطقات وتُرُّهات كانت مسوغ رفده من العمل.
تبسم ساخراً من سذاجة الموقَّع.
أطلَّ “لوركا” من شباك الغرفة، وقد بدت على ملامحه علامات الشفقة والتعب.. رماه بحجر.. تنبّه.. وقبل أن يطلب منه الغروب عن وجهه، عاجله “لوركا” بصوته الدافيء الحزين :
جدليّة الحب اليائس..
لا الليل يريد أن يأتي؛ كي لا تأتي..
ولا أستطيع أن أذهب أنا.
لكن.. سأذهب..
ولو أحْرَقت شمس العقارب صُدِغي..
أشعل القنديل.. نقل الحريق إلى مقدمة السيجارة. أحَسَّ أول ما داست قدماه حصى الخارج، بعتمةٍ شديدة تخيَّم على المكان حواليه، والأشياء على إطلاقها.. كل شيء بدا معتماً مطموس الوضوح: حتى النهار بدا يفتقد إلى وضوحه الفيزيائي المفترض.. الشجر الأخضر رمادي.. الأرض وخطوط الطول والأفق والشمس رمادية. لَفَّ مطوًّلاً شريط القنديل: عَل العطب يكمن فيه.
العمارات الرملية؛ مخترقات السحب تقشرت ألوانها فصارت رمادية، رملية تنهار وتذوب في مياه النيل؛ التي سرعان ما صُبغت هي الأخرى بذات اللون العَكِرْ. أخذت الجسور الخشبية بعرباتها وناسها ولمبات “نيونها” تغوص تلقائياً داخل النهر.. لم يفهم الحاصل على وجه الخصوص.
أحد المارة.. كان يتزيا بجلباب فضفاض ناصع برقيُّ البياض.. متقن الكسرات.. لكنه من الخلف، تقبع عليه بقع سوداء يصعب كشطها جعلته شائهاً.
هذا بالضبط.. حال العالم.. قال .
أجال عينيه فيما حوله من فراغ.. كان الشارع برُمَّتِهِ يزحف على الإسفلت، وآخرون يقرعون طبولاً ودفوفاً ذات رزيمٍ فوضوي. وكان الشارع عمداً يشيح النظر عن بقعة الجلباب الأبيض السوداء.
تمنى لو يعير الشارع الأبْلَه عينيه؛ ليرى بهما تلكم البقعة.. كان أناه الداخلي يقظاً، حالما أطل وقد بدا عليه الخجل الموبخ.. هتف فيه لمجرد التفكير في أمر تماهيه مع جوقة المسَّاحين.
بدء المارَّة، يجرهم الفضول من تلافيفهم، والسخرية، يتحلقون حواليه.. لفَّ شريط القنديل؛ فالرؤية لا تزال باهتة.. أخرج حزمة الأوراق التابوهّية.. شهادة وفاته الصفراء.. حزمة التقارير النارية.
كان يحمل قنديله الهزيل ذا الضوء الشاحب وضح النهار، حسب أعينهم التي كالها رماد الرَّمَد.
قنديل في هذا النهار القائظ.. وهذه الشمس المذيبة، التي لم تترك لنا شبراً أو ظلاً نتفيأه؟! إنه لا ريب مخبول أو مجنون أو سكران.
كذا قالوا.
أحدهم قال بسخرية مُفْحِمَة: لَعَلّه المسيح أو لعله المهدي المنتظر.. هذا غير منطقي البتة.
لف ودار وسطهم.. صرخ وأزبد وسَبّ.. حاول إقناعهم بالذي هو الحقيقة.. أراد أن يمزق ورقة التوت لهم.. وقشور الأشياء، لكن أحداً لم يعبأ به، سوى أن رموه بالهلوسة والهذيان.
لملم أوراقه بسُرعة.. حشرها في الحقيبة.. حمل قنديله المشتعل وفج جوقة المتفرجين. كانوا يراقبون محترقين بفضولهم الحارق ردة الفعل. اعتلى قمة إحدى عمارات الرمل المتداعية.. أشعل سيجارة.. اجتذب منها نفساً عميقاً. كانوا في الأسفل مثل أكوام من الأقزام الحمقى.. أفرغ على المدينة وعلى رؤوسهم كيروسين القنديل.. أشعل السجلات التابوهية.. قام حريق هائل، استشرى.. استشرى واستشرى حتى عَمّ، بطريقة ما، العالم.
*قاص من السودان