صرخة الصباح البعيد
مُنتصف ثمانينيات القرن المنصرم.
كانت الأمور كلها في القرية النوبية التي في أقصى شمال السودان، تبدو وكأنها قابلة للاختزال في جملة واحدة على نحو من “عندما يغفو المصباح يصحو الجميع”.
المُميز جِدّاً في ذاك الصباح، هو ما سأسرد تفاصيله التي تبدو كسلسلة أتمنى ألّا تنفرط حتّى يلتقي طرفاها. المُميّز فيه، هو أنهم عندما أيقظوني لم يكن المصباح نائماً، كان يمدّ لسانه الملتهب كأنه يحاول إغاظتي وأنا لا أستطيع أن أفعل المثل معه، إذ كنت مشغولة بإكمال فتح عينيّ بحذرٍ شديد خوف أن تؤلماني جراء التهاب أصابهما منذ أيام مضت. أيقظوني قبل أن تصحو الشمس والمنزل ضاج بأحاديث متداخلة تقطعها من حين إلى آخر، زغاريد طليقة.
أسرّة مُنمقة بأغطية حمراء، روائح البخور تدخل عبر المسارب والمسام؛ فتحيل كل سوائل الجسد إلى (برفانات)، أحسست كأني شجرة صندل، أطرافي فروعها، لو اعتصروني وقتها لأدهشت باريس بمحال عطورها العتيقة. فات عليّ أن أذكر أن نهايات أطرافي كانت مضمّخة بالحناء، خالتي التي وضعتها على مرتين وليومين متتالين، لم يجهدها الفعل قدر انخراطي في الاحتجاج وإبداء الملاحظات، فأنا مهمومة بالدقّة والإتقان مُذ صغري، لذلك لن أسمح لخط الحناء أن يرتفع أو ينخفض إلا بالمقدار الصحيح بحسب نظري إليه من أعلى، وهو الأقل دقة مقارنة بنظر خالتي التي يواجه وجهها أطرافي. لكن لا يهم، فأنا في النهاية من يضع المعايير لا هي. ثم إنها ظنت أني نِمتُ في المرتين جراء الإرهاق ولم تعلم لا هي ولا أنا إلاّ بعد سنوات عدة أني لم أنم وقتها، ولكنها كانت إغماءة خفيفة إثر حساسية من رائحة المحلبية القوية. ملامح الاحتفاء لم تستطع إلهائي عن الهمسات والنظرات الحانية حيناً، والقلقة التي كانت أمي تتبادلها مع أخواتها وجدّتي.
في ذلك الصباح المزيّن بالهمسات المعطّرة، جُلِب الماء باكراً في “جركانات” أربع، مُعبأة من النيل مباشرةً ومحمّلة على ظهر حماري (نلو) وتعني (أبيض) بالنوبية، أطلقت عليه هذا الاسم بسبب خط أبيض رفيع على بطنه اعتدت أن أداعبه كلّما هممت بأن أُسِرَّ إليه، إلى (نلو) بقصصي التي أغلق عليها صدري. أنا أستحم كل يوم وحدي، حسناً ليس كل يوم، كلما انتهروني ثلاثاً، بمعدّل مرّة كل يومين، لكن اليوم على غير العادة، أخذت أمي إحدى “الجركانات” بيد وقادتني باليد الأخرى ودخلت معي حمامنا الذي أكره، “جركانة” أخرى مقطوعة الرأس والجزء الأعلى وإناء قديم يُسمى “كورة”، وليفة وصابونة غير دقيقة القطع، أشعر أني “إطار عربة” كلما حككت بها جسدي الصغير. و”بنبر” مهترئ بسيور مترهلة إذا لم تكن دقيقاً ورشيقاً مثلي ستلامس مؤخرتك الأرض لا محالة. بدأت رحلة الاستحمام بأن خلطت أمي بعض الماء المغلي في “الجركانة” المقطوعة وأضافت إليه بارداً من الأخرى، بعد أن انتهت الرحلة حملتني أمي على كتفها وغطتني بثوبها، رائحة ثوبها تلك تستطيع إرسالك إلى الأحلام الوردية، من قطار يعدو، يمر بعطبرة ويستقر في الخرطوم في ثوانٍ معدودة، ولكن في المقابل، الماء الذي سقط من وجهها على يدي المُلتفة حول عنقها منعني من القفز على قطار الخرطوم، وسألتها “ماما إنتِ بتبكي؟” وأضفت: “من داري”? مِن داري؟ أي : “ما الذي حدث” باللغة النوبية. لكنها أنكرت فيما لُذتُ بالصمت، ليس لأن ردّها أفحمني، ولكن لأني انشغلت بمتابعة حركة المنزل الضاجّة، أخذتني إلى الغرفة الأكثر زينة ووضعتني على السرير المُزدان بالأحمر، وألبستني ثوباً زاهياً، سألتها ببراءة: “الليلة العيد؟” لا زلت أذكر ضحكتها وهي تقول: “حاجة زي كدا”. جرادل العصير الكبيرة كانت ثلاثة، موضوعة بجانب بعضها على طرف الغرفة، جرادل منتصفها أبيض تتوسطه ورود دقيقة بالأخضر والأحمر، خط رهيف أزرق يدنوها ويعلوها، الأغطية حديقة أخرى تغلق على الحلو مر والكركدي والعرديب بإحكام شهي. خبائز متنوعة، و(القواسيب) مفتوحة من أسفل والنساء يغرفن من القمح والبلح بلا حساب، هو العيد لا شك ولكن لعله عيد سرّي أو مفاجئ، حتى أبي لم أره منذ الأمس ولم يودعني حتى أظنه غادر إلى الخرطوم حيث مقر عمله. أو ربما هو عرسي فجميع النساء ينادينني بالعروس وأنا أحظى بمعاملة ورفاهية خاصة لم يسبق لي أن نلتها، هذا غير الفستان الزاهي.
دخلت سيدة من باب المنزل المُحاذي لغرفتي، التي يفصلها عنه “برندة” وساحة (حوش) واسعة مغطاة بالحصى، لم أعلم وقتها لماذا أرتجفت أنا والمصباح بغرفتي، عندما رأيتها من بعيد، الشلوخ على وجهها، بدت من بعيد أكثر طولاً من خشبات الباب المرصوصة رأسياً على امتداده، لكنّ وجهها لا يفتح على بيت دافئ كبيتنا، ثمّة برودة تعبرني منه رغم المسافة البعيدة، وحقيبتها الحديدية في يدها تبدو أثقل من “الجركانات” الأربع المملوءة بماء النيل، بجانب وزني ونحن الخمسة على ظهر (نلو) نسير رأسياً لنصعد القيف. أستطيع أن أرى من مكاني هذا الاحتفاء الكبير الذي اُستقبلت به “فانّة نوري” يبدو عليها الأهمية من مشيتها والزمن الذي تأخذه على التوالي في اتجاهي اليمين والشمال مع كل خطوة، الارتجاج الكبير ليس سبباً مناسباً لتلك الوقفة المحسوبة بين الخطوات. اختفت أمي وأنا مشغولة بمتابعة مظاهر الاستقبال ثم رأيت اثنتين من خالاتي تحيطان بسريري وتمنعانني من النهوض، قالت لي إحداهما وكانت أكثر رقة ولطفا، قالت لي: “خجيجة، خليك قاعدة هنا ما تنزلي حبوبة (فانّة) جاياك أسي وحتديك حلاوة كتيرة”. ها أنا الآن أنتظر حبوبة (فانّة) في مكاني.
دخلت الغرفة، وأغلقت الباب علينا نحن الأربع، انتابتني حالة من الخوف والرهبة خاصة من تلك الحقيبة ونظرات الأعين حولي، شيء ما سيحدث، ليس بالجيّد وليس بالسهل، أعلم أن الحلوى عادة تأتيني كتطييب خاطر وممسحة دموع إذا وقعت أو أصابني ما يؤلم، أو لتخفيف هول الألم، فما الذي سيحدث هنا؟
عقلي الصغير استهلك كل طاقته ليصل لهذا السؤال،أصوات غريبة وحادة انطلقت من خارج الغرفة من بينها صوت أبي، لا أعلم لماذا بكيت لحظتها، صوت أبي بعد الارتجاف والسؤال الأخير أبكاني وصرت أصرخ، وأنا أنادي عليه، أطلقت خالاتي جسدي الصغير وفُتح الباب وانطلق أبي داخلاً إلى الغرفة ليحملني بين ذراعيه وسط صمت تام، وأنا أبكي ولا أعرف لماذا؟
حسناً، بعد عدة أعوام عرفت ماذا يعني الختان، وأن هذه كانت طقوسه، وأن أبي هو المنقذ “نحن لا نرتدي القبعات حتّى نرفعها، إذن فلنرفع عنّا إغماضتنا احتراماً للرجال الذين حاربوا الختان قبل النساء”، كنتُ كمن يهذي بمثل هذه العبارات، حتى غفوت مع نثيث المطر.
* قاصة وشاعرة من السودان