ثمار

جغرافيا اللوحة السودانية (3)

عبد الحليم الخير

راشد دياب: عالمية الشلاليف!!

 (1)

الغريب في محاولة التسطير هذه أن التبرير هو مقدمتها، لا وأفظع من هذا تحتاج لإبراز بطاقة هويتك الأدبية بل والإنسانية كمرفق إيضاح، ومع إنو الإنسانية ذاتها بقت مشاع مشافهة مُلتبس فبالتالي، كمتمرِّد على كثيرٍ من أطر وعناوين التبرير نفسها، يعنيني هنا أن هذا المفهوم الإنساني هو هدفُ هذه المصادمات الدامية لوناً كناقوس خطرٍ في وجه كثيرٍ من مسلَّمات التقديس لما رَسَخ بأنها قامات تشكيلية سودانية عالمية، وأضان العالمية في براح التسطير الغميس دا أظنها طَرْشَا!! وطَرَش العالمية هنا مخصوص، تتجاسر خصوصية التاريخ والمحلية لتنتصرا على هذه القدسية لمفهوم الفنان السوداني العالمي بكل بساطة الفَرْحة.

والعالمية التشكيلية السودانية برضو شَكْلَهَا كِدَه خشم بيوت؛ الأعمى الرِكب الطيارة شايل فيها المكسر، لتكون بداية طرح ذات الأسئلة المتمردة في وجه الصورة الإعلامية الهشة العضام عن الدكتور السوداني الإسباني راشد دياب!! وبرضو المحاولة دي عبارة عن حصة تاريخ وجغرافيا، تاريخ غريب لما يُسَمَّى غصباً عن الواقع تجربة تشكيلية سودانية، وجغرافيا التجربة دي وحسابات زايد وناقص التجربة دي من عمر الوجه الحضاري والثقافي للوطن السوداني الجميل، بعيداً عن لغة التسطير الشترا وقريباً جداً من مفهوم إنسانية التجربة التي يتم طبخ كبارها بالخارج على نارِ العالمية الهادئة نفسها، وملايقتها بويكة لايوقة لياقة القدسية المدروعة فوق رقاب التاريخ كحقيقة غبشاء يجب الإيمان بها وبدِيْن العالمية، فمن دَخَل في دين التشكيل العالمي فهو آمن من محليَّة الانتماء كواقعٍ فاضح!!

(2)

هل الدكتور راشد دياب فنان تشكيلي سوداني؟ فلو حاولنا نتَلِّب فوق حيطة بيت واحد من خشم البيوت العالمية الكثيرة للإجابة عن التساؤل الغريب دا، فراشد دياب (ما) فنان تشكيلي سوداني!! نعم، وبتصريح واضح في حكمة التفكير والتدبير لتبرير هذا الإعلان الكارثي بالنسبة لقدسية الفكرة، فراشد دياب، كحقيقة إنسانية تشكيلية، هو ليس سوى نسخة غربية مشوهة لفنان تشكيلي مفترض سودانيّته!! على أن الورطة في حقيقة التساؤل والإجابة تكمن في (شنو) يعني فنان تشكيلي سوداني؟ و(شنو) يعني فنان تشكيلي سوداني عالمي؟

من رحم محلية الانتماء كواقع فاضح، فنان تشكيلي سوداني يعني بالدارجي فنان تلقَّى دَرْسه الأكاديمي بكلية فنون جَدِّي قِرِين لو الجميلة والتطبيقية، دون الخوض في تفاسير التقييم لتجربة الكلية بالسودان. باعتبار أن النضمي في مشاع التجربة دي أصبح زي ونسة المَشَّاطات، يجلب الملل للتاريخ نفسو، أعَدَّت هذه الكلية الدكتور راشد دياب -كما غيره- على فصاحة المنهج الغربي في إعداد الفنان التشكيلي، مع التحفظ على تشكيلي دي، نظرياً وعملياً، في ذات البون الشاسع بين نوعية وجودة التأهيل وواقع البيئة التي جاء منها الدكتور؛ حيث الضعف في كل البنيات الاجتماعية التي ممكن أن تكون حاضنةً له حسب ماركَتِه الإنسانية الجديدة، فكان الحل في ذاك الزمان هو ركوب طيارة النجدة الإنسانية صوب الغرب: الأب الشرعي له ولنا. هاجر الدكتور لبلاد الماتدور، درس وحَضَّر دراساته العليا وأخذ الجنسية الإسبانية وعُيِّن محاضراً بإحدى جامعاتها، وعاش وتزوج هناك فناناً تشكيلياً، وهنا يأتي منعطف فرز الكيمان للهوية الإنسانية للفنان الدكتور راشد دياب.

(3)

لا يعنيني هنا، من قريب أو بعيد، كم من الزمان عاش دكتورنا في إسبانيا!! بقدر ما يعنيني، وعلى وجه التحديد عن طريق طرح الأسئلة المتخلفة عن ركب قدسية الفكرة حول عالمية الفن ومحليته، هو أن حبل الانتماء العاطفي السرِّي لسودانية راشد دياب قد انقطع كحقيقة، وذلك بأن البيئة والجنسية الجديدة لفنان أكاديمي سوداني هي التي منحته ماركته الإنسانية العالمية الجديدة في سوق بيع الكلام بالجملة برضو، وبيئة الغرب -على قبح رأسماليَّته البغيضة- مقارنة مع واقع وبيئة الفنان الأكاديمي راشد دياب هي غربال التقييم الإنساني الحقيقي، أو، بدقيق الدارجية المملة، لو ما رِكب الطيارة هل كان حايكون دكتور وفنان تشكيلي عالمي؟ على الرغم من أنه قد رضع من ثدي الموروث الثقافي السوداني، إلا أن فطامه قد تم في حالين كاملين؛ حال البقاء بعد هيلمانة وبهاء درس كلية جدنا قرين لو، وبالتالي يواجه احتمال التقييم مع جماعة القديسين والقديسات الأحياء منهم والأموات ممن لم يركبوا الطيارة، والاقتناع بالبقاء مغبراً في رَفّ الأحلام، وكان صاعَ كما صَاعَ غيره، أو حاله الذي اختاره فصاغَ إنسانيَّته كاملةً في الغرب؛ حيث صياغة وصيانة القيمة الإنسانية الحقيقية له كفنان تشكيلي. وهنا ينبغي علينا لبس عراقي الَّلداحة، هنا تكمن مفصلية التأسيس لهوية الرجل في أنساق البحث عن إنسانية تجربته، على أن الَّلداحة وقدسية الفكرة ضدان لا يجتمعان، لأن التاريخ النقدي قد حَشَر إنسانية راشد دياب وكل هذه الظروف التأسيسية في مشاع التقييم في مسطحات أعماله، فهو جميل وعمله جميل وشارب (موية النيل)، ويا جبل ما يهزّك ريح!!

إنسانية النيل، كفعل وجود حضاري رمزي، وكمدخل لقراءة هذه المسطحات المقدسة تاريخياً، لا تُعفي دكتورنا العزيز من تجريده من سودانية الانتماء لهذه المسطحات (الغربية) كجنسية تجريب، وكهوية تقييم قبل ذلك؛ فكل الفنانين الغربيين السودانيين يحملون جينات تجريب واحدة، جينات أقرب ما تكون للخِدَع البصرية لسَحَرة فرعون، بهاء وحرفية تجريد لوني مع رِقّيع لموتيفات سودانية تكاد تكون متفق عليها في سوق التجريب الأغبش، أو إن صَحَّت غتاتة التقييم النقدي في سوق البيع الرخيص لمختصر إنسانيتنا وحصرها في هذه الموتيفات السودانية المكررة، لتَرْسَخ في سوق البيع كمرآة عاكسة لهوية الموروث الحضاري والثقافي لوطن يزخر بكم هائل من تفاصيل التنوع؛ هذه النسخ السودانية الغربية منحت لنفسها هذا الحق في صناعة واقع مزيف عنَّا وعن الوطن، أصبحت عالمية هذه الأعمال وتقييمها في سوق الرأسمالية الغربية الفنية على قد لحاف حشد موتيفاتك وبداءتها مدّ لحاف سعرك، لم تؤسس هذه المسطحات إلا لمجدٍ شخصيٍّ لهم بعيداً عن أي مشاريع إنسانية فنية تعكس الوجه الحقيقي لإنسان السودان الجميل كمّاً ونوعاً مخصوصاً.

المهم هنا إنو بذات غباء الفكرة المقدسة بِقَى راشد دياب فنان تشكيلي سوداني (عالمي)، فنان تشكيلي سوداني عالمي عن طريق ترقيع العاطفة، ورجع الرجل للوطن وبرَّد الجو: جاء الرجل بمشروع ثقافي فني يفوق حجم جميع برامج الوزرات المتعاقبة من زمن استعمار جماعة جِدِّي قرين لو للسودان، جاء وجاب معاهو كل أدوات الماكياج والمساحيق التي تختصر له وقت الظهور كفنان سوداني أصيل (ود بلد) يعني، لا وود بلد قد (رفع) اسم بلده في كل المحافل العالمية الأضانا طَرْشَا، جاء الرجل حاملاً غنائم السودانية العالمية مادياً وأدبياً ليؤسس مشروعاً ثقافياً جديداً في نفس وبيئة وواقع راشد دياب الخريج الأكاديمي من مسلخ كلية جِدِّي قرين لو رضي الله عنه، لكن كونه رجع دكتوراً عالمياً لم يحسب صاحبنا حجم السوء والتبدلات الاجتماعية بسبب تقاطع كم هائل من الظروف الغريبة على واقع الإنسانية، حتى وصل بمن يريد تثقيفهم جمالياً أن حسبهم لقيمات يقمن صلبهم، وليس لوحات مرقعة زائفة الهوية تسد رمقهم للجمال، ليكون السؤال: هل مسطحات راشد دياب اللونية زائفة الهوية ما دام قلنا إنو ما فنان تشكيلي سوداني؟.

IMG-20170126-WA0016

الرجل صَرَّح علناً أنه وصل مرحلة بيع هذه المسطحات السودانية الغربية في سوق الله أكبر بتاع الغرب بالبوصة!! يعني المشتري يجي مقتنع وشايل مسطرتو أو مِترو ويقيس لوحة الدكتور السوداني العالمي ويجمع عدد البوصات ويدفع ويتخارج دون أي مساومة في السعر؟ أها اللداحة هنا ضرورية، شوية نسوان ممكن يكونَنْ سودانيات ولا موريتانيات أو أمازيغيات، مع شوية زخارف مفترض أنها سودانية، مع تمساح أبكبلو أو تمساح من الواغ الواغ، مع حرفية تجريد لوني لفنان غربي ماهر ودُقِّي هني يا مزيكة البوصة؟ أقصد البوصة السودانية الإنسانية، كمقياس لقامة الرجل العالمي وقد تَوَهَّط في علياء الحضور للوطن؛ البوصة كانت صوتاً مخيفاً تجاه هذه القامة!! بل هو صوت حَسَم وجوده في فقه صناعة النجم التشكيلي في بطن واقع أقرانه بالداخل، لا وكمان نجم محترف، رجل ببيع بالبوصة وجاء وأسَّسَ مركزاً ثقافياً ضخماً من (حُر ماله) (مال العالمية السودانية المرقعة)، وهو من وجهاء قبيلة التشكيليين السودانيين العالميين، ليكون برضو من ضمن أدوات التأكيد على وجود تجربة سودانية تشكيلية وبس بدون محلية ولا عالمية؟

(4)

جغرافيا لوحة راشد دياب هي جغرافيا عاطفية ليس إلا، سواء كانت هذه اللوحة قد استوفت كل معايير الجمالية الغربية -بهاء وجودة منتج- أو فشلت في ملامسة حقيقة أنها لوحة سودانية أصيلة، وأصالة اللوحة السودانية دا كمان براح نقدي متمرّد آخر، اللوحة التي أعنيها هنا هي اللوحة التي يحمل فنانها مشروعاً إنسانياً سودانياً خالصاً، اللوحة التي تُعَبِّر عن إنسان السودان في بهي صورته وبهي تنوع ثقافته، اللوحة التي يكون صاحبها صادقاً متصالحاً مع نفسه، اللوحة المجردة من غرض التكرار الذي يؤكد الظهور على أي شاكلة إنسانية المهم إنو أنا وبس. الدكتور راشد دياب، في تقييم تجربته، فنان ملون يكاد يكون تجاوز براعة المعقول في مجال متبدّل، لكن هذه الإجادة في غالب أحيانها ليست سوى أعمال تستهدف سوق البيع بالبوصة، الأفكار اللونية لدى الرجل فارقة جداً في بساطتها وجمالها، لكن لوحة راشد دياب بعيدة جداً عن إنسانية الانتماء كمفرز تعبير عنّا وعن مكوننا الثقافي.

فمخصوص المشروع الإنساني لكل فنان لا يمكن أن نتداول أمره خارج مشروع إنسانية الفنان نفسه، جاء الرجل بمشروعه التشكيلي الغربي والذي لم يشذ عن طود كثير من التجارب اللونية، سواء كانت المحلية أو السودانية العالمية، وعندما فوجئ بهذا الزخم المتشابه في أفكار اللون تحول إلى نساء الوطن؟ كسلعة بيع جديدة، فكانت طامة الفكرة، لم تؤسس هذه التجربة اللونية لأي معالجات فكرية داخل مسطح العمل، حتى صارن (نسوان راشد دياب) بس، جغرافيا لوحات النسوان تلك لم تلامس أدنى فكرة من معاناة المرأة السودانية وواقعها الراهن في كل بقاع الوطن، وهي لا تمثل سوى حرفية الدكتور ومعالجاته اللونية.

مركز راشد دياب هو في صفة إنسانيته ليس سوى هزيمة لفكرة التثقيف الأعمش لمشروعه، قامْ تَمَّاها جلاليب تعكس غرابة المنظر المألوف للجلابية السودانية، غرابة المظهر وضعف الجوهر، برضو بقت جلاليب راشد دياب بس. وتَمَّاها بجهد شَلُّوفي فارق في فقه الظهور الإعلامي لنجم تشكيلي فعل كل شيء عشان يكون النجم الأول في شباك العرض التشكيلي. فشل في إيجاد مكان له كمحاضر بكلية الفنون، وفشل فشلاً مُذِلاً في تزعم اتحاد التشكيليين السودانيين، أصبح راشد دياب هو الوجه الإعلامي لأي فكرة برنامج تلفزيوني لم تترك شلاليف الرجل أي فرصة نقد لاذع إلا وكاله لكلّ شيء في أي شيء: الخرطوم لا تشبه أي قرية أوروبية، الثقافة الجمالية والجهل البصري ونِقَّة شَلُّوفية كَتِيرة، في حين إنو قاعد يهشّ الضبان في مركز بهذا الحجم، فشل في استقطاب حتى أهل الوجعة من قبيلة التشكيل، فما كان منه إلا أن يستضيف الليالي الجهادية والشعرية وأي نشاط ثقافي تاني، لم يؤسس المركز لأي نشاط وحراك فكري على أقل تقدير التدبير حول إشكاليات تداول الفن التشكيلي في السودان، كما لم يؤسس لأي علاقات مع مراكز مشابهة بالخارج، لم نسمع باستضافته لأي فنان علامي من أقرانه سواء كان فناناً سودانياً عالمياً أم كان فناناً علامياً خواجة جد جد، ظل المركز يمثل صاحبه الذي صار منبوذاً في براح التشكيل وقبيلته المتمردة على نظام الأبوية والسلطوية القبيحة بسبب أنا منفوخة بفعل الجلاليب والشلاليف.

يقودنا واقع حال الدكتور السوداني الإسباني لواقع منتجه الإبداعي على يقين التقييم لو كان مشروعاً إنسانياً شفيفاً لالتف حوله الجميع بل وباركوه له، لكنها، كما غيرها، لوحات أُنتجت للسوق العالمي وللجهد الشلوفي كتمامة وجود إعلامي. جغرافيا لوحات راشد دياب تظل مرتبطة بمادية الوجود بعيداً جداً عن إنسانيتها، كمشروع تظل مرتبطة بالجهد الشلوفي العالمي لفنان متمكن كان يمكن أن يدفع بحركة التشكيل السوداني دا إن وجد إلى آفاق غير فقه الشلاليف والجلاليب، بل وكان بقي النجم التشكيلي الأول في براح القدسية للفن ولفنانيه بالسودان.

* كاتب من السودان 

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تصدره جريدة السوداني

زر الذهاب إلى الأعلى